ادب وفن

الكتابة السائلة: مرغريت دورا / مقداد مسعود

ثمة أصابع تشعرك بأمان مطلق حين تتغاصن بأصابعك بتوقيت ساعتك اليدوية..لذا ينتابك قلق حين تتنزه وحدك أو تتنزه معك.. وهنا سيدب وهج تلك الغصون الطرية أو الشموع الوديعة التي من أسمائها الحسنى : الأصابع....
وستكون نزهتك اليومية بطعم برحي البصرة...وحين يتنمل صوتك بالأغاني ستكون الموسيقى أمرأة لاشريك لها في أغانيك..
منذ أوائل سبعينات القرن الماضي.. كنتُ على الرصيف اتمشى في البصرة القديمة، حين لمحتني في الوقت نفسه وأنا على دراجة هوائية قادمٌ من العشار.. حاملا في يساري( موديراتو كانتبيل) روايتها التي ترجمها نهاد التكرلي،ضمن سلسلة كتب وزارة الاعلام..... يومها كنت طالبا في الرابع الاعدادي.. وكان دوامي(عصري).. أستحوذ عليّ ما سوف اعرفه بعد سنوات وأكون وما أزال مريضا به .. أعني بذلك تقنية(الأقتصاد الاسلوبي) كما علمني اياها العابر الاستثنائي محمودنا عبد الوهاب...
موديراتو كانتابيل.. رواية قصيرة آسرة.. تعقبها دراسات وجيزة انيقة عن الرواية ذاتها... يومها أحسست أني تذوقت فاكهة روائية عذراء.. لذا عاودت قراءة الرواية بعد أيام...وحرضتُ عائلتي وأصدقائي على مطالعتها..وهذا التحريض من الامراض التي لم أتخلص منها لحد الآن...أيضا..
وما ان ترجم بعد أكثر من عقد..الناقد فاضل ثامر..رواية (الحديقة) حتى التهمتها في جلسة واحدة...ليس لأنها بحجم موديراتو كانتبايل..بل لطريقة مرغريت دورا في التناول ..
فهي تدعوك للمشاركة في كتابتها عبر تجربتك مع الرهف في تناولك للوجود..ربما هكذا يتصل النص بالميتا نص وتتشظى ذاتي كقارىء منتج في سردانيتها المتجانسة..
في تسعينات القرن الماضي وهو يكتشف مرضي ب..مرغريت دوراس..يهديني وقد عاد من بغداد بعد ساعات يهديني أستاذي محمود عبد الوهاب.. طاب ثراه.. يهديني نسخة مستنسخة من كتابها (الكتابة).. كان ذلك في 1993 أي بعد صدور الكتاب بثلاث سنوات وهنا أكتشفت لذة نصية من طراز آخر فالصديقة هنا تسرد كيفياتها... مايزال ذلك الطيار الانكليزي الشاب..الذي أختتمت به الحرب العالمية الثانية...مايزال الطيارفي طائرته...في ذاكرتي...
وحدها مرغريت من فعلّت مفهوم(الكتابة السائلة).. يبدو انها لا تجيد اللهو بالكلمات ولاتندف مخداتها من السرود أو تخيط ملابسها الداخلية من أمراض الأفتراضي... وها هي تعلن.. (لا يوجد واجب بالنسبة.الى الكاتب هناك الكتابة فقط، التي تدفع برجل أو بأمرأة الى اتخاذ موقف ما تجاه الواقع..)... أي أرتهان لذيذ هذا الواجب؟! وأي تكريس مطلق لربة الكتابة..؟! وأي عزلة مبصرة مؤتلفة يشترط هذا الواجب؟! وكم نسبة مَن يرون صيرورتهم الباذخة وهي تجترح موقفا...تجاه....؟! وأي خسائر وعداوات ونفور سينال الكاتب ..في (مجتمع يمقت الفذ والمتمرد والجريء/ ص78) حسب الشاعر يوسف الخال؟..
مرغريت دورا لم تكتب سيرتها في رواياتها .. دوراس (كتبت ذاتها وجعلت حياتها الشخصية والعائلية موضوعا حيا بأستمرار/ص5 الصين الشمالية) وهي هنا تعيدني الى روايات هنري ميلر.. والأثنان: دوراس/ ميلر.. والكتابتان ليستا سيريتيان..
فالسيرة الذاتية هنا هي النص اللامقروء في النص المقروء في كتاباتهما.. والتساؤل هنا هل الكتابة بتنويعاتها..محاولة أدبية للاجابة على سؤال سقراط ( أعرف نفسك)...؟! وهي تغترف رواياتها من بحر حيواتاتها ولاأقول حيات(ها)...تخاطب قارئها دائما هكذا... (ماهي حقيقتي؟ إن كنت تعرفها فأخبرني بها..)..وكقارىء سأجيبها (ليست هناك حقيقة..بل هناك تأويلات) هكذا علمنا فريدريك نيتشة وهنا تدفعني دوراس للتساؤل..هل الكتابة محاولتنا المستميتة لإيقاف الزمن كما يفعل النص الفوتوغرافي؟..ام الكتابة سيرورة سردانية للزمن النفسي لا تعرف التثاؤب ؟ يقول بودلير ان وظيفة الشعر إستعادة الطفولة...هل هكذا كانت تفعل دوراس كما تعلن في حواراتها الصحفية(دائما يظل هناك شيء من الطفولة) اذن يمكن أعتبار الكتابة : مكان الطفولة؟! المكان الحصين أم الكتابة: حبل غسيل..تتدلى عليه صلباننا الشخصية؟..
لماذا لاتكون الكتابة ذلك الفضاء الأخضر الذي يحرس كلمات زرق لعاشقين.. محتدمين متباغضين ومرتهنين بإتصالية/ تضاد، وحسب مرغريت نفسها..(في الحب،لاتوجد إجازة،الحب يجب أن نعيشه بالكامل،بضجره وتفاصيله، ولا اجازة ممكنة معه..)..