ادب وفن

"الموازن".. مسرحية عن الفكر والمواقف / ريسان الخزعلي

* بعد كتابات عبد الرحمن الشرقاوي المسرحية: (الحسين ثأر الله، الحسين شهيدا)، ومسرحية الشاعر الراحل محمد علي الخفاجي: (ثانية يجيء الحسين)، وكذلك مسرحية: (الحر الرياحي) للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، لم نقرأ عملا مسرحيا جديدا شعرا كان أو نثرا (على حد اطلاعنا) يوازي هذه الأعمال التي كتبت برؤى وتمثلات متنوعة تعكس تفاعل مؤلفيها مع قضية الحسين (ع)، تلك القضية التي تجاوزت الفهم الديني لما هو أكبر، لما هو يقين وموقف حرية وعدالة وانتصار للمظلومين، حتى تمثل هذه القضية كبار الكتاب والمؤلفين وكتبوا فيها وعنها الكثير، لما تحمله من أصالة وتأصيل لمعنى الحياة الكريمة.
اليوم يطالعنا القاص والروائي (شوقي كريم حسن) بعمل مسرحي جديد بكل التوصيفات الفنية والجمالية والتمثيلية، ونعني بهذا العمل مسرحيته (الموازن) التي التقطت شخصية العباس بن علي (ع) من قضية الحسين (ع) كصورة للمواقف الفكرية التي تضاف لمواقف البطولة والشجاعة والتضحية، وقد استطاع المؤلف نتيجة تجربته الطويلة في السرد القصصي والروائي والمسرحي والبرامجي أن يمنحها ما يميزها على غيرها، حيث زاوية النظر الفكرية، وتحديد الشخوص والأصوات، وكذلك اللغة الحوارية التي تكتظ بالشعري، وبالنثر الشعري على حد سواء.
* تتشكل المسرحية من (11) فصلا، اسماها (صورا) بدلا من الفصول (الصورة الأولى، الصورة الثانية،.. الصورة الحادية عشرة) وكان في هذه التسمية دال على وقع الصورة في المخيال والتخيل، أما الشخوص والأصوات فقد كانت على نحو يجعل تنامي الفعل الدرامي تدريجيا وبوقفات مستقلة، غير أن بعضها يفضي إلى البعض الآخر بحبكة درامية تتناسب مع دلالة العدد (11)، حيث الليالي العشر والليلة الحادية عشرة، ليلة (الوحشة) في التوصيف الديني التاريخي، وحتى الشخوص والأصوات حملت هي الأخرى، العدد (11)، وسواء كان ذلك قد تم بتخطيط أو انعكاس لا شعوري، فأنه قد جاء بالدال والمدلول:
الحسين بن علي، العباس بن علي، جعفر بن علي، شمر بن ذي الجوشن، الحارث الكلابي، جبلة الكلابي، الصوت الأول، الصوت الثاني، الهالة، اصوات متعددة من خارج المسرح.
* تقوم فكرة المسرحية على سؤال جوهري مفترض، ماذا لو تمت استمالة العباس بن علي (ع) إلى موقف يزيد من خلال المفاوضين (الحارث، جبلة) ومن ثم (الشمر)..؟! (منذ سنوات ليست بالقليلة، والحضور المدهش في أعماقي لشخصية الإمام العباس بن علي (ع) يجعلني أفكر جادا في ورطة السؤال الذي أوقعت نفسي في دائرة اضطرابه، كنت أحاول إبعاد هذه الشخصية الممتحنة عن كل مؤثرات الطف ولحظات الحسم.. ماذا لو استجاب الإمام إلى تلك النداءات التي كانت تلاحقه وتحت ضغط صلات الرحم والخؤولة وما اليه وانسحب من ساحة المواجهة والحسم؟! ترى كيف يمكن أن نتصور الأمر ونتلقاه.. هل يبدو هذا التراجع العلوي في لحظة كهذه معقولا؟).
* إن حالة (الاضطراب) التي يشير إليها المؤلف في تساؤله هذا، هي جوهر توليد الدرامي في عمله (الموازن)، ولا فعل درامياً دون اضطراب وأسئلة هازة للتصور والقناعة، أسئلة من خارج تلك المألوفة، هي التي تقود إلى البحث في الوجود، أسبابه ونتائجه، ورغم أن المؤلف يعرف الإجابة مسبقا عن موقف العباس (ع) كواقع تاريخي محسوم، ضمن سياق واقعة الطف، إلا أن (الاضطراب) النفسي وافتراضية السؤال، كانا عاملين حاسمين في التوليد، ولولاهما لما كانت ضرورة لهذا العمل المسرحي، ولهذا ابتدأ من الافتراض وصولا الى حقيقة ما حصل فعلا، وليس من (ما حصل الى ما حصل) وفي هذه الحالة يكون العمل تقليديا في سرده الواقعة، وبذلك يصح القول بان هذا العمل يعتبر جديدا ومغايرا لما سبقه، حيث ان الكتابات السابقة تتمثل التسلسل التاريخي كما هو، دون المغايرة أو إثارة أسئلة تضمر الشك حتى وان كان لا يقينيا، من اجمل الصناعة الفنية الجديدة التي نحتاجها باستمرار بعيدا عن التوازيات والتماثلات المتشابهة كليا مع تاريخية الواقعة، لان الفن يبحث في (الماوراء) والمخفي واللامدرك ولا يقدم تسليات جاهزة ومعروفة ويصبح فوتوغرافي الأثر باستمرار.
* ان الحوارات في المسرحية كانت تصنع ما هو فكري أساسا في التحاور، حتى في حوارات الشخصيات المضطربة القلقة (الحارث، جبلة، الشمر) رغم تباين نسبة القلق والاضطراب بينها (حيث وثوقية جبلة الأكثر تفكرا ومعرفة)، ولو سطح المؤلف حوارات هذه الشخصيات لأفضت المسرحية الى غير ما أفضت إليه من تماسك ومناظرة قد تبدو متكافئة، تناسبا مع القناعة او شبه القناعة المفروضة او المتجذرة، وبذلك تحقق توازن فكري في الجدل يفترضه التوازن الفني، وبما ان (الحسين، العباس، جعفر، زينب) جميعهم يمتلكون التوازن الفكري أساسا، الا أن توازن الشخصيات القلقة، توازن حيلة ورداء، افترضته المسرحية، لا لتجميل موقفهم، وإنما لتأصيل فكرهم الضدي المتأرجح:
- الحارث: جبلة ما الضير من غنيمة لقاء مهمة؟
- جبلة: بئس الغنيمة وبئس المهمة.. دعنا نرجع..؟!!
- الحارث: دائما اراك تكرر هذا.. خطوة الإمام لا ترتد جبلة؟!!
- جبلة: السؤال الذي يراود روحي ويلح علي بالإجابة.. لماذا ولصالح من نعمل تلك الخطايا..؟!!
- الحارث: ما الذي تريد الوصول إليه؟
- جبلة: يا حارث.. الإنسان خطيئة.. وتزداد خطيئته ان هو رأى ما يوجب السؤال واختار الصمت!!
- الحارث: في هذا تتأرجح بين حسين وابن زياد.. تبدو غير جبلة الذي اعرف!!
- جبلة: بل انا الآن اشد وضوحاً واقرب الى الاجابة.. قيم ومال.. فراديس هناك.. وزيف واكاذيب هنا.. ما لنا وكل هذا الزيف.. حارث، الكوفة محزونة.. وهي تئن من وجع الغدر!
----
- العباس: للسيف حكمة وقول في لحظات يحتاجها المرء.
- شمر: لا أظن انك تحتاجها معي وانت تعرف من اكون!!
- العباس: اعرف من تكون.. هذا قول حق.. اما الاحتياج فلا بد انه آت..
- شمر: لهذا جئتك يا ابن اخت.
- العباس: الاحتياج أم قول الحق؟
- شمر: كلاهما.. كلاهما يا ابن علي!
- العباس: الحق يا شمر.. معاني ذابت في لب الحقيقة ولا يحتاج الى احتياج!!
- شمر: لا.. لا يا ابن علي.. كل ما بين ايدينا وفي طيات كواتمنا يحتاج إلى توضيح وإشارة وفض معنى.. الابهام يعمي البصيرة.. وما اعرفه عنك غير ذلك..؟

*.. كان الايقاع الشعري يلون الحوارات، ويمنحها وقعاً مؤثراً، ورغم ان لغة المسرحية يلفها الحس الشعري عموماً، إلا ان الشعري يتركز في الحوارات التي تتمتع بدرامية أكثر من غيرها، وربما يأتي ذلك لا شعورياً او شعورياً، كون الايقاع الشعري ارتبط بادبيات الواقعة وقد استثمر المؤلف هذه الانتباهة، كما ان وقع المسرحيات الشعرية، لا بد ان يأخذ تأثيره الخفي، ليس في هذه المسرحية فحسب، وانما في اعمال اخرى:
* الليل يهاجر في خوف الصغار،..
وانتظارات سيف لا يعرف غير الاثام..
وجوه تريد العودة الى فكر البدء..!!
كما ينبت حلم، تزداد كراهيات العروش..،
وتتناثر آثامها..
كلهم سيأتون دونما رايات وكتاب..!!
...،
لا تهرب من حلم معلوم..
وارواح تمسك رسغ مباهجها..!
...،
لا تبحث عن ماء لا جدوى منه..،
(فالنهر) قتيل بسيوف الخوف..!
*- وهكذا عندما أراد المؤلف ان يشير الى حادثة النهر/ الفرات، وهو من المواقف الدرامية عالية الصوت، جاءت ضرورات الإيقاع الشعري، ورنينه الذي يرتبط بالذاكرة كثيراً، الى المناخ الاول/ الايقاع المتماهي باستمرار مع استحضار الواقعة..

(6)

*.. مسرحية/ الموازن/..، مسرحية الاضطراب النفسي الآني، والسؤال الافتراضي، الذي جدد الطريق الى اكتشاف إجابات الفكر والموقف بعيداً عن صورة الدم ومأساوية الواقع، ورغم هذه التوصيفات الحقيقية، وبذلك كانت عملاً يغاير ما سبقه، لأنه بحث في المعنى درامياً.. (تلك هي اللحظة التي اقتنصها وأنا مغمور بالخوف، لاني ارسم ازمنة وتواريخ هي العنوان العريض لمعاني الحياة بكاملها).