ادب وفن

الفلكلور العراقي في "شجرة الاسماء" / عدنان منشد

على مدار رحلته القصصية الطويلة والمريرة، كانت قامة محمد خضير القصصية الباذخة تسمو وتتصاعد متوجة ظلها على مساحات مكتنزة من الفضاء السردي العربي المعاصر، وهو يسعى بدأب وجهد خلاق الى تحقيق انموذج فذ، متفرد، للرصانة والتجريب والمغايرة والاكتمال.
في مجموعته "شجرة الاسماء" سفر قصصي وثائقي رؤيوي، يجيء في مسار اصدارات سردية متنوعة، بدأ اولها في "المملكة السوداء" عام 1972، ثم اتى بعدها "في درجة 45 مئوي" و "بصرياثا" و "ذيول الخريف" و "كراسة كانون" والعديد من الطروحات والتنظيرات في عوالم السرد، فضلا عن قصص حديثة وأولية رائدة مثال "البجعات" و "ظهيرة القرطة" و "باصورا" و "وجوه" لم تجمع بين دفتي كتاب حتى اليوم، مع سرود اخرى، لا ندري لماذا اسقطها محمد خضير من سجل اعماله السردية المبهرة.
"شجرة الاسماء" هو السفر المعلن الجديد لهذا القاص العراقي المعاصر، وهو يستدعي اسماء واحداث ووقائع من تاريخنا المحلي الحديث، ضمن انساق السيرة والشعر والمأساة، او الواقع الذي ارتقى الى اسطورة، والمتعين الذي اصبح رمزاً، والتقييم الذي يراه محمد خضير لنفر من عصرنا الجمهوري، واحياءً لهذا العصر تناسينا سلوكهالدموي وقسماته واحداثه ضمن قواسم المكان والتاريخ والابداع والشوارد التائهة في الفلكلور العراقي.
قصص هذه المجموعة الستة ذات طابع مزدوج، اي بمتنين سرديين منفصلين، لا تغيب فيهما القواسم المشتركة المذكورة. ولكنك ايها القارئ الحصيف كأنما تميط اللثام عن نص مركب واحد، لا ارضا او مساحة مجزأة امضى القاص فيهما عمره الزمني، يرفوها بالسرود المتعددة شلواً شلواً، حينما يخيط ويرتق فتوقاً سحيقة فيها، خصوصاً في قصته الاولى التي توثق صورة الجنرال "مود" في احتلال بغداد عند باب الميدان، كأنها الصورة الفوتوغرافية ذاتها في احتلال البصرة الذي جرى قبل ثلاثة اعوام خلث، وكأنها ايضا تجمع بين لهيب الجياد المطهمة للانكليز، وبين صوت الطير الصحراوي ودخوله بين حارات وازقة العراقيين.
محمد خضير القاص الراوي والرائي والحكاء المترع حتى الثمالة، لا يكتفي في قصة ثانية بوضع سيرة الشاعر الزهاوي الذي تماهى معه ضمن صورة الاخير الشهيرة على كرسي خشبي بزيه التركي العتيق واغفاءة عراقية تدعو الى القيلولة ضمن مكان مكشوف، بل هو يضع سيرة لمملكة العراق السابقة، حتى تمتزج السيرتان، الاسطورتان، وهما تمنحان سحرهما وغرابتهما لابداع محمد خضير، مصور القصتين، وناسخ المتنين القصصين، ومبدع الآيتين.
ولعل الامر يتكرر ويتناسخ في بقية القصص الاخرى، حيث المعلم السياسي المبعد في اعماق الاهوار، وحيث المناشير والاذاعات السرية ديدنه ولسان حاله. او العاهرة التي تعيش تحت سحر الغموض، او في مواجهة شواطئ باب الستر والخديعة، او اولئك الناس الذين لا يميزون بين سحر البلاد او طامة العباد. ضمن قصص غائمة بالصور والحوار والشجن الشعري، وذكريات كانت الحياة فيها طريقا الى القتل او الحريق، بالمراق من الدم، أو بالمنتهى وهو يبدأ.
محمد خضير اخيراً، ذروة السردية في العراق والعالم العربي، يفسح لنا من خلال صفحات ووجوه من شجرة الاسماء اطلالة واسعة لعمق التراث العراقي، بالشم واللمس والهمس، وهي حواسنا الشعبية التي لم تكتمل ولم تكشف عن حقيقتها الكلية الا في "شجرة الاسماء" الحافلة بالورد واليانسون والكمون والمستثار من الخضرة العارمة.