- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الأحد, 30 تموز/يوليو 2017 21:14
جمال العتابي وحميد البصري وشاكر الانباري
في استذكارات ومواقف عن الجواهري، ومنه
هل لنا ان نتساءل مشتركين، قبل البدء، هل نحن في مناسبة رثاء؟ .. ام انها استذكار لخالد لم يرحل؟... هل رحل ، حقاً، محمد مهدي الجواهري (1898-1997) ؟! وهو القائل:
أكبرت ُ يومكَ ان يكونَ رثاءَ، الخالدون عرفتهم احياءَ؟
- وإذا ما كانت ملحمة - اسطورة كلكامش، السومرية الغارقة في العراقة، وحتى اربعة الاف عام، قد تحدثت عن الخلود والموت، ذلكم هو الجواهري يجسد الامر حداثياً، وواقعياً، فراح يَخلـدُ، وإن رحلَ، وعن طريق اخرى، هي الفكر والشعر والابداع..
- أما صدحَ - ويصدحُ شعره - كل يوم في قلوب وأذهان كل المتنورين، العارفين دروبهم ومسالك حياتهم ؟.
- أما برحت الاطاريح الاكاديمية، فضلا عن الدراسات والكتابات، والفعاليات الثقافية والفكرية تترى للغور في عوالم شاعر الامتين، ومنجزه الثري؟! .
- الظلاميون ومؤسساتهم، وأفرادهم، وتوابعهم، المتطوعون منهم أو المكلفون ، وحدهم - لا غيرهم - ما فتئوا يسعون، لأطباق صمت مريب عن الجواهري، وحوله، ولا عتاب بشأن ذلك، فلهم كل الحق في ما يفعلون، فالضدان لا يجتمعان : تنوير ومواقف الشاعر الخالد، ودواكن الافكار والمفاهيم ...
... في التالي مجموعة مساهمات - ننشرها على حلقات - تفضل بها على "مركز الجواهري للثقافة والتوثيق" مبدعون ومثقفون وكتاب وأكاديميون، بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لرحيل الجواهري الخالد، والتي تصادف في 2017.7.27... وهنا الحلقة الرابعة لما كتبه الذوات الأجلاء، مع حفظ الالقاب والمواقع: د.جمال العتابي. د.حميد البصري. أ.شاكر الانباري
* حضور الجواهري في جامع براثا / جمال العتابي (*)
في تسعينيات القرن الماضي ، يتفتح لهب تموز والحزن في بغداد ، وتغزو العراق أرتال من الجوع ، يقودها عرّابو الحصار من خوف إلى خوف ، لانتذكر كم مرّ علينا وقت يوم غادرتنا الأحلام ، إذ توهمنا أنها لن تغادرنا ، سرقتها الحروب ، حتى أحلام الطفولة مقموعة هي الأخرى ، الحصارات رمت البشر بالفقر والعاهات ، وضيعت الدكتاتورية الوطن ، فضعنا معه .
لكننا كنا نريد أن نحيى ، لانريد أن يكون دمنا حطباً في تنور الإستبداد ، كنا نقاوم عطشنا، من أجل نهار وضيء ، الروح مكبّلة تبحث عن غيثها من دمع العيون ، نبتكر مناسباتنا من وحشة الموت البطيء ، موت الأصدقاء يتحول إلى نافذة للقاء في قيظ العراق ، كانت مراسم عزاء اؤلئك الأحبة شراكة في الحب والحزن والأمنيات ، وتحدياً من نوع آخر للسلطة ، شكلاً بديلاً لإستفزازها ومواجهة مضمرة للإدانة والرفض ، فتحولت إلى ظاهرة دون إطارات فكرية محددة ، تصنعها الجماعة بكل عناياتها العقلية .
هكذا كانت مراسم ( عزاء ) الجواهري الكبير في جامع براثا ، في تموز من عام 1997 ، لم يكن عزاءً ، فما زلت أعيش تلك اللحظات والأيام التي تلقينا فيها نبأ وفاة الجواهري ، الخبر بالنسبة لنا أشبه بالمتنفس من ضغوط النظام ، لم يكن الحدث بمعنى الغياب ، بل كان بحثاً عن لغة تعبير جديدة ، في مرحلة تاريخية عاصفة من تاريخ العراق ..
كانت الوفود والجموع تتوافد على جامع براثا في العطيفية في تلك الأماسي التموزية اللاهبة ، غير آبهة بحقول الألغام التي زرعتها أجهزة الأمن ومخابرات النظام ، تترصد القادمين والمغادرين . تلك اللحظة التذكارية في إطارها الزمني ، كانت قضية كبرى ، ويمكن لدارس هذه المرحلة أن يتلمس المتغيرات الروحية والنفسية التي طرأت على الذات العراقية ، فرحيل الجواهري أحدث تحولاً عميقاً في الضمير الجمعي الثقافي والوطني والإنساني ، وكان مفاجأة للنظام ، بما لم يتوقعه من حضور،بمختلف الأعمار والمستويات ، فأربك أجهزته وأثار قلقها .
كنت أتخيل الجواهري ، حاضراً ، واقفاً وسط القاعة ، مستقبلاً الوافدين معزياً إياهم بوفاة العراق وهو ينشد : وأركب الهول في ريعانِ مأمنةٍ حب الحياة بحب الموت يُغريني وكأن الجواهري بشموخه ، يحاور تلك الوجوه التعبى ، بعد طول فراق يحتفي بهم : لاتخافوا الجراح يا أهلي ، دعوها تحتضر ، فأنا فتاكم ، حتى وإن طوى الثرى جسدي : أنا ابن ( كوفتِك الحمراءِ) لي طُنُبٌ بها ، وإن طاح من أركانه عَمَدُ ترى من هو الذاهب إلى هناك ؟ ومن هو القادم من هناك ؟. ------------------------- (*) اكاديمي وكاتب
* الحان لعديد من قصائد الجواهري / حميد البصري(*)
لم يكن من السهل أن أتكلم عن شخص يتربع على عرش اعلى قمة ادبية في الوطن العربي، الا وهو شاعر العرب الكبير الراحل الخالد محمد مهدي الجواهري . لكنني استعرض هنا علاقتي معه ومع اشعاره .
كوني ملحنا لمؤلفات شعراء عديدين، كنت محجما عن تلحين شعر الجواهري لفترة طويلة، لا لشيء الا لقلقي وخوفي من ان يكون اللحن ادنى من مستوى الشعر . لكنني تجرأت في البداية الى استخدام احدى قصائده في المقام العراقي، كون ذلك مرتبطا بأصول لحن المقام وانتقالاته الموسيقية ... فاستخدمت قصيدة ( سر في جهادك ( في مقام البهيرزاوي وغنته الفنانة شوقية العطار مع فرقة موسيقية يمنية :
سر في جهادك فالجهاد مفازة، يهدي الضليل بها وينجده الدمُ
واصمد يطاوعك القضاء وحكمه،همم الرجال هي القضاء المبرم ....
عندما زار الجواهري عدن (اوائل الثمانينات الماضي) جمعتنا وبعض الاصدقاء جلسة معه .. اسمعته نماذج من انتاجاتنا وسألته عن امكانية تلحين بعضا من اشعاره، رحب بذلك وسجل لي بصوته ( شوقا دمشق ) و ( دجلة الخير ) ولازلت احتفظ بالتسجيل . كان ذلك دافعا قويا لي لتلحين اشعاره . وهكذا لحنت له قصيدة (شوقا دمشق ) :
وشوقا يا دمشق هو الضرامُ، ضميءٌ لا يُبل لها أوامُ
وعشق دبّ في جسد وروح، رضيع دم فليس له انفصام
اذا رمتُ السلوّ تخطفتني، طيوفٌ لا يشق لها زحام...
ثم استخدمت قصيدة يا دجلة الخير في مقام الراست . ولتنوع التعبير اللحني لآجزاء هذا المقام، اخترت الأبيات ذات المضمون المناسب لذلك :
حييت سفحك عن بعد فحييني، يا دجلة الخير يا أم البساتينِ
حييت سفحك ظمآنا الوذ به، لوذ الحمائم بين الماء والطين
إني وردت عيون الماء صافية، نبعا فنبعا، فما كانت لترويني
يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا، حتى لأدنى طماح غير مضمون..
زرت الجواهري مرة، انا والفنانة شوقية العطار، في بيته بدمشق واسمعناه اغانينا، فرح بنا كثيرا واتصل بابنته، التي كانت في اوربا، ليبلغها عن سعادته بوجودنا في بيته .. وبعد فترة زمنية لاحقة، لحنت قصيدة( سلام) ومن ابياتها :
سلام على حاقد ثائرِ، على لاحب من دم سائرِ
يخب ويعلم أن الطريق لابد مفض الى آخر
كأن بقايا دم السابقين ماضِ يبشّر بالحاضرِ ....
لقد كانت تلك أفضل ما لحنته من أغانٍ في حياتي . -------(*) اكاديمي وموسيقار
*
شعريته ابنة التاريخ الحديث للعراق / شاكر الانباري (*)
مع احتدام الصراع السياسي بين اليسار والسلطة وحزبها خلال حقبة السبعينيات، وتفاقم القمع، ومصادرة حرية الرأي، كان الجيل الذي أنتمي إليه، وقد تفتح توا على الثقافة، وفضاء السياسة، راح يبحث عن رموز أدبية وشعرية تحلم بمستقبل آخر للعراقيين، فيستحضر الجواهري كثيرا، خلال الجلسات الحميمة بين الأصدقاء.
لقد كنا نتطلع إلى ثورة شاملة، تقضي على الظلم، وترسم أفقا مشرقا للشعب، حينها نتمثل بقصيدة الجواهري الكبير: أطبق دجى أطبق ضباب/ أطبق جهاما يا سحاب. لم يعرفوا لون السماء/ لفرط ما انحنت الرقاب. نتغنى بها غضبا، وغيظا، وأسفا على انحدار القيم النضالية والخنوع الذي حكم الشارع نتيجة الخوف والقبضة الحديدية للسلطة. ونردفها أيضا بقصيدته التي يقول فيها: أتعلم أم أنت لا تعلم/ بأن جراح الضحايا فم. فم ليس كالمدعي قولة/ وليس كآخر يسترحم. وهي من قصيدته أخي جعفر.
وقصائد الجواهري الوطنية ظلت لصيقة بما كان يمور في أحشاء الشارع العراقي طوال قرن من الزمان، وتحمل رنينا عاليا يستدعي المواجهة والنهوض، ولعل الشعر العربي منذ المتنبي، لم يقدم شاعرا عموديا بهذه النبرة المتمردة، الحاملة لراية الثورة، والطالعة من رحم ما كان يجري، حتى أطل الجواهري بقصائده المتينة، وريثة الفخامة الشعرية الماضية، وفي الآن ذاته ابنة التاريخ الحديث الذي كان الشعب العراقي يصنعه من خلال مواجهاته اليومية مع الاحتلال، أو السلطات الغاشمة المتعاقبة منذ نشوء الدولة العراقية.
ومع التحولات العميقة في الشعر العربي، وقد أخذته باتجاه القصيدة الحرة، والشعر المنثور، يمكن الجزم بأن الجواهري كان القمة التي لم يصلها أحد بعده في النمط الشعري العمودي، وقد بلغ الحنين في بعض قصائده درجة عالية من الفجيعة والاغتراب، خاصة تلك التي كتبها وهو بعيد عن البلد الذي أحبه، العراق الغارق في عسفه على الأحرار، المتمادي في صراعاته الداخلية، المتنكر أغلب الأحيان لأبنائه ومحبيه، فكان لبعض تلك القصائد أصداء تترجّع ايقاعاتها في روح معظم العراقيين ممن عاشوا الغربة خارج الوطن، وما أكثرهم.
دأب ملايين العراقيين على التغني في ظلمة الليل، ليل الغربة والبعاد، بقصيدته البالغة الألم والحنين حين يقول: حييت سفحك عن بعد فحييني/ يا دجلة الخير يا أم البساتيني. حييت سفحك ظمآنا ألوذ به/ لوذ الحمائم بين الماء والطين. يا دجلة الخير يا نبعا أفارقه/ على الكراهة بين الحين والحين. وهي من رائعته يا دجلة الخير.
لقد كان الجواهري طوال حياته المديدة ابنا للعراق كله، ينطق بفم الجميع، متساميا، بوعي الرائي، على حواجز القوميات والطوائف والمناطق، كما لو كان صورة حية للنهرين الخالدين: دجلة والفرات.------------------ (*) روائي وكاتب