- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الثلاثاء, 01 آب/أغسطس 2017 19:03
بعد "عشاق نجمة"، تعود الروائية الفلسطينية سلوى البنا في روايتها الجديدة "ست الحسن في ليلتها الأخيرة" الصادرة عن دار الفارابي 2017، إلى أسطرة الأنثى في شخصية روائية تكون محور الرواية وبطلتها ورمزها الذي تسعى إلى تقديمه بنبله وسموه كونه يمثل قضية شعب.
"ست الحسن" هي وردة، الصبية الشامية المضمخة بعبير الياسمين، التي تجور عليها الحرب فتفقدها حبيبها "حسن" الجندي الذي يقاتل من أجل شرف الوطن، في ليلة عرسها، وتقع بين يدي مقاتل ملتح يتوه بينها وبين حوريات الجنة لجمالها الخرافي، فيتملكها الخوف والرعب من مصير سابقاتها ممن وقعن في أيدي العديد من المسلحين الرافعين لرايات متنوعة، واغتصابهن أو أخذهن سبايا كالإيزيديات على أيدي داعش، يقدمها الملتحي إلى الشيخ فواز، شيخ القبيلة، بل يبيعها له مقابل ثمن كبير، بعد أن استولى عليه سحرها وسماها "ست الحسن".
من هنا تبدأ الحكاية التي تبدو بسيطة، وليست الرواية، فالشيخ فواز الماجن المتهتك الشره الشبق الشرس الحاقد المصاب بعقدة الدونية هو ابن سفاح للشيخ مقبل زعيم القبيلة السابق من جاريته الإثيوبية "ليليانا"، يتملكه إحساس بأنه "مجرد هجين لثمرة محرمة اسمها ليليانا"، لم تفارقه صورة أمه المحترقة بعد هجرها من قبل "مقبل" متروكة تتوسل النشوة، ومن يحيطون به كعبيد وخدم لا يأمن لهم لأنه يعرف ماضيه وماضي والده قبله، فزواجه من مزيونة كان تاليًا لنزوة شبقة، وهي ابنة شيخ قبيلة وجعلته شيخ قبيلة، لكنها دميمة فتركها مهجورة متهتكة على أعتاب الشهوة أيضًا، من حاشيته أيضًا حجل ابن الجارية اليمنية التي انتهكها الشيخ مقبل أيضًا ثم ألقى بها في البئر، وميمون العبد الذي قطع الشيخ مقبل رأس حبيبته سيلينا أمام عينيه، ثم أجبره على الفاحشة معه، وأمر طبيب القصر بأن يخصيه بلا رحمة كما تخصى الثيران، الطبيب العجوز الذي يأمره الشيخ فواز بقتل والده الشيخ مقبل وإلا خسر حياته، وعندما ينفذ ويدس له السم في الدواء يقتله فواز. لم يستطع فواز أن يدخل بست الحسن، كل محاولاته الماجنة وحركاته الفاحشة كانت تنتهي بالفشل العنين، فيزداد جبروته ويلهث ليعرف سرّ "ست الحسن" إلى أن يُقتل ويلقى القبض على وردة "ست الحسن" بتهمة قتله، لتبدأ المحاكمة واستدعاء الشهود.
يفتتح كبير القضاة جلسة المحاكمة بعبارة: في مثل هذا اليوم الواقع في الحادي والثلاثين من شهر شباط سنة 2016، عقدت الجلسة الأولى للبت في قضية المتهمة "ست الحسن". فتقدح الشرارة الأولى التي تشير إلى نص فانتازي تتبع خلاله الكاتبة استراتيجية اللا تعيين، والإشارات التي من خلالها توحي بأن زمن القص هو زمن الربيع العربي، وأحداثه تتراوح بين جغرافيتين، سورية من جهة وأخرى صحراوية قبلية تسودها حياة البداوة من دون أن تلمح إلى بلد بعينه.
تُحكى الحكاية على لسان راويين، الراوي الشاهد على الأحداث العالم بدواخل الشخصيات أحيانًا، ووردة التي تنساب تداعياتها بلغة شعرية عالية، فنعرف قصة وردة التي أحبت حسن وأحبها وتعاهدا على ألاّ تكون إلاّ له، وأن حسن المهندس الذي أنهى دراسته الجامعية طُلب إلى الخدمة العسكرية ليلبي نداء الواجب في حرب لا تشبه الحروب التي خاضها "نور" والدها بالتبني، الضابط المتقاعد الذي تلمح الرواية أيضًا إلى أنه خاض حرب تشرين/ أكتوبر 1973: "لن تنسى شهلا ذلك الصباح التشريني الذي ودعها فيه لينزرع في الجبهة جنديًا صغيرًا في دبابة تعتلي قمة هضبة الجولان".
وإذا كانت الرواية تبدأ في لحظة المحاكمة التي تقبع فيها وردة في قفص الاتهام، فإن زمنها يتقافز بين هذه اللحظة اللا متعينة، وبين ما سبقها من أحداث وقعت أثناء أسر وردة "ست الحسن" والتي من خلالها تعرض الرواية حياة صحراوية يعمرها العنف والقتل والفسق والفجور والشبق النهم لدى شيوخ القبيلة، يقابلها الظلم الأسود الذي يمارس على العوام الذين ليسوا أكثر من خدم وعبيد لديهم، والزمن الشامي الذي تنمو خلاله علاقة الحب بين وردة وحسن، ثم تبدأ التظاهرات التي توصل البلاد إلى هذه الحرب التي تلمّح الكاتبة الفلسطينية إلى عبثيتها، وربما لا يغفل القارئ عن موقفها منها، فهي إذ تدير الصراع بين تلك البيئتين، بيئة الصحراء والبداوة، والبيئة الشامية العريقة صاحبة التراث والماضي، لا يخفى انحيازها إلى الشام وإلى شخصيات الرواية الشامية، لذلك يمكن أن نفهم ما يعني نور بقوله عن التظاهرات: "هي العاصفة التي ستأكل الأخضر واليابس"، وتتساءل شهلا: "كيف لتظاهرات شعبية أن تتحول إلى خنجر في قلب الوطن".
وإذا كان لاستراتيجية عدم التعيين أن تطمح إلى عرض حكاية وردة وحسن بعيدًا عن الاصطفافات الصريحة أو إشهار موقف، فإن الإحالات والتلميحات كانت كافية ليقول النص إن سورية تتعرض إلى مؤامرة، وأن وردة التي ترمز إلى الشام هي المستهدفة في المؤامرة وهي التي يفتتن بسحرها كل من يراها، ولن يستعيد فواز رجولته المقموعة وإحساسه بالانمساخ إلا إذا نالها، ووردة لن تكون إلاّ لحسن الجندي الذي يستشهد وهو يلبي نداء الوطن، "حسن الذي يمثل الجيش السوري"، وإن هناك محطات إعلامية مغرضة كانت ضليعة بالمؤامرة: "هذه المحطة اللعينة اخفيها، امسحيها، لا أريد مشاهدتها بعد اليوم" كما قال نور لزوجته شهلا.
فالمحكمة التي يبدأ السرد بها هي محكمة غرائبية، تجري المحاكمة بطريقة فانتازية، بأسلوب مسرحي، بينما وردة تقبع في القفص تبهر الناظرين ويطغى سحرها على هيئة المحكمة وعلى الحضور، يصور السرد القضاة كشخصيات هزلية مرتبكة يسعى كبير القضاة إلى السيطرة على الحضور بالقمع وذلك باحتجازهم في القفص كلما اعترضوا أو تساءلوا، يسعى إلى كم أفواههم، بينما يدعي أنه يمثل العدالة ويطلب من وردة الاعتراف بأنها قتلت سيدها الشيخ فواز، وتبلغ السخرية من القضاة حدا يسأل كبير القضاة وردة: "أخبريني إن كان الشيخ فواز قضى شهوته قبل أو بعد أن قتلته".
وتنتهي مسرحية المحاكمة الغرائبية بصورة ملحمية، إذ يستدعى الشهود جميعهم من المظلومين الأحياء والذين قضوا قتلاً على يد فواز أو والده مقبل قبله، حتى القابلة حليمة التي ترمز إلى التاريخ، والجنية عفرين التي تؤكد أزلية وردة "الشام"، وكل شخصية تريد ان تستأثر بشرف قتل فواز انتقامًا لعمر من الإذلال والقهر وهدر الحياة والكرامة، وإذا كانت الفصول السابقة قد وسمت بسرد الفجور والتهتك والسلوك المبتذل الفاحش، فإن مشهد المحاكمة والشهود رسم كما لو أنه حكاية من ألف ليلة وليلة، بكل ما فيه من سوريالية وغرائبية.
ويتبين أخيرًا أن كل الحكاية المفزعة الموجعة ليست إلا كابوسًا ناجمًا عن حمى تنتاب وردة، وهذا ما يحيلنا إلى الأسلوب الذي بنيت الرواية عليه بطريقة غرائبية فيها الكثير من الفانتازيا، تبدو كأنها إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، بأسلوبها وسورياليتها وفحشها الذي عرفت الكاتبة كيف توظفه في النص لترسم تلك الشخصيات الهمجية التي لا تعرف شيئًا عن المدنية المتمثلة بوردة، الشخصيات المصابة بعقدة الدونية من أصالتها وعطرها وياسمينها، فتسعى إلى امتلاكها ولو اغتصابًا، وبتكرار الاستشهاد بالرواة، كما قال الراوي، أو كما صور لنا الرواة، وكأن الحكاية صارت في زمن مضى ويعاد تمثيلها الآن.