- التفاصيل
-
نشر بتاريخ السبت, 05 آب/أغسطس 2017 19:51
منذ صدور مجموعته القصصية الاولى "الرغبة في وقت متأخر" وتعرفي عليه اول مرة، كان هذا في سبعينات القرن الماضي - كنت في الصف الثاني المتوسط - ثانوية قتيبة - ويشاركني الرحلة نفسها القاص فاضل الربيعي، ونحن في بداية اهتماماتنا بالقراءة ينافس أحدنا الأخر في القراءة وقد نتبادل ما نقرأ، لم نكن قد تخلصنا بعد من نشوة قراءتنا الأولى لقصة الأرجوحة للمبدع محمد خضير التي نشرت في مجلة الآداب البيروتية، كتبت بخجل محاولاتي القصصية الاولى والتي لم تتعد مجموعة من الخواطر النثرية الممتزجة بأحلامي الكبيرة على أمل أن تنشر يوما ما وهي ممهورة باسمي، كان فاضل قد سبقني في نشر قصصه في مجلة المتفرج التي كان يرأس صفحتها المعنية بأدب الشباب الشاعر قيس لفته مراد، وفي بعض الصحف، انصب اهتمامي، حالي حال أقراني على قراءة الادب العالمي المترجم ووقعت في فخ دستويفسكي وهيجو وبلزاك ومورافيا والكثير من أعلام الادب العربي، يومها كان نجيب محفوظ واحسان عبد القدوس يهيمنان على عقول الملايين، حتى اللحظة التي وقعت بين يدي مجموعة عبد الستار ناصر "الرغبة في وقت متأخر"، قرأتها بشغف ربما أكثر من مرة، لم أشعر بالملل أبدا وأنا أعيد قراءتها المرة تلو الاخرى، وكنت أضع خطوطا تحت السطور وأكتب ملاحظاتي على الصفحة نفسها ، وتجمعت لدي الكثير من الملاحظات والهوامش التي حفزتني على أن أكتبها كرأي في المجموعة، بدأت بمقدمة عن القصة القصيرة وسحرها معطيا أمثالا من قصصها والتي يريد الكاتب هنا وضع بطله في هذه النقطة ليعبر بها عن رأيه وهكذا تحولت هذه الهوامش والملاحظات الى مقالة وحينما قرأها فاضل الربيعي اقترح ان أكتبها بخط واضح وأن اختار لها عنوانا وتسلمها بنفسك الى عبد الستار ناصر....
شجعني فاضل كثيرا على هذا الامر وهو يثني على المقالة، وقال أنه يعرف الأماكن التي يرتادها عبد الستار ناصر، وكان يقصد مقهى البرلمان في يوم الجمعة، وفعلا أعدت كتابة ما كان مبعثرا على اوراق دفتري المدرسي، لمرات عديدة حتى اقتنعت بالشكل النهائي لها واضعا عنوانا أخرا ربما يشبه ما معناه "محنة البطل في قصص الرغبة في وقت متأخر" – ربما كان أطول من هذا العنوان، وفي صبيحة أحدى الجمع كنا نخترق شارع الرشيد، فاضل بقامته القصيرة وأنا بقامتي الطويلة مرتديا سترتي الوحيدة حيث دسست مبيضة المقالة في جيوبها الداخلية، وكنت أتحسس الأوراق في كل خطوة من خطاي المرتجفة باتجاه مقهى البرلمان، كان المقهى في صبيحة كل جمعة يغص بالكثير من الاسماء المهمة، التي كانت تتجاذب او تتنافر حسب منهجها الثقافي والمعرفي، فهنا يجلس كتاب الاعمدة في الصحف، يتحلقون حول شعراء القافية والوزن والعمود وقربهم مداحون وصعاليك، وهناك يجلس كتاب التجريب والحداثة وفي طرف اخر يجلس رجال بأعمار متفاوتة يمتهنون الطب والهندسة والمحاماة ومؤرخون لثقافات مزدهرة.
حالما وصلنا مدخل المقهى حتى انتابني الخوف والكثير من التردد، حينها قررت ان لا أدخل، ولكن إشارة فاضل الربيعي نحو زاوية ما في المقهى مقتربا مني هامسا في اذني بنشوة المنتصر الذي استطاع أن يحقق ما لا أستطيع أن أحققه لولاه.
- انه هناك، وسأعرفك به.....
لم يكمل جملته، إذ سحبني الى يمين المقهى واقترح أن نجلس في مكان شاغر، جلست وأنا لم أزل أرزح تحت وطأة ارتباكي الأخرق حتى اللحظة التي نهض فيها فاضل بثقة حسدته عليها متجهاً نحو شاب وسيم طويل القامة، صافحه وهو يشير بإصبعه الصغير ناحيتي، ولم أتمالك نفسي وأنا بمواجهة الابتسامة الملائكية المشجعة ووجه يحمل الكثير من البراءة والوسامة والعمق، اقتربا مني، وأنا أتساءل هل هذا هو عبد الستار ناصر أم غيره، كنت أتحسس الاوراق متخيلا أنها يمكن أن تكون قد سقطت مني في الشارع، نهضت وأنا أضع يدي في الكف الممدودة لي غير آبه بصوت فاضل الأبح وهو يقدمني – مشيراً إلى ناحية الرجل الوسيم عبد الستار ناصر. كان هذا أول تعارفي به، سحبني عبد الستار نحو المكان الذي كان يجلس فيه، وبعد مجاملات بسيطة، لم تكن الابتسامة تفارق وجهه، حينها وبيد مرتجفة أخرجت الأوراق من جيبي. فتح عبد الستار الاوراق المتوسطة الحجم – حجم دفاترنا المدرسية - وبدأ يقرأ وحينما انتهى من القراءة مد يده لي مصافحا وشاكراً جهدي، قدم الاوراق الى الشخص الذي بجانبه، وحينما انشغل الآخر بالقراءة همس في اذني انه خضير عبد الامير، قالها بألفة، كنت أتحرق الى معرفة رأيه فيها وحينما سألته قال انه جهد كبير. ولكن لا أهمية لرأيي في أي نقد يكتب عني المهم أن نسمع رأي خضير عبد الامير، كنت مشدوداً إلى القلم الذي أخرجه خضير من جيبه وبدأ يضع خطوطا ودوائر على الكثير من العبارات، وحينما انتهى من القراءة، قال مقالة ممتازة وتستحق أن تنشر، كنت مأخوذا ومنتشيا، ولكن فرحتي لم تدم طويلا، حينما اضاف خضير عبد الامير، حقا انه جهد كبير ولكني اقترح عليك ان تلاحظ التصحيحات التي اشرتها اليك وتكتبها من جديد، حينها سحب عبد الستار ناصر الأوراق من يد خضير وقال لي سأرسلها الى ملحق الجمهورية، ولا يهمك من أمر التصحيحات، سيتم تصحيحها في الجريدة، ودعنا عبد الستار ناصر الذي انهمك بحديث مع رجل عرفت فيما بعد أنه المرحوم موسى كريدي.
نشرت المقالة في ملحق الجمهورية بعد أربعة أسابيع من لقائي الاول بعبد الستار ناصر، كان هذا أول تعرفي بهذه القامة الادبية المهمة.
لم أكن ناقداً لكني كتبت انطباعات شاب في السابعة عشر من عمره عن كتاب يتحدث عن الرغبة وتأويلاتها الجنسية والنفسية، تلك الرغبات المكبوتة الكامنة في أعماقنا والتي لا نستطيع البوح بها ولكننا نعيشها في كل لحظة، وفيما بعد تواصلنا في لقاءات كثيرة تخللتها الكثير من الحكايات والقصص التي كانت مجرد مشاريع ولكنها تحولت الى حقيقة، ولكن أكثر ايام تواصلي مع عبد الستار ناصر التي تحولت الى شبه يومية كانت في أواخر القرن الماضي حينما كان يشغل فيها المسؤولية عن الصفحة الثقافية في جريدة العرب اللندنية، كنا ثلاثيا لا يفترق عبد الستار ناصر والطيب الذكر الشاعر والمترجم حسين حسن وانا ورابعنا شاعر صعلوك مثير للجدل هو رباح نوري.
لم أجد حيوية تبيح نفسها وتهيمن على الآخر مثل حيوية وجمال روح وحيوية عبد الستار ناصر، المقامر الأزلي، الذي ارخ لبغداد أجمل أغانيها، وأرخ لأصدقائه في قصة "مقهى حسن عجمي" اجمل الموشحات، موشح حسين حسن، ورباح نوري، والحديثي حمدي مخلف، وكمال العبدلي، كما أرخ محلة الطاطران بأزقتها الضيقة وحكاياتها الكبيرة حكايات الفقراء زقاقا زقاقا بل بيتا بيتا، وارخ للحب تاريخا ومجدا، لم يحلم فيه أكبر دونجوانات العالم، وشاكس الدكتاتورية في قصة "غرفة حسين الحسيني" وحقق معه في دائرة المخابرات على التفاصيل الواردة في القصة وسجن قبلها لعام كامل في ابان فترة "احمد حسن البكر" لنشره قصة قصيرة لا يحضرني عنوانها.
رحل عبد الستار ناصر وهو في منفاه البارد. وهو يستعيد ذاكرة وطن أرخه بطوله وعرضه. وحقق اغلب رغباته الا واحدة لم يستطع أن يحققها، رغبة عبد الستار ناصر الأخيرة. . التي لم يقلها لي ولم يقلها لاحد بشكلها المباشر، بل قالها عبر ما كتب. أن يدفن في العراق، "لأني لا أحب البرد في المنفى".
وداعا سيد القداسات الجميلة، يوم ولدت ويوم كتبت أجمل القصص ويوم رحلت وأنت في منفاك الكندي ولم تسنح لك فرصة أن تودع محبيك الكثر، وبفم مطبق لا يستطيع الغناء أو العزف على آلاته المحبوبة، تلك الآلات التي كنت تعزف عليها كل يوم.
* ملاحظة أخيرة. عبد الستار ناصر يعد من أغزر كتاب القصة في العراق. أصدر أكثر من "50" كتابا مطبوعا، عدا المخطوطات التي تقبع في أدراجه العميقة. أما الصورة فقد التقطت من قبل زوجته القاصة هدية حسين قبل وفاته بيوم واحد في كندا.