ادب وفن

فضة الرغبة تحقق الذهب في قصيدة النثر / مقداد مسعود

"وإن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه كالفضة والذهب، يصاغ منهما خاتم أو سوار فكما أن محالا إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته أن تنظرَ إلى الفضة الحاملة تلك الصور، أو الذهب الذي وقع فيه العمل، وتلك الصفة كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه وكما أننا لو فضلنا خاتما على خاتم بأن تكون فضة هذا أجودَ أو فضتُه أنفسَ، لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم ، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتا على بيت من أجل معناه أن لا يكون تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام وهذا قاطع فاعرفه"
عبد القاهر الجرجاني
قصيدة النثر: هل هي جنس أدبي ، شكل أدبي؟ أم جنس تابع للشعر؟
كيف تكون قصيدة؟ وتكون نثراً؟ أليس في قولنا قصيدة نثر نصنّع قفصا لهذا الطير البري الذي من فضائل اسمائه الشعر ؟! مَن طوّق حرية القصيدة بقيود هذا "الإرداف الخًلفي"، أعني:"وضع لفظتين متناقضتين جنب بعضهما البعض".
* مَن أطلق عليها "قصيدة نثر"، هل كان يحاول قياس ما لا يعرفه بما يعرفه؟
مثلما استحوذ فيثاغورس على المثلث البابلي، استطاعت إمبريالية المعرفة أن تثبّت ختمها وتوقيعها على براءة اختراع: قصيدة النثر! التي هي بالأساس قصيدة عراقية أكدية.. يتخلى جاك ديريدا عن مناصرة الهامش ويعلن "أصل الفلسفة هو أفلاطون، وكل ما صنعته فيما بعد أنها أخذت في التحول مع كانت ، أو هيغل". كلام ديريدا، ينقض كلام الدكتور عمر مهيبل "دريدا يخلخل بنية النسق الفلسفي العالمي، ويهز المركزية الأوربية". المفكّر علي زيعور يؤكد بالدليل القاطع أن الفلسفة اليونانية ذات أصول هندية، لكن بويتر مايكلووسكي يرى أن أصول الفلسفة عراقية المنشأ، ولم تكن مع مجيء السقراطيين الذين تمكنوا من تخيل الوحدة في الكون، وهو يستخدم لإثبات عراقية الفلسفة اليونانية النماذج والأنماط الرمزية والتركيبية التي من خلالها عبر العراقيون القدماء عن بحثهم ونشدانهم المعنى في الكون.. المؤسف أننا صرنا نقرأ ذخائرنا المعرفية بعيون غربية كما هو الحال مع أدونيس في كتابه "في الشعر والشعرية: إنني لم أتعرف الحداثة الشعرية العربية من داخل النظام الثقافي السائد.. فقراءة بودلير هي التي غيرت معرفتي بأبي نواس.. وكشفت لي عن شعريته وحداثته، وقراءة مالارميه هي التي أوضحت لي أسرار اللغة الشعرية وأبعادها الحديثة عند أبي تمام، وقراءة رامبو وبريتون هي التي قادتني إلى اكتشاف التجربة الصوفية، وقراءة النقد الفرنسي هي التي دلتني على حداثة النظر النقدي عند الجرجاني".
ما يعلنه أدونيس هنا لا يخلو من الشعور بالدونية الحضارية.. من جانب آخر أن حسب المنظور الإمبريالي للثقافة: لم يسلم من الافتراس: الرائد الشرعي لقصيدة النثر الفرنسية أعني بذلك "شاب نحيف وطويل يبلغ الحادية والعشرين من العمر، ذي مظهر، خارق ورقيق، ويبدو أنه خجول ومتوحش، زائر غريب برز، كما قد يتخيل المرء من أحدى قصص هوفمان، لم يكن غير "لوي بيرتران" ومثل كل النوابغ هو شاعر من المحافظات وليس من العواصم، شاعر ٌ قادم من مدينة ديجون كان "أول ظهور له في النادي الرومانتيكي الذي خلق لتوه قصيدة النثر"، لم يكن ظهوره بائسا، بل هو الأول.. سيموت الخالق الشعري لقصيدة النثر الفرنسي كما يموت العباقرة من أمثال السياب أو يقتلون مثل الدكتور علي الناصر توأم روح الريادي في قصيدة النثر "أورخان ميسر" أو يتنفسون المنافي مثل رائد السورياليين العرب جورج حنين وهكذا سيفترس الموت بيرتران في 11-3- 1842 وهو يناهز الرابعة والثلاثين في أحد مستشفيات باريس وحيدا كمجموعته الشعرية الريادية، وسيولد ثانية من خلال كتابه الريادي "غاسبار الليل" حين يطبعه "فكتور بافي" في عام 1842 بمقدمة للناقد الفرنسي الكبير سانت بيف، وبشهادة "سوزان برنار" أن كتاب الوزيوس بيرتران: "كان يتجه خلال السنين وينتشر بطريقة خفية تقريبا، ويخصب عرضيا ذبذبات بودلير الغامضة ولوتريامون ومالارميه". ترى سوزان برنار أن الوزيوس بيرتران "لم يكن يستحق لا هذه الإهانة ولا ذلك الشرف المفرط" ثم تسعى إلى تقليل أهميته شعريا "وهل بنا حاجة الى ان نقول انه لا يمكن مقارنته بنيرفال ولا بودلير" ثم تنفي نفيها هذا بقولها "ولكني اعتقد ان غاسبار الليل سوف يظل، على حد تعبير، ده شواب، مفصلا أزليا لتاريخ الأدب، ذلك لأن هناك شعر نثر يبدأ بـ غاسبار الليل، إذ أن بيرتران هو الخالق الحقيقي لقصيدة النثر، نوعا أدبيا. ولم ينقض احد هذه النقطة ابدا..)".
الدرس الشعري الذي يعلمنا أياه بيرتران هو أن قصيدة النثر لا تشتغل بالتراكم الكمي بل تستقوي بالمحذوف وبلغة سوزان بيرنار "بيرتران يصفّي قصيدة النثر من العناصر النثرية وهو يقودها إلى الوجود ليس بما يدخله عليها، قدر ما يحذفه منها".
في هذا الصدد يمكننا أن نستعين برأي الشاعر سامي مهدي حيث يرى تأثير ريادة بيرتران على شعر بودلير، "فحين بدأ التفكير بكتابتها عام 1857خطر له أن يسميها، قصائد ليلية، متأثرا بعنوان كتاب ألوزيوس بيرتران، غاسبار الليل، لكنه سرعان ما تخلى عن هذه التسمية"، ثم يتحدث سامي مهدي عن انخفاض منسوب الطاقة الشعرية لدى بودلير بسبب ما تعتوره من مصدات في حياته الشخصية ثم يعود سامي مهدي مؤكدا "ويبدو لي أن بودلير كان يمر بمأزق شعري حين فكر بمشروعه وكان يبحث لنفسه عن مخرج من هذا المأزق، فقد بدا وكأنه استنفد ما عنده في ديوان أزهار الشر الذي صدرت طبعته الأولى عام 1857 وهو العام الذي بدأ فيه التفكير بالمشروع، وهذه ليست محض مصادفة، فلعله أحس، وهو الشاعر الواعي، أنه سيكرر نفسه، إن لم يبحث عن شيء جديد يقوله.."، ويضيف بعد أسطر "ولا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن كتاب بيرتران، غاسبار الليل، هو الذي قاده إلى المخرج، وأغراه بأن يقوم بمحاولة شبيهة بمحاولته، وقد اعترف هو نفسه بذلك في رسالته إلى آرسين هوسيه رئيس تحرير صحيفة لابريس، كان بيرتران قد قدم في غاسبار الليل مشاهد من الحياة اليومية في مدينتي ديجون وباريس أوائل القرن التاسع عشر بطريقة ساخرة أعجب بها بودلير، ورأى أن بمستطاعته أن يقدم بالطريقة نفسها مشاهد من الحياة اليومية الحديثة في باريس زمانه، فكتب.... عشر قصائد جمعها بعنوان لوحات باريسية"، وفي كتاب بودلير "سأم باريس" وبشهادة سامي مهدي لم يبلغ فيه ما بلغه في ديوانه "أزهار الشر" و"سأم باريس، تأثيرات واضحة من بيرتران وسانت بوف وإدغار آلا ن بو".
(*)
ضمن إمبريالية الثقافة تعتبر الشاعرة الغنائية الإغريقية سافو هي أقدم شاعرة في العالم، وكان ذلك في القرن السادس قبل الميلاد، "غير أن هناك شاعرة عراقية موهوبة وبارعة تقدمت عليها بنحو سبعة عشر قرنا هي "إنخيدونا"، بل أن أنخيدونا هي أقدم مؤلف وشاعر معروف في العالم، حتى اليوم بكونه شخصية تاريخية".. سامي مهدي. وفي السياق ذاته يؤكد الشاعر عبدالله حسين جلاب "قصيدة النثر هي قصيدة أكدية بامتياز تفردت بابتكارها إنخيدوأنّا ابنة سرجون الآكدي قبل الميلاد، فهي رائدتها الأولى في التاريخ البشري، وهي أقدم من ملحمة جلجامش، أجمل قصيدة نثر، بثمانية قرون، وأقدم من إلياذة هوميروس بأحد عشر قرنا، فلا علاقة ولا سبق لأي شاعرة ٍ أو شاعر ٍ من الغرب أو الشرق بكتابتها، قبل وبعد الميلاد... فهي شاعرة خاطبت قرّاءها بضمير المخاطب وأعلنت اسمها وهويتها دون لبس في الوقت الذي نجهل هوية معظم مبدعي الأدب السومري، منه ملحمة جلجامش".
(*)
أرى أن هناك سمات خاصة بنا في كتابة قصيدة النثر و"إن محاولة التقريب بين شعرنا العربي وشعر الثقافات الغربية هي محاولة متعسفة حتى وإن أخذنا منهم مصطلح الشعر الحر ومن ثم قصيدة النثر التي هي تسمية محورة عن المعنى الأصلي لدى الغربيين".. عبد الزهرة زكي
* نحن الآن مع انتشار القصيدة العمودية الجديدة التي يكتبها جيل ما بعد 2003 هذه القصيدة لم تترجل عن عمودها ولا عن منبرها ، لكنها وأشهد من خلال اطلاعي على نماذج جميلة منها قد استفادت بمهارة من العائلة اللغوية لقصيدة النثر، وقد فككتُ بعض نماذج منها، فوجدتها قصيدة نثر متوارية بحجاب عمودي.
* الآن تحديدا، أعني تزامنا مع ديمقراطية النت غير المشروطة أتراجع في هدأة عزلتي ولا أسأل أحدا: متى يبدأ تنظيف قصيدة النثر من الأوشاب؟ ومن يضمّد جراحها من السطو؟ ومن يفرك جسدها من ركاكة الخاطرة؟! التي صارت بالطليعة وضربت أرقاما خيالية في المبيعات؟! على ذمة جملة "الأعلى مبيعا".. لكن "تلك الجمل الترويجية التي لا تكون صادقة في الغالب، في بلاد لا تطبع من الكتاب أكثر من ثلاثة آلاف نسخة في أحسن الأحوال ولكتاب معنيين معروفين منذ زمن.. أمير تاج السر.