ادب وفن

ناظم رمزي .. ذكريات ومواقف ومعاناة .. القسم الثالث والأخير .. / جاسم المطير

أخذت مبلغ 25 ألف دينار فقط. كنت قد أعطيت لجميع من اقرضوني صكا مؤجلا لحين توفر المبلغ لدي لتسديده وقد كتبت لناظم رمزي صكا بالمبلغ المقترض . ابتسم وهو يمزق الصك بيديه راميا بمزقه في سلة الزبالة . لم يطالبني بموعد تسديد المبلغ الذي قمت بإرجاعه تقسيطاً خلال 15 شهراً.
زالت في لحظة استلامي المبلغ من ناظم رمزي كآبة وجهي وظل يلح علي بأخذ أي مبلغ أضافي . اكتفيت بمبلغ ينهي محنتي ثم أجبرني على تناول كأس ويسكي مع الثلج . اتصلت حال عودتي إلى البيت برقم تلفون سبق أن أعطاني إياه الضابط نجاح النعيمي أخبرته أن المبلغ جاهز في الموعد المطلوب غداً وقد رجوته أن يهيئ لي الوصل المطلوب باستلام المبلغ كما قيل لي أنه (تبرع للمجهود الحربي). سمعتُ ضحكته العالية وقوله المصاحب: المخابرات يا جاسم تأخذ ولا تعطي.. تأخذ المبلغ منك ولا تعطي وصلاً..! قلتُ له هل تمانع بدفع المبلغ أمام الدكتورة حميدة سميسم وناظم رمزي..؟ ضحك قائلاً : تريدهما شاهدين على دفع المبلغ بديلا عن الوصل .. لا مانع.
في اليوم التالي وفي الساعة المحددة وافقت الدكتورة سميسم كما وافق الصديق رمزي على تحمل عناء مصاحبتي في لحظة تسليم المبلغ إلى نجاح النعيمي الذي قال لي بعد الاستلام: لا تقلق يا جاسم.. أنت حر الآن .
كنت قد فكرت في معرفة مصير اسطيفان فتح الله فعلمت من ناظم رمزي انه لا زال معتقلاً في المخابرات وأنه يسعى من أجل إطلاق سراحه بالواسطة . ذهبتُ بعد يومين إلى ساحة الخلاني ، إلى اتحاد الصناعات العراقي حيث موعدي مع الصديق ( نشأت قحطان الأورفه لي) مالك بناية في شارع السعدون حيث استأجرت منه قبل سنوات معرض المكتبة العالمية وكان يعمل مديرا في اتحاد الصناعات . قال لي السيد الأورفه أن السيد محمد حديد أخبره أنه حال مثوله أمام القاضي في مبنى المخابرات أعلم القاضي أن صدام حسين أبلغه ذات لقاء بينهما أن يخابره تلفونيا عندما يحتاج إلى أي عون أو حين يجد نفسه مظلوما في مركز شرطة أو في أي دائرة حكومية ، وقد كان قد زوده برقم تلفون خاص قدمه للقاضي طالباً منه الاتصال بالرئيس على ضوء توصيته فما كان من القاضي إلا إيقاف التحقيق معه وإطلاق سراحه فوراً. ثم اخبرني الأورفه لي أن محمد حديد سيغادر العراق إلى لندن بحجة المعالجة الطبية بناء على موافقة الرئيس على طلبه. هكذا كان كل شيء ماثلا ومحتملا أمام جميع الناس العراقيين يمكن أن يواجهوا سلب أموالهم وأحلامهم وذهب زوجاتهم باسم (المجهود الحربي).. كان الناس يعيشون خائفين في مدينة خائفة والدغل الوحشي منتشر في كل جانب من جوانب حياتها.

الولع مع الكاميرا والهوى مع الرسم

وجدتُ خلال علاقتي الطويلة مع ناظم رمزي انه تقدمي الروح وأن هواه الأول والأعلى أن تتغير حياة فقراء العراق في المستقبل مهما طال الزمان. تولـّع منذ فتوته بفن الرسم والخط وقد تربى منذ بدايته أن تكون عيناه متركزتين على فن الفوتوغراف. كان يحاول أن يروي روحه بماء الصورة الفوتوغرافية ليكون مخلصا لشعبه وأرضه ووطنه رغم كل الظروف التي أحاطت به مكونة له محنة بعد أخرى لكن عصاميته كانت دائما هي الأقوى. لم تتوقف عدسة كاميرته ولا ريشته عن إشباع نهمه في الفن كما لم يمتنع قلمه عن كتابة بعض فصول أولية من سيرته الذاتية حيث أورد أسمي وصورتي ضمن قائمة أصدقائه في كتابه (من الذاكرة) . قرأ واطلع في مختلف الاتجاهات الفنية والأدبية ثم استهواه العمل الطباعي حين أحس أن الطباعة الفنية المتطورة هي القريبة إلى وجدانه وبقي ملازما لها طيلة فترة حياته. نشأت بينه وعدد كبير من أدباء وفناني العراق علاقات حميمة قائمة على عمق إحساسه بضرورة مساعدته ودعمه لكل أديب وفنان يحتاج إلى عون مادي أو معنوي لم يبخل به عليه وأنا على معرفة شخصية بمساعدات شهرية أو موسمية كان يقدمها إلى عدد من الأسماء اللامعة الآن في الثقافة العراقية .
من المستحيل على أي صديق من أصدقائه أن يعرف عن ناظم رمزي هل هو كردي أو عربي أو تركماني أو مسلم أو مسيحي. لا يتحدث عن ذلك مطلقا.. يحسن الحديث عن ضرورة فهم الحياة الإنسانية المسالمة ولا يرى في الدين غير السماحة الإنسانية وقد رأى في القرآن الكريم رحباً واسعاً من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع. شجعني كثيراً على طباعة نسخة من القران كنتُ قد حصلتُ عليها من المتحف الإسلامي في اسطنبول. وقد أعجبته خطوط النسخة الجميلة وعلامات حركة حروفها التي كانت قد أخذت نصيبها الكبير من الفن الجميل . وزعتُ عشرات الآلاف من النسخ التي طبعتها في مطبعة الأديب البغدادية بحجوم ثلاثة ، صغيرة ومتوسطة وكبيرة، انطلاقاً من فكرته القائلة بأننا نحن العلمانيين أكثر حرصا على احترام مشاعر المسلمين وطباعة ونشر منظومهم ومنثورهم وفي مقدمتها القرآن الكريم بمستوى فن عال من الطباعة لا ترقى إليه حتى دور النشر الإسلامية.

فيض من الحزن والسرور

في تلك الأيام المظلمة انبرى احد خطباء جامع في كركوك بتقديم تقرير إلى مديرية الأمن في كركوك مدعيا أن القرآن المطبوع من المكتبة العالمية في مطبعة الأديب ضم 40 خطأ ً متعمداً لتشويه كلام الله و قد توزع جهد هذا الخطيب على مناشدة جهاز الأمن على معاقبة الشيوعي جاسم المطير صاحب الدار العالمية ومعاقبة النصراني اسطيفان فتح الله صاحب مطبعة الأديب. استدعاني ضابط أمن وزارة الأوقاف مستفسراً عن الموضوع وقد أكدتُ له أنني طبعته بموافقة وزارة الإعلام التي انتظرتُ قرار موافقتها أكثر من عامين بعد موافقة وزارة الأوقاف على فحصه وتدقيقه وقد سلمت ضابط الأمن نسخة من خطاب موافقة الوزارتين. وقد تقرر على ضوء الكتابين تشكيل لجنة ثلاثية رفعت تقريرها بعد ثلاثة شهور مؤكدة أن جميع النصوص سليمة وصحيحة، بل أكدت في تقريرها أن هذا المصحف بالذات يخلو تماما من أية غلطة بينما لا يخلو قرآن وزارة الأوقاف العراقية المطبوع في ألمانيا قبل 4 سنوات من 14 خطأ ً في بعض الحروف والحركات وعندما أعلمتُ تلفونيا ناظم رمزي أن قراراً وزارياً صدر برفع الحجز عن قرآن المكتبة العالمية أعلمني أنه كان قد تلقى نفس المعلومة من رئيس اللجنة الشيخ جلال الحنفي الذي كان هو المعيّن لتدقيق هذا المصحف بعد أن كتب تقريرا عن سلامة النسخة المطبوعة من صاحب المكتبة العالمية.
بعد اشتداد رحى الحرب العراقية الإيرانية وازدياد عدد ضحايا العراقيين والإيرانيين فيها لاحظتُ تبدل خصائص ناظم رمزي وعاداته وبدأ راجعاً إلى التفكير بمغادرة العراق، خاصة بعد تحسسه مخاطر الأوضاع الاقتصادية - الاجتماعية وتدهور معيشة أبناء الشعب. أصبحت مطبعته منذ منتصف الثمانينات معاقة بسبب تدخل جهاز المخابرات والأمن واشتداد ضغوط بعض ضباطها عليه وعلى عمال المطبعة و المساوئ الكثيرة الناتجة عن ذلك . لعلّ أهم ما ميّز تفكيره في تلك الفترة هو التخطيط بمهارة للحصول على تأشيرة خروج إلى بريطانيا مع استعداده للتخلي عن المطبعة وعن كل ما يملك في العراق لتحقيق هذه الرغبة الشخصية. لم يكن يصرح بهذه الرغبة لأي احد ما عدا إلى الدكتورة حميدة سميسم التي كان يعتبرها عن حق أختا موثوقاً بها إلى الحد الأقصى وكانت حميدة سميسم معروفة بتقديم خدماتها لجميع معارفها .

العودة إلى فكرة طبع القرآن

بعد إقامته النهائية في بريطانيا عاوده الحنين أثناء افتتاحه مطبعة صغيرة في لندن إلى إكمال خط وطبع نموذج جديد للقرآن , وقد اعتمد على الفنان عبد الرضا بهية ( رضوان الخطاط) المقيم في بغداد مستفيدا من نموذج الخطاط الاسطنبولي الذي كنت قد سلمت إليه النسخة الأصلية في لندن ، وقد أعادها لي بعد بضع سنوات بواسطة السيد رضوان . أنجز رضوان الخطاط مهمته في خطوط القرآن بما يقرب من ثلاث سنوات بينما أنهى ناظم رمزي إعداد الزخارف الفنية المذهلة خلال فترة تزيد على السنوات العشر ، وقد علمتُ منه أنه استحصل موافقة الأزهر على طباعته بعد فحص وتدقيق. أظن انه سيكون عملا يعتبر لفنان عراقي علماني مدرسة في الفن الطباعي لا يضاهيه أي مطبوع مماثل بما في ذلك ما أنتجته الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي كانت قد طبعت نموذجاً جميلاً من القرآن اشرف الخميني على إعداده وعلى زخارفه وتم طبعه في اليابان في بداية الثمانينيات.
أملي أن لا يتجاوز المسؤولون في وزارة الثقافة العراقية هذا التوجه الفائق الروعة في إخراج نموذج لطباعة القرآن بدأه ناظم رمزي بجهد كبير وأنهاه بهمة وانسيابية لا مثيل لها ، أتمنى أن تتكفل بطباعته من دون التأثر أو الانفعال بالمدرسة الفنية لناظم رمزي.
من الناحية الفنية، التشكيلية والفوتوغرافية، أتمنى أن ينهض أصحابه والنقاد العراقيون التشكيليون في دراسة فنون لوحاته والتعرف على نزعاتها التاريخية باعتبارها جزءا من المدرسة الفنية العراقية في مسيرة تزيد على 65 عاما من الزمان في حالة من تفاعل وتبادل شكلت ظاهرة فنية عراقية أصيلة ومتميزة .

ضرورة تتويج الإبداع

لا بد من القول أخيرا أن فنون ناظم رمزي لم تحظ بأي اهتمام من أي حكومة عراقية عدا الزعيم عبد الكريم قاسم الذي افتتح معرضه الأول - رغم أن جميع الحكومات كانت تعرف أن ناظم رمزي لم يكن فناناً مجرداً، بل كان رمزاً في فنونه كلها ليزرع مبادئ المودة والألفة والحب بين الناس وأرضهم، ارض الرافدين، وان جميع نتاجه يشكل جزءا من تاريخ الذاكرة العراقية في العصر الحديث . هذا من شأنه أن يدفعنا لمناشدة وزارة الثقافة بالمحافظة على جداريته الرائعة ( جدارية مستشفى فيضي) التي تريد بلدية منطقة الكرادة أو أمانة العاصمة أو غيرها تهديمها بينما هي من أوائل جداريات بغداد المعاصرة بعد جداريات السومريين في أور والبابليين في بابل والأشوريين في نينوى. جدارية ناظم رمزي أنتجها عقل عراقي ناضج وذكي منذ أكثر من ستين عاما.
أخيراً أقول بدافع وطني حاد أن فن ناظم رمزي يستحق أن يبقى مقلداً بأعلى وسام لكي تبقى جذوة فنونه ملتهبة في الساحة الفنية العراقية وأن مسئولية الجميع - دولة ،وحكومة، ومنظمات تشكيلية - هي المحافظة على جميع لوحاته وصوره طاهرة نقية في متحف الفن العراقي لكي لا يتلاشى دور هذا الفنان الرائد الطاهر النقي، الذي أجهد نفسه بجدلية فنية طيلة حياته من دون أن يصيبه فتور ومن دون أن تكلّ همته.
لقد قضى حياته بجدٍ وسعي ٍ ليس لهما مثيل مما يدفعنا جميعا أن لا نفرط بأي ٍ من تويجات لوحاته، بل علينا أن نرفع أيدينا وداعا له مفعمين في حب منتجاته كلها .