ادب وفن

قوة المهمل وقوة القامع (1-2) / حميد حسن جعفر

من الممكن أن يشكل المهملُ هذا المفصل الذي كثيراً ما تحاول محوه حالات الخمول أو أن تسلبه دوره في حراك الحياة، ليقبع في أقصى الصورة منتظراً أحداً ما يستله من بين اليابس من الأغصان ليتحول إلى جمرةٍ. هذا المهمل كثيراً ما يشكل الجميلَ من الوقائع المنفردة من الأحداث، الربيع من بين فصول الحياة.
هموم الحياة ومشاكلها من الممكن أن تشكل دخاناً كثيفاً لا يمنع الرؤية فحسب بل يؤدي إلى حالة من الافتنان/ التسمم مرة أو إلى صناعة حالة عمى مؤقت مرةً أخرى. أو حالة انتظار للتعرف على مفردات الموقف مما يحدث.
وبالتالي من أجل تجاوز ما يحدث يعمل الإنسان على تجاوز الكثير من الأفعال القادرة على صناعة الحراك / المتغيرات هذا التجاوز / التخلي يتم على شكل نسيان متعمد.
*
الإنسان عامة وضمن حالة من الاعتيادية/ الطبيعية يميل إلى الهدوء ، أو إلى السكينة.
أما الإنسان/ الاستثناء فهو الباحث عن القلق.
أما سيل الأحداث فهو يتحرك نحو الأماكن المنخفضة. حيث الأعماق ولتتشكل بعد ذلك طبقة أو طبقات من الأفعال التي يحاول الإنسان المنتمي إلى السكونية أن تكون طي النسيان دافعاً بتأثيراتها إلى الاندثار إلا أن الإنسان الاستثناء والذي هو الآن الكائن المثقف هو وحده الذي استطاع أن يستخرج الكامن في الذاكرة وذلك عبر ما يمتلك من معارف هي بمثابة المعول الذي يتقدم الإنسان في بحثه والنبش من أجل صناعة حالة اكتشاف للمطمور.
هذا المهمل/ المطمور يحمل من خصائص المحلية ما لا يحمل سواه من وقائع تاريخية بل إنه يفوق الكثير من الأساطير والميثولوجيات. بل قد يشكل الكثير من مفاصلها وذلك بسبب ما يحمل من حراك كامن فيه. والذي يمثل حالة فكرية لم يتم الاقتراب منها . إنه المفصل الذي لم يمسسه سوء والذي لم تصل إليه يد المستهلكين.
الحياة الواضحة والبيئة التي من الممكن أن يتحول الكثير منها / من أفعالها إلى نفايات لا تثير الفضول ولا تصنع حب الاستطلاع بل ما عاد فيها ما ينفع أو يفيد هذه المفاصل في أن تتحول إلى مجموعة من وقع الأقدام أو بصمات الأصابع والتي لا تميل إلى عملية المغايرة والاختلاف. وبالتالي لا تنتمي إلى ما يثير القارئ أو الباحث.
*
المهمل في الحياة هو الجانب الذي لم يستهلك بعد. هو الاستثناء الذي من الممكن أن يضيء العتمة التي أهملها النهار.
هناك مدنٌ مهملة وهناك تواريخ مهملة وهناك أمم وأقوام مهملة وهناك أشخاص وأحداث ووقائع عملت السلطات سواء كانت نتاج مجتمع أم حكومة أم دين على التشويش على مفروزاتها، من أجل صناعة حالة من سهوٍ عنها/ إغفالها. وبالتالي فإن إلغاء الحاضنات هي واحدة من الأسلحة التي يستخدمها الآخر/ الضد من أجل وأد ما يمكن أن يسمى المعارضة/ أو التناقض.
*
قد تشكل المغايرة والاختلاف مفصلاً مهماً من المفاصل التي يعمل السائد على تدبرها، بل أن سلطة الذكورة كثيراً ما تعمل على تدمير استقلالية الآخر/ المرأة لا لأنها أي الذكورة ضد المرأة ككائن بل لأن المرأة من أكبر المنتجين لصناعة الرفض / الضد في المجتمع الذكوري.
وقد تتمحور الذكورة ضمن سلطة العسكريتارية من أجل تدمير الآخر/ الرجل الضد وتدمير الأخ الأكبر المنافس والطامح في الحصول على كرسي السلطة فسلطة الأب سواء على مستوى الدولة أم المجتمع أم العائلة تعمل على صناعة محور (الأنا) القامعة والتي من الممكن أن تكون على شكل اغتيالات / كواتم صوت / اعتقالات / إعدامات أو على شكل سلطة الحروب. أو على شكل حملات تدجين أو تقليم أظافر. أو إحالات إلى التقاعد أو صناعة الرقابة الفكرية بحجة الدفاع عن الوطن أو المقدس أو تشكيلة القوانين التي تدير المجتمع.
*
لا بد لقارئ التاريخ في شرقنا العربي أن يعثر عبر متابعاته في المضان والكتابات التي تنتمي إلى التراث. لا بد له من العثور على العديد من السلوكيات ومحاولات مغايرة. سواء على مستوى الأدب/ الشعر خاصة لأن الفنون الأدبية الأخرى ما كان لها حظٌ في الحضور . وذلك بسبب تسيد الشعر / القصيدة الكلاسيكية للمشهد. فلم تكن هناك قصة أو رواية أو مسرح أو فنون تشكيلية.
وإذا ما كان هناك أكثر من تجربة ناجحة من الممكن أن تنتمي للسرد كالمقامة مثلاً. إلا أن الوظيفة أو الفعل الذي تحمله المقامة ما كان يروق للسلطات آنذاك وكذلك الحال مع سرديات ألف ليلة وليلة وتجربة الواسطي في الفنون التشكيلية وكذلك الحال مع ترجمة (ابن المقفع) لـ (كليلة ودمنة) أو قدرتها على الترويج للأفكار المضادة للسلطات هذه التجربة أو سواها المقامة الفريدة والوحيدة كذلك لم تستطع أن تجد لها حاضنة توفر لها وسائل الانتشار. وما كان عامة الكتاب حين ذاك ممن يبحث عن المعارضة الفكرية من جهة واستفحال سطوة السلطان آنذاك.
إذ أن الاتهام بالزندقة من التهم الجاهزة والتي من الممكن أن تعلق برقبة أي متمرد على القوانين أو الرافض للسياسات التي يصدرها الخلفاء والأمراء إضافة إلى أن العديد من الأشكال الإبداعية كالبند مثلاً يعد خروجاً على المتفق عليه لذلك عمل الأدباء أنفسهم (كجزء من السلطة) على أن تنحصر مهمة الشكل الجديد المنبثق من الشعر والمتمرد على القافية أن تنحصر مهمة هذا اللون/ الإناء بالتهاني المتبادلة والتعازي والرسائل الاخوانية هما قلل من أهميته كحالة تمرد وقدرته على صناعة الإزاحات والحفر في جدار الممنوعات لينتهي بالتالي إلى الإهمال.
*
ربما شكل المهمل مجموعة سلوكيات يعاقب عليها القانون أو الشرع أو التقاليد وبالتالي تكون الممارسات على نطاق يضيق حيناً ويتسع حيناً آخر وقد يؤدي اشتداد الضغوط إلى وأد هكذا ممارسات.
ولأن السلطات القامعة كثيراً ما تتمركز في المدن الكبيرة كالعواصم مثلاً أي أنها تتشكل في بداياتها بعيداً عن المحيطات والهوامش فإن قدرتها قدرة الهامش على صناعة المهمل تكاد تكون متميزة وواضحة.
وبالتالي فإن حركات الرفض المقاومة على المستوى السياسي. الحركات المناهضة لسياسات المركز، سوف تجد لها ازدهاراً عندما تكون بعيدة عن عصا الدولة / عصا الخليفة.
*
وعندما تشيخ المجتمعات/ لحظة دخولها الفترات المظلمة (أوربا في القرون الوسطى. ودولة الخلافة العباسية في سنواتها الأخيرة) تشيخ معها المحاولات الإبداعية الطالعة من قلب الجدب. ويظهر الاهتمام. اهتمام الدولة والمجتمع بالمظاهر وقشورها مما يعمل على ظهور صناعة السبات والخمول والانطفاء.
المهمل من الممكن أن يشكل حالة نهوض تنتمي إلى الإيجاب مرة، وإلى السلبية مرة أخرى إذ أنه يشكل ما يشبه الهزّات أو الارتجاجات التي تنتج حالة من الذهول والتي تتبعها حالة صحو وحالة مغايرة، ومهما حصل أو يحصل ومهما حمل المهمل من سلوكيات غير متزنة فلا بد له من أن يترك وراءه آثاراً تدعو إلى تصحيح المسارات مرة وإلى متابعتها مرة أخرى.
*
لقد كان لظهور ترجمة (كليلة ودمنة) لابن المقفع ردة فعل كبيرة لدى السلطات آنذاك وكان ظهروها هذا ضمن فعل انفتاحي متسع على الآخر من الأمم والأقوام والشعوب والذي يحمل دعوات التغيير.
إن قيم وأفكار ابن المقفع/ المترجم والتي من الممكن أن يقول القارئ أنه اي ابن المقفع كان من المبشرين بهكذا أفكار وآراء وممارسات تدور حول الحكام والحكومات والشعوب المحكومة استطاع صاحبها / كاتبها من أجل أن تظهر للمتلقي بعيداً عن سلطة الممنوعات أن يطلقها على السنة الحيوانات والطيور وبالتالي استطاع أن يستغفل الرقيب الفكري والسلطوي.
إلا أن من نتائج هذه التجارب هي أنها لم تستطع أن تتكرر. لا بسبب عدم وجود مترجم مثل (ابن المقفع) بل بسبب رقيب آخر أشد قسوة استطاع أن يدفع بالترجمة أو التأليف على منوال هكذا تجارب. أن يدفع بها إلى الممنوعات لكي تتمكن السلطة حينها من تدمير الحواضن القادرة على الوقوف إلى جانب هكذا تجارب تنتمي إلى الاختلاف.
فقد كانت تجربة الواسطي تجربة فريدة وكذلك الحال مع المقامات ومع ألف ليلة وليلة ومع كليلة ودمنة .
*
لقد كان الموت عبر التنور. الزندقة والطاموريات هي مجموعة العصي التي تملكها سلطات الثابت من أجل القضاء على المعارضة آنذاك على مستوى الدولة.
لقد كانت حركات التمرد والعصيان تمثل مساحات واسعة من السلطة السياسية وكذلك الحال على المستوى الثقافي عامة والأدب خاصة.
فقد ظهرت العديد من الثورات كالزنج مثلاً والانتفاضات والتي لم يتم القضاء عليها وتصنيفها عبر الحوار والنقاشات، بل عبر استخدام الجنود المنتظمين. هذه الحركات التي كثيراً ما تستند على أفكار تنتسب إلى الأقليات القومية والدينية.
إن الفكر الديني الرسمي للدولة أو الإمارة أو السلطنة بكل أنواعه سواء كان أرضياً أم سماوياً لأن الشكل الإداري للكيان السياسي الذي يسير أمور المواطنين لا بد له من أن يتخذ من الدين وقدسياته أقنعة باستطاعتها أن تخفي عيوبه ومثالبه وأخطاءه وتجاوزاته واستبداده. إن فكر الدولة الديني هو غير فكر المواطنين الديني.
فكر الدولة الديني يحسب الخلفية أو السلطان أو الأمير بل وحتى رب العائلة صاحب سلطتين الدينية والدنيوية وبذلك سوف يجد القارئ إن القمع الذي يدفع بالخلفية إلى تدمير الآخر سوف يكون مستنداً إلى فتاوى رجالات الفكر الديني المنشئ لأفكار الخليفة الدينية والتي تعتمد بالأساس على عدم إجازة الخروج على طوع الخليفة وإن كان ظالماً. وبالتالي فإن الخارج على قانون الدولة / قانون السلطان يعد خارجاً على قوانين مقدسة.