ادب وفن

تيريزا أكاديا.. ومغامرة الحب المستحيل / عدنان حسين أحمد

صدرت عن "دار المؤلف" ببيروت رواية جديدة للشاعرة والروائية اللبنانية السورية مريم مشتاوي تحمل عنوان "تيريزا أكاديا.. حُب من نوع آخر"، وهي العمل السردي الثالث بعد روايتي "عِشق" و"ياقوت". وإذا كانت الروايتان السابقتان تدوران في الفلَك الواقعي، وتنتميان إلى المَذهب الرومانسي المُغرِق في ميوعته العاطفية فإن روايتها الثالثة، مَناطَ بحثنا ودراستنا النقدية، تجنح إلى الخرافة أو تتبنّى منحىً عجائبيًا يمكن أن نردّه إلى "الليالي العربية" في أبعد تقدير.
قبل أن نخوض في تفاصيل هذه الرواية لابدّ من الإجابة على سؤال محدّد مفاده: كيف تُصنّف هذه الرواية؟ هل هي رواية خرافية مُختَلَقة؟ أم أنها رواية واقعية مطعّمة بالخرافات؟ وإذا كانت راوية النص وبطلته لا تؤمن بالخرافات فلماذا تبنّت مريم مشتاوي هذه الأوهام وتعاملت معها وكأنها حقائق ملموسة لمس اليد مع أن العِلم ينفي وجود الجنّ والشياطين والعفاريت وما إلى ذلك؟
تُعاني هذه الرواية من غياب الثيمة الرئيسة التي أشبّهها دائمًا بالنسغ الصاعد الذي يبدأ من جذور الشجرة وينتهي عند أغصانها جميعًا، وربما يعود السبب في اضمحلال الثيمة أو تآكل العمود الفقري للنص الروائي إلى كثرة الثيمات الفرعية التي ترددت على ألسن الشخصيات الرئيسة مثل تيريزا أكاديا أو حبيبها أغسطينو كارلوتي أو العمة نويل عوّاد أو أمين الدير "حنى نيّا" وسواهم من الشخصيات التي انتظمت ضمن الأنساق السردية لهذا النص الروائي.
لابد من الإشارة إلى اللغة العذبة التي يتوفر عليها هذا النص الروائي المحبوك جيدًا بسبب بنائه المعماري الرصين الذي أربكتهُ الأوهام والخُرافات التي يصعب أن تجد لها محلاً في العصر الحديث الذي تتسيّد فيه الكشوفات العلمية المُذهلة. ومع ذلك نجد أنفسنا مضطرين الى التعامل مع هذا النص الروائي على وفق المُعطيات المتوفرة في ثيماته الفرعية المتناثرة حول الحُب، والخيانة، والغِياب أو بكلمات أُخر الحُب المتبادل بين الإنس والجنّ أو بالعكس.
تنطلق أحداث الرواية من مدينة بورتوفينو الإيطالية التي وصل إليها ميخائيل عوّاد، البحّار، المفلس، الفارّ من ميناء طرابلس اللبناني، وتزوج من أدريانا أرابيلا، المرأة الإيطالية الجميلة التي أنجبت له تيريزا أكاديا وفارقت الحياة بعد مدة قصيرة لتسجِّل في ذاكرة ابنتها أول غِياب قاسٍ لا تتحمله طفلة صغيرة بعمرها. ومن حسن حظ تيريزا أن تربّيها أنجيليا أرموني، صديقة أمها التي أحبّت هي الأخرى ميخائيل عواد وأخلصت له ردحًا من الزمن لكنها غابت هي الأخرى في ظروف غامضة لتترك تيريزا وحيدة، يائسة، عزلاء.
أحبّت تيريزا طالب العلوم أغسطينو كارلوتي في السنة الجامعية الثانية، وقد وجدت نفسها في هذا الحُب الرومانسي اللذيذ الذي عزّز النص بأفكارٍ وثيماتٍ مؤازرة حيث تقول الراوية:"كان يمتصّ شفاهي كما النحلة تمتصّ رحيق الورد، وكان طعم ريقه عسلاً، لقد شعرت بقطراتٍ من العسل تختلط بلعابي".
لم تستمر هذه العلاقة العاطفية طويلاً فبسبب خياناته الواضحة تقرّر تيريزا الابتعاد عنه، وإدراجه في عِداد المفقودين الذين غابوا عن حياتها من دون سابق إنذار لكنها لم تستطع نسيانه فهو يدهم تفكيرها بين أوانٍ وآخر، ولا ينفكّ عن مشاغلتها كلّما وجد فرصة مؤاتية.
يتلاقح هذا النص الروائي مع الأساطير القديمة حيث يحضر آلهة من قبيل بوسايدن إله البحر، وجاريوس، إله الموج لكن يبقى إيروس، إله الحُب والجنس والرغبة هو الأكثر هيمنة على مدار النص وذلك لتعدد أوجه الشبه بينه وبين أغسطينو، فكلاهما ينتعل صندلاً، وكلاهما يمتلك أجنحة، ولعل حبكة النص تقوم على هذا الجناح الذي تحسسته تيريزا على ظهره من دون أن تنتبه إليه: "لم ألتفت لأراه لكنه بدا لي جناحًا صغيرًا".
وعلى الرغم من أنّ أغسطينو لم يتحدث عن عائلته، ولم يذكر لها اسم القرية التي يعيش فيها لكنها سوف تتعرف لاحقًا على مكان إقامته. وحينما تعود تيريزا إلى لبنان تذهب إلى "عتابا" وهي قرية اخترعتها مريم مشتاوي لتُكمِل أحداث النص الذي سوف يُوغل في الخرافات الشعبية. ومع ذلك سوف نلتقي شخصيات روائية عميقة مثل نويل عواد أو القدّيسة "بركة" كما يلقِّبها سكّان القرية، وقد أغدقت عليها الروائية خصالاً متفردة يندر أن نجدها عند بقية الشخصيات النسائية على وجه التحديد. فهي بصيرة رغم أنها فقدت نعمة البصر، وتمتلك قدرة حدس عجيبة تمكِّنها من معرفة كل ما يدور بين ثنايا الدير الذي يجمع بين قسميه الراهبات والرهبان الذين لا يلتقون إلاّ في قدّاس الأحد.
تنجح مريم مشتاوي في تصوير الحياة التي ينبض بها الدير وخاصة قصص الحُب المتبادلة بين الرهبان والراهبات، فالأخ جورج يراسل الأخت ياسمين والأخت سوسن في الوقت نفسه، والأخ بولس يراسل الأخت سميرة، والأخت إيفون حامل وقد أقسمت على الكتاب المقدّس قائلة: "أقسم بأنني لم أعرف رجلاً في حياتي، أعلم أن ما من أحد سيصدقني لكنها الحقيقة".
وسوف تطرد العمة بركة الراهبين جورج وبولس لأنهما تورطا في كتابة رسائل غرامية في محاولة لإغواء الراهبات واللعب بمشاعرهنَّ ولكنها استبعدت أن يكون أحدهما قد اغتصب الأخت إيفون وكان سببًا في حمْلها الذي تكتمت عليه العمة بركة حتى قدِم إلى الحياة بعد ولادة عسيرة. وقد رفض أن يرضع من صدر أمه لكنه تناول رضّاعة مليئة بالعسل والماء الساخن قليلاً في إشارة إلى "أنَّ صدور نساء الجنّ تدرّ العسل بدل الحليب".
ثمة أحداث كثيرة تقع في متن الرواية مثل انتقال فاطمة إلى الدير، وانتحار سميرة، وقتل الداية أم يوسف لزوجها ثم إقدامها على الانتحار، وأقاويل عن التحاق الأخ جورج بمجموعة إرهابية وما إلى ذلك، لكن الأهم من ذلك كله هو ما يحدث في وادي الجنّ الذي لا يبعد كثيرًا عن قرية "عتابا" وديرها العتيد. إذ تنحلّ العُقدة الروائية وتتكشف خيوطها حينما نعرف من ملك الجن: "أنّ هناك تسعة أيام في السنة سمّاها بالأيام الخضراء يسمح فيها بالزواج بالإنس ومطارحتهم الغرام في الهواء الطلق".
عندها نفهم أن مجيء تيريزا إلى قرية عتابا كان بإيحاء من أمها أنجيليا التي تزوجت إنسيًا ذات يوم وهو ميخائيل عواد لكنها وجدت نفسها مضطرة لأن تعود إلى وادي الجن كي تزوّج ابنها من إحدى الجنيات القريبات لكنه فرّ واختبأ في مكان قريب من الوادي. وحينما جاءت تيريزا مع الدرويشة أم حبيب لحفل الزواج في وادي الجنّ عرفت أن ملكة الجان هي أمها أنجيليا وإلى يسارها أغسطينو بينما يجلس إلى يمينها "حنى نيّا" الذي أحبّ تيريزا وفرّ منها ذات يوم دون حجة أو ذريعة لكنها شعرت بنتوء في ظهره كأنه جناح ذكّرها بالجناح الموجود في ظهر أغسطينو، هذا الكائن الذي أحبته لكنه جاءها محملاً بفكرة الانتقام منها لكن هذا الانتقام تحوّل إلى حُب جامح لم يستطع كبحهُ أو السيطرة عليه فعاد من حيث أتى لتنتهي القصة برمتها.
أما النهاية التي رسمتها مريم مشتاوي فقد جاءت على الشكل الآتي حيث اقترح أغسطينو على تيريزا أكاديا أن تتزوجه وتعود معه إلى وادي الجن.
أما الملكة أنجيليا فلم تؤيد فكرة الزواج لأن أغسطينو سبّب لها حزنًا كبيرًا لكنها طلبت منها أن تصفح عنها، وتأتي لزيارتها مع الدرويشة أم حبيب كلما تسنّى لها ذلك.
ويبدو أن تيريزا أكاديا التي أحبت شخصين ينتميان إلى عالم الجن وهما أغسطينو و حنى نيّا ومارست معهما الحُب قد اكتفت بهاتين التجربتين المريرتين مقابل استعادة أمها التي ربّتها ودفعتها الى ترك بورتوفينو والعودة إلى عتابا في أقل تقدير كي تكون على مقربة من عمّتها القديسة بركة وعلى مشارف وادي الجنّ الذي يحتضن أمها الثانية التي لم تغب عن ذاكرتها على مدى سنوات الطفولة والصبا والشباب.
وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أن مريم مشتاوي يمكن أن تكون روائية ناجحة لأنها تمتلك لغة معبِّرة قادرة على إنتاج ثيمات رئيسة وثانوية لكن هذه الثيمات الرئيسة يجب أن تظل متوهجة على مدار النص الروائي دون أن تخبو هنا أو تنطفئ هناك، فالثيمة الرئيسة هي أشبه بالشرايين الدقيقة التي يجب أن تمرّ بجسد الرواية برمتها. كما تمتلك مريم مشتاوي القدرة على إنتاج بنية روائية متراصة أساسها الحبكة، وتطور الأحداث، ونمّو الشخصيات بطريقة معقولة لكن المشكلة في هذه الرواية تحديدًا تكمن في المناخ الخرافي الذي خلقته الكاتبة ولا نستطيع أن نصدّقه بسهولة، والمشكلة الثانية تتجلى في نهايتها غير المقنعة التي تمثلت في رفضها الزواج من أغسطينو الذي اعتذر لها، وطلب منها أن تتزوجه، وتعود معه إلى وادي الجن لكنها رفضت هذه الفكرة جملة وتفصيلاً، وقررت العودة إلى قريتها المُختلَقة علّها تشرع في قصة غرامية جديدة مع كائن إنسيّ يعيد اليها بهجتها المفقودة.