ادب وفن

مدفأة حميد الربيعي / ياسين النصير

أيقظت كلمة الروائي حميد الربيعي "الدفاية" فيَّ، التصور النقدي للمكان، ودوره الاستعاري الذي طالما أهملناه ونحن نقرأ مثل هذه السرديات الحميمية التي تجمع بين استعارتي "العاطفة والدفء" كما يقول كريستوفر جونسن، أي تلك الحالات التي تندمج فيها التجارب الذاتية "غير الحسية الحركية" من جهة، والتجارب "الحسية الحركية" من جهة أخرى. فتجربة حميد الربيعي مع المدفأة، مستمرة منذ الطفولة ممثلة بـ" عاطفة "الأم" لتندمج بالتجربة الجسدية له بـ"دفء"؟.
"نقترب حد الالتصاق بالدفاية". كما لو كانت الصورة "نقترب حد الالتصاق بجسد الأم"، عندما تكون الأم دافئة ومعها رغيف خبز". بعد هذا الدمج بين الاستعارتين": "الحالات أمكنة"، "عاطفة ودفء" تبرز مرحلة التمايز، وفيها يصير الأطفال قادرين على فصل العاطفة عن الدفء، هذا الترابط بين العاطفة والدفء: يولد استعارة جديدة هي "الأمان"، "البيت الذي فيه مدفأة لا تقطنه الأشباح فهي تخاف طقطقة الجمر والخشب"، وتبقى صورة الدمج بين الاستعارتين قائمة حيث سيقود الدمج الطفل لاحقًا إلى أن يتحدث عن " ابتسامة دافئة"، أوعن "صديق قريب"، أو عن "حالة نشوى" أو علاقة حميمية، أو نجاح في عمل، هذه الحال ارتبطت عندي نقديًا بقضايا تولدت من الاستجابة المباشرة لاستعارة "الحالات أمكنة"، فما نشعره بالأمن في حضرة حرارة الأم والمدفأة، هي استعارة كونية، أي تلك الأمكنة التي تولد "الحكاية"، "من كان يروي؟ كل ليلة واحدة، لا تختلف الصورة بيد أن لغة الحكي تختلف، فحينما تكون الأم أو العمة فإن الصرامة جاهزة". وعندما تكون الشخصية "حميد" "في بيت دافئ"، ويستمع لـ "حكاية"، ستختلف الصورة عندما يملك حميد "بيتا دافئًا". الدفء في الاستعارة الأولى مكاني، "في" والدفء في الحال الثانية ملكية "عند". هاتان الاستعارتان البدائيتان تلازمان الإنسان منذ ولادته، وحتى نهاية عمره البايولوجي. لأنَّهما من منح الطبيعة وخيالها المادي، فعندما يرضع الطفل ثدي أمه، تتولد عنده عاطفة "الدفء والأمان". لأن الأم تستعير قواها البايولوجية من ميتافيزيقيا الطبيعة، ولأن التركيب البايولوجي للكائن الحي هو جزء من بنية الطبيعة الكونية. سيكبر الطفل، وتتحول استعارة الدفء الأمومي والأمان، "حالة" مكانية عامة "في" كـ "نقطة جذب لكل العائلة". فالاستعارة المكانية، هي " تلك التي يدق لها القلب مع كل وقفة في السرد"، عندئذ تتحول إلى استعارات أكبر وأوسع، "المدفأة نار البيت الموقدة والمقدسة".
وسيتحدث الإنسان عن العلاقة الدافئة مع أبويه وأخوته، وأصدقائه، بوصفها علاقة غذاء و"دفء" للروح والجسد، "كم اقتربنا لحد الالتصاق بالدفاية، مخافة أن يأخذنا شبح البرد بعيدًا عن جو الدفء"، استعارة شبح البرد، هو تمثيل للعدو الخارجي الذي يهاجم حميمية "البيت" الداخلية وما يتولد "فيه" من "حكاية". سيتحدث الطفل لاحقا وهو يكبر عن: "الحب" مستعيرًا العلاقة الحميمية مع "دفء" الحبيب، سيتحدث عن الصداقة مستعيرًا "دفء" المساندة، سيتحدث عن النجاح مستعيرا "دفء" الاستمرار، كل هذه الحالات إذا كانت تعني "في" فهي استعارة لـ "الحالات أمكنة"، واذا كانت تعني "عند" فهي استعارة تملك. وفي كلتا الحالتين تتولد استعارة كونية مركزية هي "الأم موقدًا"، "عندما تكون الأم فهي دافئة ومعها رغيف خبز ساخن، قوري الشاي لا يفتر عن الحرارة". عندئذ ستولد سلسلة من الاقتضاءان التي تولدها هذه الاستعارة التي ترتبط بتدرجات حياة الإنسان، "الدفء أمان"، وستبقى رمزية المدفأة مولدة لأشكال عديدة من استعارة "الأمن، الدفء"، الحميمية، مثل استعارات "دفء العلاقة الجنسية، دفء الحب، دفء العاطفة، الثقة الدافئة، دفء الصداقة، دفء الرضى والقناعة، ودفء الاستقرار...الخ". ويبقى ثدي الأم تنورًا دائم التوهج والمنح، ليصبح ثديا الرافدين ثديًا للعراقيين، حيث يتغذى الجميع من مياههما. وستتولد استعارات ثانوية عديدة نتيجة من وهج الغذاء "حليب الأم" عبر النار الطعام، أو نار الأمان، أو نار الفنار، او نار المشاعل الليلية للألعاب، أو نار المجوس وهم يعبدون رمادها ولهبها. ويبقى دفء العلاقة مع الأشياء البيتية حميميًا أيضًا، خاصة الاحتفاظ بـ الأشياء الأثرية، أو من موروثات الآباء. عندئذ يتغذى كل شيء من "دفء" الأمومة، ويتغذى من مكانية "جوار المدفأة".
هل يمكن استعارة الثدي مدفأة كونية؟ بالطبع سيكون المنح حارًا في كليهما، "الثدي والمدفأة" وستتولد عنهما علاقات لأحلام يقظة الحرارة لتشمل الطبيعة والإنسان. ان ما يمنحنا خيال المادة؛ هو التجاوز لميتافيزيقيا حدود الاشياء والدخول إلى جوهرها.
في البعد الميثولوجي لمثل هذه الاستعارات الغائرة في الطفولة، والمكتسبة بشكل لا واع من قبلنا لاحقًا، تتأكد صورها حياتيًا عبر تصوراتنا عن الأشياء الحميمية، "الدفاية" عندئذ ستتسع استعارة الدفء، ويتعمق حضور أشكال منها في حياتنا اليومية، وتخرج الاستعارة من نطاقها الأسري والأمومي، إلى السرد والشعر والثقافة، وعندما تصبح الأمكنة صنوًا للحياة المطمئنة، تختلط مشاعر الشخصية بحميمية أمكنتها، عندئذ يمكن للمؤلف المشبع بمحليته - ومن خلال الصور المحلية - أن يكتشف عالمية أفكاره.
ماذا سيحدث في المجال النقدي لو أطلقنا أفق استعارة "التدفئة ثقة"، ونصيّرها حالة اجتماعية ، أو علاقة خصبة بين ضفاف مختلفة، حينئذ سيتسع مدى الشعرية ويصبح الدفء منحة سماء، وخصوبة أرض، وأغنية عشق ، وترنيمة حزن.
هذه الطاقة الهائلة لاستعارة الصور الحميمية المتجسدة في حياتنا، بإنهاض الصبوات الدفينة فينا، تلك التي ابتدأت من أول ملامسة لثدي الأم، وانتهت بأخر ملامسة لثدي الأرض..
في قصيدة للسياب "في الليل" حيث الزمن المتراكم والمتخلف من الإحساس بموت الأم، والمرض المصاحب لجسده، عبر استعارة "الحالات أمكنة" نجد أنَّ كليهما يعيشان في فضاء الغربة. "الأم" في فضاء القبر، والسياب في فضاء لندن للعلاج، ويعمق السياب الفضاءين بالأبواب الموصدة ، على الأثنين، وما يغلف "الحالة مكان" من غيم ومطر وضباب، وأبواب موصده، ومن لا صديق يطرق الباب. عندئذ يأتيه صوت الأم من أعماق الأرض، أن "تعال"، لا تخشى الموت، ثمة دفء لنا نحن الاثنين، وثمة كفن دافئ يكفينا للدثار، وثمة زاد يكفينا من ماء صاد. "الخرنوب". عندئذ ترتسم صورة كونية للكيفية التي تتحول استعارة "الحالات أمكنة" الى تراجيديا ؟
كان هذا السؤال واحدًا من مضاعفات القلق الإنساني من أن الدفء لا يقتصر على الحياة فقط، بل يستمر حتى في أحلام اليقظة.. حقيقة مدفأة الروائي الخلاق حميد الربيعي أعادت تركيب صورة الطفولة المستمرة فينا، لتدمجها في حقول فضاءات السرد المختلفة التي تتأرجح بين "في" و"عند" اي بين استعارتي:"حال القيامة، وحال التملك". المدفأة الكونية هي أمنا جميعًا، كي نعيش في حالة الفضاء الحميمي "في"، علينا نعيد أمامها وفي حضرتها سرد الحكايات، وحين نغفو "في" حميمية حرارتها، ثمَّة ترنيمة أزلية يرسلها ثدي الأم عبر "الحالات أمكنة". عندئذ سنحمل معنا هذا الدفء ونحن نغذ السير إلى موطن الحرارة الكونية في العوالم السفلى.