كنت وقتها قد أكملت سنتي الثامنة وثلاثة عشر يوما حسبما دون موظفو الإحصاء أعمارنا، نحن من توحدت موالديهم في الأول من تموز ولعل عددنا فاق ثلثي نفوس العراقيين آنذاك، وبات تاريخا رسميا، وكأن أمهاتنا قد وضعن مواليدهن معا في ذلك التاريخ، رغم أنوفنا جميعا، مواليدا وأمهات وأفراد مجتمع شبه أمي. إن لم تكن الأمية تضرب آطنابها في ذلك الوقت بكب تفاصيل المجتمع. كانت صبيحة الرابع عشر من تموز وكعهد أسرتي بتكليفي، أنا الطفل الصغير والأضعف في الأسرة، صبيحة كل يوم، حيث يظل أخوتي ينعمون بنومهم وأنا المسكين من يكلف بالذهاب لجارنا السيد الويس، حيث تبقى زوجته في المنزل لبيع كبة البرغل لساكنة الحي، في حين يخرج هو كعادته يوميا إلى الضفة الأخرى من السدة، من مدينة بغداد بوجهها الاخر، بشوارعها ونظافتها أزقتها، خلافا لأوضاعنا البائسة، وفجأة دخل الرجل داره وجسده يرتعش، فوضع قدر الكبة ولوازمه الأخرى وهو يصرخ بصوت متهدج، لا تبيعي أي شئ اليوم يا امرأة وأغلقي باب المنزل، وكأنه لم يرني من شدة رعبه، وحين سألته عن السبب، أجابها وهو لم يزل في حالة من الهلع، إنهم قتلوا الملك وعائلته، إن الثورة قد قامت ضد العائلة المالكة، فأطلقت زوجته صرخة مدوية، لا أعرف، هل هي صرخة فرح آم رعب، وطلبت مني الخروج في الحين بعد أن زودتني بطلبي، لكنني لم افهم أي شئ سوى مقتل الملك، الذي كنت قد رايته يوم فيضان بغداد، وهو يحمل كيس التراب أسوة بالناس، لمنع الطوفان الذي كان يهدد بإغراق بغداد، دون أن تتخذ الدولة أية إجراءت لدرء الخطر والذي كان يتكرر كل اذار ونيسان من كل عام. أسرعت لدارنا وأخبرتهم بما سمعت، فهاجت العائلة وماجت، وأسرع أبي لفتح الراديو نوع فيليبس الذي كان قد اشتراه ليجتمع هو وأصدقاؤه لسماع الأخبار والأغاني وبرامج صوت العرب، كانت تصاحب الراديو بطارية بنصف حجم الجهاز تسمى بيريك، وفي الحين لعلع صوت المذيع ببيان إعلان الثورة الذي تكرر لعدة مرات حيث علمت فيما بعد انه كان صوت عبد السلام عارف تصاحبه الموسيقى الحماسية. بدا الجيران بالمجئ لدارنا لسماع الأخبار المزلزلة، حيث لم يحتكم أي منزل على جهاز مذياع والحقيقة، أنها لم تكن منازل بل بيوت طينية تغطيها البواري المصنوعة من خوص سعف النخل، تسمى صرائف خلف السدة**، فهلل أخي الأكبر فرحا وشرع بالهتافات بحياة العراقيين ويوم النصر، وما عرفنا من أين له هذا الخزين وبهمة الثوري الفطري، ارتدى ملابسه على عجل دون أن يتناول الكبة التي أحضرتها، وطلب مني اصطحابه لأنه كان يحبني جدا، خرجنا نحث الخطى مرتديا دشداشتي وخفا قديما، حتى عبرنا السدة ووصلنا القصر الأبيض وإذا بطوفان البشر قد اجتمعوا وكأنهم في هرج ومرج، وهم يهتفون بحياة الحزب الشيوعي، وبقادته الميامين ممن قضوا على مذبح الحرية، ويطلقون شعارات ثورية لتمجيد قادة الثورة وضد حلف بغداد وأمريكا والامبريالية العالمية وسواها من الهتافات التي لم افقه معانيها إلا لاحقا. استمرت المظاهرات في ذلك اليوم القائظ دون أن يشعر الناس بلفحة الشمس الحارقة، فأخذت ابكي من شدة الحر والعطش وأجساد البشر الملتصقة بعضها ببعض، دونما إحساس بقسوة الحرارة، فأسرع أخي لجلب الماء ليطفئ لهيب العطش، تمالكت نفس خوفا من غضبه، وشرعت مع الهائجين اردد ما يقولون دون أن افهم معنى ما أقول. مرت الأيام سريعا، وأخذت الأحداث، تتوالى وإذا بي افهم من خلال الاجتماعات الحزبية التي تكثفت في دارنا مع بعض أقران أخي من الرفاق الشيوعيين، أن احتقانات هائلة راحت تتفجر بدواخلهم بعد أن أخفوها عن اقرب الناس إليهم بسبب السلطة القمعية وظروف العمل السري. تلك كانت أبجديات الوعي السياسي بعفويته وحماسه وصدق أحاسيسه والتي شكلت البذرة الأولى للتعلق بفكر الطبقة العاملة وكل المحرومين، وما زالت تلك المشاعر النبيلة تعتمل بوجداننا، رغم بلوغ درجات من النضج السياسي الذي عمق القناعات بذلك الفكر الثوري الرصين والنقي، نقاء الذات البشرية بصدق انتمائها وعمق تعلقها بابلغ الصيغ في التضحية من اجل الحفاظ على الثبات على خطى المبادئ النبيلة وشهداء الحزب الأبرار. بعد قيام الثورة بشهرين، وبعد أن أخذنا نتعرف على مفردات جديدة من القيم الثورية ، شرعت في دراستي الابتدائية في سن متأخرة نسبيا، شأن غالبية أبناء المسحوقين، وخصوصا من قاطني صرائف العاصمة، وكانت مدرستي تسمى مدرسة الطليعة، بعد أن تم تغيير اسمها بعيد الثورة، إذ كانت تسمى قبل الثورة مدرسة اليعربية، وكانت تقع خلف القصرالابيض، قرب وزارة البلديات، كانت سنة دخولي المدرسة تسمى سنة الزحف، حيث سمحت الثورة بانتقال الراسبين من السنة السابقة إلى الصفوف الأعلى، كهدية من الثورة لأبناء العراقيين، رغم تحفظنا على هذا الإجراء الذي اضر بسمعة التعليم في العراق نسبيا واتخذه أعداء الثورة ذريعة للنيل من الثورة الشعبية المظفرة. كان الشارع العراقي أيامها يغلي بالشعارات الجديدة والفعل النضالي والمسيرات التي ما انفكت تجوب شوارع بغداد وكل مدن العراق، وبما أن مدرستي كانت على بعد خطوات من القصرالابيض، الأمر الذي جعل إدارة المدرسة تخرجنا للاصطفاف على جانبي الطريق كلما قدم زائر مهم للعراق وهكذا كانت مشاهداتي لزعيم الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم، كلما حل مسؤول كبير على الزعيم وعلى العراق، أمثال الملك محمد الخامس ملك المغرب، واحمد سيكوتوري رئيس اندونيسيا، وجوزيف بروز تيتو رئيس يوغسلافيا، وعباس فرحات رئيس وزراء الجزائر وغيرهم. تلك كانت بداية تعلقي وحبي للزعيم الخالد عبد الكريم قاسم وتنامي حبي للحزب الشيوعي العراقي العتيد. هذا باختصار شديد بعض ما رسخ في ذاكرتي عن الثورة ويوم تفجرها وزعيمها الراحل وبعض المحطات وهو غيض من فيض وما يسمح به هذا الحيز المتاح. اصدق الأماني واحلي التبريكات بحلول هذه المناسبة الغالية للثورة المباركة وزعيمها ورفاقه شهداء العراق والحرية، والمجد لشهداء الحزب الشيوعي الميامين، وكل تموز والعراق والعراقيون بخير وسلام وتقدم وامن مضطرد. **- عنوان روايتي التسجيلية التي توثق لأهم أحداث العراق في تلك المرحلة التي تحمل عنوان( إشـــــــــــــــــــــــطيط) وهي تحت الطبع