مدارات

الشيوعيون يستذكرون "الغموكة".. الهور والثوار

عباس الشطري، علي عبد الكريم حسون
أن تستحضر التاريخ النضالي للحزب الشيوعي العراقي كله بصورته المشرقة خلال سنة واحدة في ذكرى ثمانينيته الخالدة، لهو أمر صعب حقا يتطلب جهداً استثنائياً. فتاريخ الحزب كبير وواسع، ومحطات العمل والنضال لا تعد ولا تحصى، بالرغم من أننا في لجنة الاحتفالات بالذكرى الثمانين للحزب، استذكرنا العديد من المحطات النضالية ورموزها. وقررنا أن نختتم هذه الذكرى بإقامة مهرجان استذكار لانتفاضة ثوار هور الغموكة.
هكذا جرى الاستعداد لفعاليات "الغموكة"
قبل الشروع في وضع برنامج الاحتفاء بثوار الغموكة، زار وفد من لجنة الاحتفالات محافظة ذي قار، حيث توجه إلى موقع الحدث في قضاء الدواية بالمحافظة، وألتقي قائممقام القضاء الذي رحب كثيرا بالوفد وأشاد بدور الشيوعيين. ولم يكتف بذلك، بل أصر على مرافقة الوفد إلى مواقع عديدة داخل القضاء حيث يمكن إقامة الاحتفالات، واضعا كل التسهيلات أمام الوفد من أجل إنجاح الاحتفال.. كيف لا، والدواية واهوارها وأهاليها يحتضنون الحدث؟
شهران كانا هما المدة بين الاتفاق على فعاليات الغموكة، وبين الموعد المقرر لها.. إذن ليس أمامنا وقت طويل. وزعت المهام على مجموعة رفاق وجرى تقديم الدعوات للمسؤولين والمواطنين، ورفعت لافتات للإعلان عن المناسبة، وخاضت فرق شبابية شيوعية في الحديث مع الناس عن الفعالية؛ تاريخها والهدف منها.
اليوم الأول.. هكذا انطلقت الفعاليات
في صباح يوم الخميس الموافق (25/12/2014)، أقبلت حافلات تقل عشرات المشاركين في الفعاليات على مدينة الناصرية قادمة من مختلف محافظات البلاد.
وفي صباح اليوم التالي (الجمعة)، توجه العشرات من المشاركين إلى هور الغموكة في قضاء الدواية؛ رفاق من قيادة الحزب ومحليتي الناصرية والشطرة، ووجهاء وشيوخ كبار ومناضلون قدامى.
المحطة الأولى كانت في منطقة (عبادة الردة)، وحين وصل المشاركون، توافد أهالي المنطقة مرحبين بالشيوعيين، حيث تحدثوا عن شاهداتهم للانتفاضة، وكانوا يتذكرونها وكأنها وقعت البارحة !
فالشيخ كنو ناصر، وهو من ابناء المنطقة وأحد شهود العيان للحدث البطولي، تحدث عن اخيه الشيوعي ثابت ناصر، وعن قصة اعتقاله فيما بعد بسبب مشاركته في الانتفاضة مع رفاقه الاخرين. وكيف تحرك الثوار غير آبهين بقوة السلطة وجبروتها واخذوا يجوبون الهور محرضين على الثورة، حيث قال: في هذا المكان كان المخفر (مركز الشرطة) وبقربه مدرسة عقبة بن نافع.. هنا استولى الشيوعيون على السلاح.. كل شباب منطقتنا كانوا مع الشيوعيين، لأنهم مدافعون عن حقوق الفلاحين.
وفي هذه الأثناء.. انبرى الرفيق المهوال "ابو طارق" زياد خلف بصوته الهادر:
"عزيز الحزب عدنا واغلى من الروح
وجثير عللحزب احنا حملنا جروح
الشعب شاهد علينا وتشهدلنه السوح
هذا الهور وكردستان.. الشاهد ثابت".
وبعد وضع أكاليل في الموقع، وحديث الرفيق جاسم الحلفي عن نضالات الشيوعيين في المنطقة، انتقلت حشود المشاركين لزيارة موقع المخفر الثاني في منطقة (ال بوهان) ووضعوا إكليلا من الزهور على تل صغير وطئته إقدام الشيوعيين الثوار آنذاك.
وبعد مسافة نصف ساعة تقريبا داخل الهور وصلنا الى ارض "الرهيوية" في منطقة "البو عساف" حيث موقع المعركة الخالدة وسقوط الطائرة.
شهادات من الأهالي
تحدث الشيخ خلف "ابو مالك" وهو شاهد عيان أخر على الحدث إذ كان في العشرين من العمر وقتذاك ، قائلاً: "سمعنا ان بعض الشيوعيين قدموا من هور الغموكة، وجاءوا محاذين لمجرى نهر (جويميسة) وشعر بهم اخرون وتم تداول خبرهم بين الناس وقد عرفنا من خلال الرعاة ان الجماعة موجودون هنا، وقد طلبنا منهم ان لا يخبروا احدا ثم توجهنا إليهم وأعطيناهم الأمان وقام أهالينا بمدهم بالطعام أربعة أيام، قدمناه لهم كعراقيين ومناضلين الى جانب الشعب والفلاحين وتعهدنا بان نحفظهم وان نسترهم ، وفيهم متعلمون و مهندسون".
وأضاف أنه "حينما سألناهم عن القصة، قالوا تعرضنا لضربة ووصلنا الى هذا المكان واسمه (ساكي) حيث احتمينا بغابة الشوك والزور في منطقة الرهيوية، وفي وقتها جاءت قوات الحكومة لتتحرى عنهم، ووضعت مكافاة لمن يدلي بمعلومات عنهم كما ان استخباراتهم جدت في البحث عن اي معلومة عنهم وقد تمكنت الحكومة من الاستدلال عليهم بالصدفة واطلقت عليهم النار كما استقدمت قوات من شرطة الدواية ومن المحافظة وناحية الاصلاح، وحركت الحكومة بعض العشائر ولكن العشائر لم تطلق النار عليهم فجلبت الحكومة قوة عسكرية وحدث إطلاق النار ولكنهم لم يستسلموا وحتى قبل أن تأتيهم قوة عسكرية أو سرية المغاوير".
وتابع قائلاً: لقد أصروا على أن لا يستسلموا مهما كان، وطلبوا حضور محافظ الناصرية للتفاوض معه، فجاءت طائرة قيل لهم ان فيها المحافظ، وحطت الطائرة على مسافة قريبة، بعدها زحف احد الجنود ورمى الثوار برمانتين يدويتين سقطت واحدة في الطين أما الثانية فقد رميت تلقفها أحد الثوار، بيده التي بترت، حينها حلقت الطائرة ورماها احدهم برشاشة، وبدأ الدخان يخرج منها فسقطت هنا.
ويسترسل في الحديث فيقول : لقد كان المقاتلون يقولون للعشائر: نحن لكم ومعكم ، نحن لسنا ضد الشعب واتينا لمقاتلة الحكومة مطية الاستعمار.
في حين اشاد الشيخ خلف ابو مالك بالحضور هنا معبرا عن امتنانه للشيوعيين واستذكار تاريخهم المجيد داعيا كل المواطنين والسياسيين الى المحافظة على الوطن الغالي.
اما الشيخ ابو سعد شمخي جبوري هزاع، فقال: كنت شاهدا على الحدث وأتذكره جيدا فقد كان عمري 16 سنة وفي هذا المكان سقطت الطائرة بعد ان أخذت تدور ، فرماها الابطال الشيوعيون برشقة رصاص قتل على اثرها الطيار. واتذكر انه اعتقل عدد من الاشخاص بينهم والدي لتعاونهم مع الثوار فقد اعتقل كل من (شيال مالك وزياد كطان وخلف حاضر ومحمد عنبروظاهر حسين وعطية لفته وشنيور عذاب فضلا عن والدي جبوري هزاع). واعتقلوا بعد ثلاثة ايام بعد ان تحرت السلطة عن المتعاونين مع الثوار.
تقدم أحد الفلاحين, وهو في العقد السادس من العمر للحديث بالتفصيل وعبر ذاكرة متوقدة عن سير الأحداث التي كان شاهدا عليها وهو صبي يافع, وكيف أوصل سكان المنطقة للثوار مايأكلونه غير آبهين بالمخاطر قائلاً: هذا الموقع الذي تشاهدونه الآن والمزروعة فيه نخيلات خضر هو المخفر الأول للشرطة الذي هاجمه الثوار , بغية الأستيلاء على سلاحهم وعدم الحاق اذى بهم. دعونا نسير أمتارا قليلة , يكمل الفلاح , لتشاهدوا الموقع الآخر الذي سقطت فيه طائرة الهليكوبتر التي هاجمت الثوار, بعد أن وجهوا رصاصاتهم نحوها, فهوت الى الأرض وتفجرت.
وأضاف: لم تتركنا السلطات لحالنا فقد شنت حملة اعتقالات علينا نحن الأهالي لأننا ساعدنا الثوار بالأكل والسكاير .
أحتفال الدواية الكبير
بعد هذه الوقفة، انتقلنا إلى مركز القضاء حيث الاحتفال المركزي ووجود المئات من المواطنين والرفاق وقد غصت بهم أروقة منتدى الشباب وقاعاته حيث يشهد احتفالنا العديد من الانشطة المتنوعة فهنا معرض للكتاب وهناك مرسم حر وهنا احاديث وندوات في القاعة الرئيسة.
في المنتدى كان الاحتفال الكبير بحضور عدد من وجهاء وشيوخ المنطقة فضلا عن المناضلين القدامى وابتدأ الحفل بالنشيد الوطني وتحية الشهدا بالوقوف دقيقة صمت اكراما لهم ثم تليت كلمتا قيادة الحزب ومحلية الشطرة بعدها انبرى الشاعر الكبير عريان السيد خلف الى القاء قصيدة استذكار لنضال وبطولات الشيوعيين بعدها قدم الشاعر رياض النعماني قصيدة ايضا في حين قدم الفنان جبار ابو الود قطعة موسيقية، ثم جرى تكريم عوائل الشهداء والمناضلين، وقدمت مسرحية عن الحدث لفرقة لكش للتمثيل.
وقد أختتم اليوم الأول من الفعاليات على قاعة البهو في الناصرية بحفل فني كبير، وهو المكان ذاته الذي انطلقت منه احتفالاتنا بالذكرى الثمانين لتأسيس الحزب.
الزقورة والختام
في صباح اليوم التالي (السبت)، انتقل المئات من الشيوعيين الى زقورة اور التاريخية ، هنا كتب اول حرف في العالم القديم قبل اربعة الاف عام ، هنا كتب السومريون تاريخ العراق الاول.
احتفل الشيوعيون بزغاريدهم واغانيهم ودبكاتهم محيين احدى اهم دويلات المدن السومرية التي يعود تاريخها الى الالف الثاني قبل الميلاد. بعدها انتقل الجميع الى الحفل المركزي الذي ابتدا في الساعة الثالثة عصر من يوم السبت على قاعة بهو الناصرية الذي ازدان بشباب الناصرية ومواطنيها مع حضور رسمي كبير للسادة اعضاء مجلس المحافظة والسيد محافظ ذي قار الأستاذ يحيى الناصري .
ابتدأ الحفل بالوقوف دقيقة صمت استذكارا لشهداء العراق والحركة الوطنية، ثم القيت كلمة الحزب التي كانت معبرة بلغة غير تقليدية شدت الحضور، بعدها اعتلى الشاعران عريان ورياض النعماني ليصدحا باجمل القصائد، ثم بدأت الفقرات الاخرى من موسيقى ومسرح وغناء وتفاعل معها الجمهور.
بعدها اختتم الكرنفال بالاهازيج الشيوعية الجميلة مع توديع مهيب من المواطنين ، ففي الناصرية احتفى الشيوعيون وفي الدواية والشطرة بمآثرهم الخالدة.
توصية بإقامة نصب للثوار
المشاركون في مهرجان انتفاضة الأهوار والذين قدموا من مختلف أ نحاء الوطن خرجوا بتوصية بشأن اقامة نصب لثوار الأهوار , حيث طالبوا المسؤولين في مجلس محافظة ذي قار والمحافظ بايلاء الأهتمام الكبير بتأريخ الناصرية وأقضيتها والذي سطره أبطال المحافظة, ودعوا الجهات المعنية في الحكومة المحلية والأتحادية الى اقامة نصب يخلد هذه البطولات يطلق عليه تسمية ( ثوار هور الغموكة ) , ليبقى شاهدا للأجيال القادمة على مآثر أهالي ذي قار وثوارها.