مدارات

نحو موازنات سنوية رصينة وشفافة / إبراهيم المشهداني

تعرضت الموازنات السنوية للسنوات السابقة إلى الكثير من الملاحظات الجدية سواء داخل البرلمان او خارجه خاصة الأكاديميين والمهتمين بالشأن الاقتصادي لعل أبرزها عدم اقترانها بالحسابات الختامية الني يعدها ديوان الرقابة المالية وهي أداة ضرورية لاطلاع الرأي العام على جوانب الصرف وأداء المسؤولين عن التنفيذ في إنفاق التخصيصات المالية على المجالات المخصصة لها وحسن التدبير في هذا الأداء بعيدا عن الهدر المالي والفساد الذي يلازمه.
ولو قدر لهذه الميزانيات أن تفلت من قبضة حيتان الفساد خلال السنوات العشر المنصرمة لكان العراق متصدرا العديد من بلدان العالم الثالث في تطوره الاقتصادي والاجتماعي، والتناسب بين النفقات التشغيلية والنفقات الاستثمارية حيث أظهرت تلك الموازنات الميل إلى تضخيم الميزانية التشغيلية مما أدى إلى بعثرتها على موجودات استهلاكية لا ضرورة لها على حساب الميزانية الاستثمارية الأمر الذي انعكس بالبطء في النمو الاقتصادي في قطاع الإنتاج خارج إطار قطاع النفط، هذا فضلا عن الغموض الذي يكتنف الزيادات المتأتية من الفائض في إيرادات ا?بترول الناشئة عن الفروقات في أسعار البيع حيث إن سعر البرميل من النفط قد قدر في موازنة 2013 بـ 90 دولارا فيما كان يباع بحدود 100 دولار وغموض جهة صرف الأموال المعادة من ميزانيات المحافظات نتيجة سوء إدارة الأموال المخصصة للمشاريع الاستثمارية إلى غير ذلك من الملاحظات.
ولئن أصبحت هذه الملاحظات دروسا واضحة أمام المسؤولين فحري بهم دراستها بإمعان وتشذيب الموازنات المقترحة لعام 2014 من العيوب التي صاحبت الموازنات السابقة من اجل أن تؤدي الموازنة العامة الفيدرالية دورها الاقتصادي والاجتماعي . حيث تنهض بدورين أساسيين الأول يتمثل بتحقيق نمو اقتصادي واعد ينقل الاقتصاد من واقعه الاستهلاكي الذي يعتمد مصدر إيراد رئيسيا إلا وهو النفط إلى مستوى الإنتاج الشامل الذي تقرره ديناميكية القطاعات الاقتصادية المختلفة بما فيها القطاع الحكومي الذي ما يزال له القدح المعلى في العملية الاقتصادية ،?فلم يكن اقتصاد السوق الذي ثبت دستوريا وفقا لنصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، قد وجد أي تعبير ملموس على ارض الواقع سوى عبارات عامة يجري تداولها مع المؤسسات الاقتصادية الدولية، والدور الثاني ينصرف إلى توزيع الثروة بشكل عادل لكافة العراقيين مما يرفع من مستوى الطبقات التي تقع دون خط الفقر او على جانبيه وكلاهما يشكلان اكثر من 60% من سكان العراق إلى مستوى العيش الذي يليق ببلد يحتل او يكاد المركز الاول في الاحتياطي النفطي بين دول العالم وتزيد ميزانيته السنوية على 100 مليار ما تعادل ميزانيات دول الشرق الأو?ط مجتمعة . كما أن الموازنة الفيدرالية بوجهتها التنموية لا بد أن تعمل على خلق نمط تنموي جديد يختلف عن الأنماط التنموية التي درجت عليها معظم البلدان النامية التي وصلت إلى طريق مسدود لعجزها عن حل المشكلات الاجتماعية الملازمة لها المتمثلة بازدياد الوزن النوعي للعديد من الفئات الاجتماعية والتي تسمى بالفئات المهمشة التي يبدو أن الفكر النظري ما يزال عاجزا عن إيجاد توصيف دقيق لهذه الفئات وتحديد هويتها وهذه مسؤولية جديدة تقع على عاتق الفكر الاقتصادي في العراق .
ومن البديهي أن الموازنة العامة هي أداة تنفيذ السياسة المالية للدولة وأداة للتخطيط على مدى عام وفي الواقع فان التخطيط لفترة قصيرة لا يمكن أن يحقق نموا اقتصاديا ناجحا وفي هذه النقطة المفصلية قد تجاوزت الموازنة وظيفيا دور وزارة التخطيط في رسم الخطط والاستراتيجيات والذي شل تماما من خلال الفهم الخاطئ لدور الموازنات السنوية في تنفيذها للسياسة المالية وفقا لقانون الإدارة المالية والدين العام رقم 95 لستة 2004 المعدل الذي يقتصر على تنظيم الإجراءات التي تحكم تنمية وتبني وتسجيل وإدارة وتنفيذ الموازنة الفيدرالية للعرا?، والأمور المتصلة به والتي تشمل القرض العام والضمانات والرقابة الداخلية والمحاسبة والتدقيق وبشكل جوهري مبادئ الشفافية والانسجام عند تهيئة وتنفيذ تلك الموازنة حيث أن مبدأ الشفافية يستلزم نشر معلومات الموازنة وفق المعايير المقبولة دوليا وبطريقة تسهل التحليل وتعزز الثقة بها.
وإذا كانت الموازنة الفيدرالية تظهر جانبي الموارد والنفقات فان هذه النفقات المقتصرة على الإنفاق الحكومي ينبغي ان تنصب على النمو الاقتصادي والعمالة وتكافؤ الفرص أمام الشباب الذين يمثلون واحدة من اكبر الكتل في المجتمع العراقي فضلا عن الضمان الاجتماعي وضمان الحد الأدنى من الغذاء عبر استمرار آلية البطاقة التموينية ومعالجة مشكلاتها، والخدمات الصحية والتعليمية لمختلف الفئات الاجتماعية . ومن الجدير بالأهمية في هذا الإطار فإن الموارد الاقتصادية في المجتمع ينبغي ان تخصص للاستعمال العام وهذا يتم في الواقع بواسطة عمل?ة سياسية بدلا من جهاز السوق الذي يستحيل الركون إليه في عمليات التبادل بين الأفراد وعن هذا الطريق تحقق الموازنة الفيدرالية وظيفتها الاجتماعية في توزيع الثروة.
إن الرصانة التي يجب ان تتميز بها الموازنة العامة هي عملية تتطلب فنا عاليا في تحديد المفاهيم الرقمية للإيرادات والنفقات والتي يجب أن توكل إلى موظفين متخصصين يتمتعون بالخبرة العالية ورشاد العقل في وضع الموازنات التخمينية بعيدا عن العفوية والارتباك اللذين يعتبران بابا للفساد والهدر المالي لثروة الشعب كما ظهر في الموازنة المقترحة لمجلس النواب لعام 2014 مثلا التي ظهرت على الإعلام والتي تتكرر فيها نفس فقرات الصرف وكانت فضيحة بجلاجل لسلطة تشريعية تشرع لحياة الناس وتراقب وتحاسب. إن الموازنة الفيدرالية العامة بالن?ر لأهميتها الاقتصادية والاجتماعية تعتبر قضية رأي عام يتعين إشراك كافة القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأساتذة الجامعات والمكاتب الاستشارية في مناقشتها وإبداء الرأي فيها من اجل إخراجها بصيغة تحظى بقبول الشعب العراقي وتضع حدا للفساد والهدر المالي وهذا ليس بالشيء العسير.