نحن على اعتاب الانتخابات التشريعية في 30 نيسان 2014 في ظل حياة سياسية انتخابية يغيب عنها قانون العمل والنشاط الحزبي. انه غياب وتغييب مقصود لقانون احزاب ينظم الحياة السياسية في العراق. ويبدو ان معظم القوى السياسية العراقية ما زالت مصرة على افراغ الحياة السياسية من اهم عناصر الضبط عندما مارست وتمارس العمليات الانتخابية بمعزل عن وجود قانون ينظم عمل الاحزاب ويصادق على ايديولوجيتها وآليات عملها ومصادر تمويلها.
أسئلة
لماذا التزمت معظم الأحزاب السياسية العراقية باستحقاق إجراء الإنتخابات منذ 2003م والى يومنا هذا، لكنها في نفس الوقت مارست الترحيل والتأجيل لسن قانون الأحزاب؟ أنظر إنها –أي الأحزاب- تحتكم الى قانون رقم 97 لعام 2004م الذي أصدره بول بريمر مع أنه ذاته ينص على انتهاء صلاحيته بانتهاء المرحلة الانتقالية عام 2006م! مع العلم أنَّ هذا القانون ليس بقانون أحزاب بل هو إطار قانوني عام لتنظيم العمل الإنتخابي، أي أنها تعمل بقانون مهلهل انتهى مفعوله في 2006م دون الشروع بإقرار قانون أحزاب! هل الهدف هو التحرر من أي نص قانوني يضمن لمعظم الأحزاب الوصول الى السلطة وإحكام قبضتها والتحكم بمجرياتها ثم يصار الى سن قانون للأحزاب –في الوقت المناسب- فتكون هي المستفيدة منه بحكم الواقع مما يحول دون خلق منافسين سياسيين حقيقيين؟ وكيف يمكن ضمان انتخابات نزيهة وعادلة في ظل غياب لقانون أحزاب سمح للعديد من الأحزاب التموضع بالدولة وتسلّح بالمال والإعلام والسلطة؟ ثم أي تأسيس سليم لحياة سياسية مع وجود احتكاريات حزبية كبرى أنتجها نظام المحاصصة القائم على أساس المقاطعات العرقية الطائفية الحزبية؟ فالإقطاعيات الحزبية التي تشكلت في غيبة تامة من قانون ال?حزاب ستكون هي المستفيدة انتخابياً إذا ما استمر الحال على ما هو عليه أو في حال إقرار القانون إن تم إقراره،.. والحقيقة أنَّ الدولة اليوم تعاني من اقطاعيات حزبية لا تجد كوابح قانونية تحول دون ابتلاعها للدولة.
للتذكير
للتذكير نقول أنّ أهم خطيئة سياسية مارسها نظام صدام حسين المباد تلك المتصلة بإعدام الحياة السياسية في العراق من خلال اعتماد نظرية الحزب الأوحد في إدارة الدولة. لقد مثّل حزب البعث أكبر وأشرس إقطاعية حزبية عرفها العراق الحديث، ولم تغادر هذه الإقطاعية المشهد السياسي إلاّ بنحر المجتمع والدولة. لعل من أهم النتائج المباشرة للإقطاعية البعثية الإحتكارية هي، مصادرتها للتطور الطبيعي للحياة السياسية فكرياً وثقافياً وحزبياً ونخبوياً. لقد أنتجت الإقطاعية البعثية واقعاً تشريعياً وسياسياً وأمنياً صارماً لم يترك خياراً أم?م أي توجه سياسي معارض لنظرية الحزب الأوحد سوى التصفية التامة أو الإستقالة السياسية أو الهجرة والإغتراب لممارسة السياسة،.. وفي حين انعدمت كلياً الحياة السياسية داخل العراق، نشأت بالمقابل حياة سياسية في الخارج أقل ما توصف به أنها ملغومة ومشوهة وغير صحية، كونها بعيدة عن بيئتها وثقافتها وممارستها الجماهيرية الميدانية، وبعيدة عن ملامسة التحولات الجوهرية في بنية المجتمع، وواقعة تحت تأثير الهيمنة التي تمارسها الثقافات أو المصالح أو الأجندات لهذه الدولة أو تلك.
اشكالية حقيقية
ما هي وظيفة الحزب؟ إنها ممارسة الحكم من خلال نظام التداول السلمي للسلطة، عن طريق انتخابات حرة نزيهة مؤسسة على تعددية فكرية وسياسية حقيقية ومنتظمة وفق قانوني الإنتخابات والأحزاب وعلى قاعدة الحقوق المدنية والسياسية لمواطني الدولة. إنّ الحزب وحدة سياسية مدنية تستهدف الوصول الى السلطة وإدارتها من خلال برنامج سياسي معلن وواضح، فالحزب مؤسسة سياسية تسعى للوصول الى السلطة على أساس من مبدأ الحكم التداولي ووفقاً للقانون، فالحزب ليس مؤسسة أبوية بطرياكية شمولية تحتكر الدولة لتبتلعها.
وظيفة العمل الحزبي اشكالية حقيقية لم تعرف تنضيجاً على مستوى الفكر والإشتغال شرقياً وعراقيا، فكانت أن أنتجت هذه الإشكالية إشكاليات كبرى تتصل بالحياة السياسية في نظام الدولة الحديثة التي غابت عنها تقاليد العمل الحزبي فغابت عنها تقاليد العمل السياسي ففقدت الدولة شرط تطورها الجوهري، باعتبار أنّ الحياة السياسية رهن وجود مؤسسات حزبية فاعلة في ظل دولة القانون والمؤسسات.
طبيعة نظام الدولة
نظام الدولة وطبيعتها يؤثران بشكل مباشر على طبيعة الأحزاب السياسية في هذه الدولة أو تلك، فنظام الدولة الشمولي يختلف عن طبيعة النظام التعددي، ونظام الدولة المدنية يختلف في الجوهر مع النظام الثيوقراطي. تبعاً لذلك لا يمكن الحديث عن طبيعة الأحزاب بعيداً عن طبيعة النظام السياسي المعتمد للدولة. مثال على ذلك، لا إمكانية حقيقية لتطور الأحزاب الليبرالية في ظل نظام الدولة الثيوقراطية، ولا إمكانية فعلية لنمو وتسنم السلطة للأحزاب الوطنية العابرة لقارات الأعراق والطوائف في ظل نظام الدولة التوافقية العرقطائفية التي تقدس المكوّن على حساب مبدأ المواطنة،.. إنّ الممانعة هنا ناتجة بالضرورة عن طبيعة النظام السياسي الذي لا يسمح جوهره السياسي وآلياته التشريعية باختراقها،.. هذه تلازمية حتمية بين طبيعة نظام الدولة ونمط الأحزاب التي تتسيد المشهد السياسي وتمارس السلطة فيه.
مجرد ادعاءات
بدون وجود نظام ديمقراطي مدني متكامل في جوهره وآلياته ومنظوماته.. تبقى الديمقراطية مجرد ادعاءات للتسويق أو الإحتيال أو المراوغة، فالدولة المقعدة وفقاً للنظام الأبوي أو الشمولي أو الفردي او العائلي..الخ لا يمكن أن تشهد تعددية سياسية حقيقية تتطور لتداول سلمي للسلطة مهما تمسحت بقوانين للأحزاب أو قالت بحريات التعبير أو صرخت بحقوق مدنية وسياسية لمواطنيها، وستكون بالضرورة أسيرة لإقطاعية الحزب الواحد أو رهينة احتكارية الفرد والملكية العائلية للأرض والسلطة والثروة أيضاً. لا يمكن أن نشهد قيام حياة سياسية تحتكم الى المبادىء الوطنية الجامعة مع طبيعة نظام سياسي توافقي يقوم على أساس من فكرة المكون العرقي الطائفي. أيضاً، لا يمكن الوقوف بالضد من كارثة ابتلاع الدولة حزبياً مع وجود أحزاب الدمج بين الحكم والدولة، فأغلب الأحزاب لا تعرف وظيفة العمل الحزبي على أساس من كونه يتصل بالسلطة (الحكم) لا بالدولة ككيان ومؤسسات ووظائف عامة محايدة.
الإقطاع السياسي
هناك نماذج عدة لظاهرة الإقطاعيات السياسية، منها الإقطاعيات الملكية والأبوية التي تحتكر الدولة، والنموذج الأكثر شيوعاً والذي ساد قبل ثورات المنطقة كان نموذج الحزب القائد الأوحد الذي لا يعترف بأية شرعية سياسية غير شرعيته، فتحول الوطن وتحولت الدولة الى اقطاعية حزبية احتكارية بالمطلق. هناك نموذج آخر آخذ بالإنتشار بعد إقصاء ظاهرة الحزب الأوحد، وهو النموذج الذي ينتجه نظام الدولة التوافقية العرقطائفية التي تفرز لا محالة ظاهرة الإقطاع السياسي الحزبي، فقيام الدولة على أساس مبدأ المكون العرقي الطائفي سينتج أحزاباً موغلقة على أساس عرقي مذهبي فتكون هي المعبرة عن مجتمعاتها المحلية وهوياتها الفرعية. إنّ النظام التوافقي هو نظام دمج السياسي التمثيلي (مؤسسات الحكم) بالمجتمعي الفرعي (المجتمعيات العرقية المذهبية)، فتكون المحصلة قيام مجتمعيات سياسية تتصدر مجتمع الدولة، حينها يتسيد الحزب الأكثر تعبيراً وإغراقاً في المجتمعيات العرقية والطائفية الخاصة لينشىء إقطاعيته السياسية المبتلعة للقومية أو الطائفة أو الإثنية السياسية. هذا ما شهدته الحياة السياسية في العراق بعد 2003م، فلقد تحررت من إقطاعية حزب البعث الأوحد الذي ابتلع الدولة ل?قع أسيرة أحزاب عرقطائفية ابتعلت الدولة من خلال نظام المحاصصة العرقطائفي.
نظام المحاصصة
من مناشىء الإقطاع السياسي الحزبي اعتماد نظام المحاصصة، وهو نظام تفرزه بالضرورة الدولة التوافقية التي تقوم على توزيع مصادر السلطة والثروة على عدد المكونات العرقية الطائفية وليس على أساس المواطنة، فالدولة التوافقية دولة المكونات وليست دولة المواطنين المتكافئين. إنّ نظام المحاصصة في عمقه هو نظام يجسد ابتلاع المكون العرقي الطائفي لأمة الدولة الوطنية، وابتلاع الحزبي لمؤسسات الدولة الوطنية، فتنشأ لدينا بالنتيجة دولة الأحزاب المبتلعة للأمة والدولة معاً وليس أحزاب دولة معبرة بمدنية عن الأمة والدولة معاً،.. وهذا مايؤسس لإقطاعيات حزبية احتكارية متجذرة ستعيد إنتاج نفسها عند كل استحقاق تاريخي كونها تشتغل على أساس من تمثيل القومية والطائفة في نظام حماية المصالح، فتكون هي المستفيدة النهائية من نظام المحاصصة العرقية الطائفية، وقد شهد العراق أكبر نظام محاصصة عرقي طائفي حزبي على أساس من الديمقراطية التوافقية المعتمدة سياسياً تحت واجهات التوافق والتوازن والشراكة، ولأول مرة نشهد تحاصصاً علنياً لوزارات وهيآت ومؤسسات الدولة.
تحرير الدولة
تحرر العراق من ظاهرة احتكار الدولة من قبل الحزب الأوحد، لكنها اليوم أسيرة الإقطاعيات الحزبية العرقطائفية، ولابد من تحرير الدولة من ظاهرة الإقطاع فيما لو استهدفنا بقائها وتطورها ووحدتها، وإلاّ قادت ظواهر الإقطاعيات والإحتكاريات العرقية الطائفية الحزبية الى انهدام الدولة. النموذج اللبناني خير شاهد على تسيد الإقطاعيات السياسية (الحزبية والعائلية) القائمة على أساس من ديمقراطية توافقية تحاصصية طائفية، وهو نموذج اللادولة المراوحة في مربع التأسيس والمهددة كل لحظة بالإحتراب الداخلي والإستلاب الخارجي. الدولة امبراط?رية قوانين ومملكة مؤسسات وهرم سياقات لا يمكن أن تصمد مع ابتلاع مؤسساتها وتحاصص هيآتها واحتكار سياقاتها عرقياً وطائفياً وحزبيا. إذا ما استهدفنا –عراقياً- تماسك الأمة والدولة الوطنية، فلا مناص من اعتماد المواطنة الحقوقية والديمقراطية الليبرالية والتعايش القائم على أساس من تعددية شاملة، وقوانين وأنظمة تضمن قيام حياة سياسية سليمة وصحية وفي طليعتها قانون أحزاب عصري يضمن مدنية ووطنية الحزب السياسي ويضعه تحت طائلة القانون.