المنبرالحر

نهاية التاريخ وتطور الصراع العالمي بعد نهاية الحرب الباردة / خضر عواد الخزاعي

أن نهاية الحرب الباردة بين قطبي العالم الولايات المتحدة الأمريكية والأتحاد السوفيتي بعد إنهيار الأتحاد السوفيتي آب 1991 الرسمي يوم 19 بتوقيع رؤساء الجمهوريات السوفييتية على وثيقة حل الاتحاد السوفييتي لم يكن إلا مرحلة من مراحل التطور التاريخي للعالم فلقد شهد العالم الحديث وخلال حقب متعددة أمتدت إلى مئات السنين ثورات وتحولات خطيرة أنتقلت به من أوضاع سياسية وأقتصادية سائدة في وقتها إلى أوضاع أخرى أكثر تطوراً وتأقلماً مع الحالة الجديدة رغم ما كان يشوب تلك الإنتقالات من صراعات تصل حد الحروب كما حدث عند ظهور حركة الإصلاح الديني في أوربا في منتصف القرن السادس عشر العالم والتي قادها المصلح الديني مارتن لوثر ( 1483- 1546 ) ضد ما وصلت إليه الكنيسة المسيحية من حالات فساد وجمود عقائدي وتسيد للطبقة الثيوقراطية التي أوجدها البناء الهرمي للكنيسة وكانت من نتائج هذه الحركة الثورية التمهيد لظهور الفكر الحر أو ما عرف بالفكر الليبرالي الذي كانت من أعظم انجازاته النظام الديمقراطي الذي فرض نفسه كخيار سياسي في قيادة الدولة في فرنسا وبريطانية والولايات المتحدة الامريكية بعد الثورات التي شهدتها تلك الدول خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر على خلفية الدعوات التي قادها بعض المفكرين الاوربيين أمثال جون لوك ( 1632 – 1704 ) في انكلترا مؤسس الفكر الليبرالي الحديث وجان جاك روسو( 1712 – 1778 ) في فرنسا صاحب نظرية العقد الأجتماعي والتي نادى من خلالها أن القوانين يتعيّن عليها أن تعبر عن الإرادة العامة للشعب وكانت ملامح ذلك الفكر دعوات صريحة للمطالبة بالحريات الفردية كأساس لقيام الدولة الحديثة والذي يتوفر من خلال البناء الديمقراطي للدولة وفصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية .
أن تلك الإسهامات الفكرية المبكرة والتي أستمدت شرعيتها من خلال الثورات العنيفة التي شهدها العالم في أوربا كالثورة الأنكليزية عام 1688 والثورة الفرنسية عام 1789 والثورة الأستقلال الأمريكية في 4 يوليو 1776 قد أسست لعالم ديمقراطي رأسمالي جديد مبني على ما وفرته الثورة الصناعية من نظرية إقتصادية تقوم على أقتصاد السوق الحر ووفرة في رؤوس الأموال وتحديث في مجال العلاقات التجارية والأقتصادية وأفرزت قوى جديدة لقيادة العالم على أنقاض قوى أمبراطورية قديمة فيما خرجت الإمبراطورية الروسية المثقلة بهزائم الحرب العالمية الأولى 1914 بلباس جديد هو جمهوريات الإتحاد السوفيتي يتعكز نظامها السياسي والاقتصادي على نظرية ناشئة للفيلسوف الألماني كارل ماركس ( 1818 – 1883) مؤسس الشيوعية العلمية والمادية الجدلية والذي سميت نظرياته الأجتماعية والاقتصادية والسياسية بأسم ( النظرية الماركسية ) والتي كانت تفترض أن الصراع بين الطبقات الإجتماعية هو الفرصة التاريخية لتطورها وتقدمها ولقد عارض بشدة ما كان سائداً في وقته من نظريات رأسمالية وديمقراطية .
تعتبر الحرب العالمية الأولى ( 1914 -1918 ) بين الدول الأوربية ممثلة بدول الحلفاء ( المملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة والإمبراطورية الروسية ضد دول المركز وهي الامبراطورية النمساوية وألمانية والدولة العثمانية ) نقطة تحول كبرى في التاريخ العالمي الحديث بما ترتبت عليه من خارطة جديدة للعالم واذا كان التنافس والحروب الإستعمارية كالحرب ( الروسية – العثمانية 1877- 1878 ) وكذلك الحرب ( الفرنسية – البروسية 1770- 1871 ) وعدم التوصل إلى تفاهمات بشأن الكثير من القضايا قد مهد الطريق لهذا الحرب التي كلفت أوربا والعالم 6 مليون ضحية فأنها بالنهاية ساهمت في خلق ميزان قوى عالمي جديد بعد تلاشي الإمبراطوريات القديمة وتفككها كما حدث مع أنهيار الدولة العثمانية وتلاشيها وتحول دويلاتها إلى مستعمرات تابعة للقوى الإستعمارية الجديدة فرنسا وبريطانية وكذلك خسارة ألمانية لأجزاء مهمة من أراضيها في الألزاس واللورين لفرنسا وأختفاء الأمبراطورية الروسية وظهور الأتحاد السوفيتي كقوة عظمى ناشئة إلى جوار الولايات المتحدة الأمريكية وتشكيل عصبة الأمم المتحدة كمؤسسة دولية ضامنة للسلم العالمي لمنع تكرار ما حدث في تلك الحرب ولقد ترسخ الشكل العام للنظام الديمقراطي كنظرية حكم حتى للدول الجديدة الناشئة في أحضان ورعاية الدول الأستعمارية ولقد ساعد التطور التقني والتكنولوجي في مجال الأتصالات والمواصلات ووسائل الإنتاج وأساليبها الحديثة في ترسيخ النظم الديمقراطية لكنه لم يمنع بروز الشعور القومي لدى الكثير من الدول وخصوصاً الدول التي خرجت منهزمة من تلك الحرب كظهور الفكر النازي في المانية والفاشية في أيطاليا والطورانية في تركيا ولقد خلق ظهور تلك التيارات الفكرية بوادر صراع خفي بين الدول الأوربية الديمقراطية قاد إلى أندلاع الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945 ) بين دول الحلفاء بريطانية وفرنسا والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية ودول المحور ألمانية وأيطاليا واليابان ولقد بدت هذه الحرب كأنها حرب فرض الإرادة بين فكرين متناقضين فكر قومي فاشستي تقوده ألمانية وإيطاليا وفكر ليبرالي ديمقراطي تمثله قوى العالم الحر في فرنسا وإنكلترا وأمريكا أكثر منها حرب البحث عن فرص أستعمارية لكنها أكثر ضراوة وأكثر تدمير للدول المتحاربة بعد دخول سلاح الدبابات والطائرات والقاصفات والبوارج الحربية والغواصات وحاملات الطائرات ومن ثم الصواريخ بعيدة المدى كلها أستخدمت بلا رحمة وكانت الخسائر البشرية في هذه الحرب كبيرة ولم يسبقها مثيل في تاريخ البشرية حيث بلغت اكثر من 60 مليون قتيل أي ما بقارب 2.5% من مجموع تعداد سكان العالم ذلك الوقت وكما كانت هناك مقدمات للحرب العالمية الأولى أيضاً كانت هنالك مقدمات للحرب الثانية منها صعود الحزب النازي في المانية بقيادة هتلر ومحاولته التنصل من كل قيود معاهدة فرساي من خلال فرض التجنيد الأجباري وتشجيع الصناعة العسكرية وتسليح الجيش وأحتلال النمسا وفرض وحدة ألزامية ( الأنشيلوس ) وأحتلال أقليم السوديث الجيكسلوفاكي لتأكيد المصالح الحيوية لألمانيا وكذلك أحتلال اليابان لمنطقة منشوريا بالصين وأحتلال أيطاليا لأثيوبيا وعجز عصبة الأمم المتحدة وفشلها في وتفاقم الأزمات الدولية وأذا كانت الحرب العالمية الأولى قد أسست ومهدت لظهور الفكر النازي والفاشستي فأن الحرب العالمية الثانية بنتائجها العسكرية قد أظهرت للعلن معسكرين جديدين في العالم هما المعسكر الأشتراكي الشرقي بقيادة الإتحاد السوفيتي والمعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وأندلاع نوع جديد من الحروب هو ( الحرب الباردة ) وهي الحروب التي خاضتها أمم ودول بالنيابة عن أمريكا والسوفييت وصاحبت فترة الحرب الباردة عدة أزمات دولية مثل أزمة حصار برلين 1948-1949 والحرب الكورية 1950-1953 وأزمة برلين عام 1961 وحرب فيتنام 1956-1975 والغزو السوفييتي لأفغانستان وخاصة أزمة الصواريخ الكوبية 1962 عندها شعر العالم أنه على حافة الانجراف إلى الحرب العالمية الثالثة .
كان إنهيار جدار برلين 1989 إيذاناً بأنتهاء مرحلة تاريخية وبداية مرحلة تاريخية جديدة تأطرت بما قدمته الجامعات ومراكز البحوث وفكر المحافظين الجدد في أمريكا وأوربا وبدا وكأن شخصاً مثل فوكوياما الياباني الأصل الأمريكي الجنسية الذي كان يشتغل في العلوم السياسية بمؤسسة راندا بكاليفورنيا ومديرا مساعدا لمصلحة التخطيط الأمريكية وعضوا باحثا في مركز الأبحاث Rand) Corporation ) التابع لجامعة شيكاغو تحول بين ثلاث سنوات (1989 -1992 ) إلى ما يشبه حامل النبوءة بالنسبة للغرب (الاوربي – الامريكي ) في كتابه ( نهاية التاريخ والإنسان الاخير ) والذي أفصح فيه على أن نهاية الصراع التاريخي بين القوى المؤثرة في السياسة العالمية في الحرب الباردة بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي يعتبر التتويج الحتمي لنهاية التاريخ القديم وبداية تاريخ جديد وأن الديمقراطية الليبرالية النسخة الأخيرة من هذا الصراع والإحتراب وأن العالم في نهايته التاريخية سيكون عالماً ديمقراطياً ليبرالياً ( لقد أسفرت محاولتنا لبناء تاريخ عالمي عن مسارين تاريخيين متوازيين .. الأول : تحكمه العلوم الطبيعية الحديثة ومنطق الرغبة .. والثاني يحكمه الصراع من أجل الإعتراف .. وقد كانت نهايتا المسارين واحدة لحسن الحظ .. إلا وهي الديموقراطية الليبرالية ) فهل حتماً سيصبح العالم الجديد بكل مكوناته القومية والدينية والمذهبية وبما فيه من قوى قديمة وقوى ناشئة جديدة عالماً ترفرف عليه راية النظام العالمي الجديد الديمقراطية الليبرالية ؟
لقد أثبتت التجارب العالمية أنه ليست هنالك من نهاية حتمية للتاريخ فالتاريخ يظل كتابا مفتوحا على كل الاحتمالات فكما أفشل التحالف الدولي والحرب العالمية الثانية مشروع هتلر بأقامة الرايخ الالماني الثالث الذي كان مقدرا له ان يسود العالم لألف عام فلقد أفشل ألأقتصاد وتنامي الروح القومية المشروع الماركسي في قراءته لنهاية تاريخ أشتراكي أممي وسيقوم الصراع الديني والقومي حتما وخصوصا في هذه المنطقة المتوترة من العالم بأفشال المشروع الرأسمالي في رؤيته لنهاية تاريخ ليبرالي ديمقراطي وما ملامح الصراع الديني والقومي في الشرق الأوسط وشمال افريقيا وأمتداد خطره إلى اوربا إلا بعض من ملامح الفشل للمشروع الأوربي الأمريكي في فرض رؤية حضارية محدودة لجزء من العالم على باقي أجزاء المعمورة ...