المنبرالحر

سني التقاعد وخيبة اﻷمل (القسم السادس) / د. علي الخالدي

يحز في نفسي وأنا أستعلم مآسي شريحة المتقاعدين في وطني، وأشاهد ما رُسم على وجوههم من معالم مُبَكرة لشيخوخه فقدت أستحقاقاتها، وهي تحكي عمق المأساة والشقاء الذي صنعه البُذات والناكرين لما بذلوه من جهود لخدمة الوطن، فانين ﻷجله زهرة شبابهم. فبدلا من تكريمهم، كما يجري في الدول التي تحترم حقوق اﻷنسان، يفاجأوا بعدم إقرار قانون التقاعد الموحد بحجة أن ميزانية الدولة لا تتحمل إستحقاقاتهم التقاعدية، لكنها تفي وتتحمل الرواتب والمخصصات الباهضة لطاقم السلطات الثلاث، وتتحمل البذخ في اﻹسراف الحكومي، ولمجالات لا تعكس مردوداً مادياً لعامة الناس، كإقامة المؤتمرات ومساعدة حكومات تضطهد شعوبها، وتغطية عقود أسلحة ليس بحاجة الوطن اليها حاليا. لكن لا توجد سيولة لدفع مستحقات شريحة المتقاعدين واﻷرامل وعوائل شهداء الدكتاتورية ومشوهي حروبها العبثية ومن فصلته من وظيفته لعدم ولائه لنهجها.
لقد قاست هذه الشرائح مآسي أسود حقبة تاريخية مرت على وطنهم، دامت ﻷكثر من ثلاثة عقود، حفرت بصمات معالمها في ذاكرتهم وأخلّت بمعايير مجتمعية، زادها مرارة شقاء الحياة اليومية التي أنتظرتهم، بعد التغيير. صحيح أن التغيير قد خلص الشعب من أعتى دكتاتورية فاشية ذاقتها شعوب العالم، لكن مردوده اﻷيجابي على مستويات إصلاح معيشة الناس لا يحاكي ما قدموه من تضحيات. ومع هذا لم يفقدوا حلمهم بأن مآثم حكم البعث الصدامي الفاشي وحروبه العبثية ستمحى من ذاكرتهم بمجرد رفع عقوبات البند السابع (الغير مسؤولين عنها)، والتي كان من المفروض أن تلغى بعد 2003. فبقاءها ساهم في إفقارهم، وأوقف عجلة التقدم الى يومنا هذا. وإذا ما أعتُمد ترسيخ اﻷستقلال الوطني على أساس بناء الدولة المدنية الديمقراطية دولة المؤسسات القانونية، فان ذلك كفيل بإحداث طفرة نوعية وسريعة ليحتل العراق وشعبه مكانته المرموقة بين الدول التي شوهها البعث الصدامي، وسيتمتع ابناؤه بخيرات بلادهم، ويجهضوا نوايا القوى الطامعة بثروات الوطن، ويحدوا من توجهاتها اﻷستراتيجية في المنطقة. ولن ينفعها اﻷعتماد على بقايا آثار الدكتاتورية، وقسم من قوانينها الخاصة بالديمقراطية اﻷجتماعية وما أبقوه من شواهدها معشعشة في اﻷجهزة اﻷدارية، والمؤسسات اﻷمنية التي إعيد اليها البعض ممن تَلوثَتْ أياديهم بدماء قوى شعبنا الوطنية، لمجرد إعلان ولائهم وخلعهم الزيتوني، مع تسهيلات مادية ومعنوية لجميع حقوقهم المدنية. ونال البعض الآخر إستحقاقاته التقاعدية بدون ركض وإنتظار في هذه المؤسسة أو تلك، تكفي تزكيته من حزب طائفي وأداءه قسم الولاء، بينما همش و أبعد ذوي الكفاءات والمعرفة ممن لم تغريه حسنات الدكتاتورية ولا عروض اﻷحزاب الطائفية بعد التغيير ليبقوا العملية السياسية محكومة بآليات غير كافية قياسا للإستحقاقات الوطنية، ولا متماهية مع التضحيات الجسيمة للشعب وقواه الوطنية على طريق إسقاط الدكتاتورية، وكأنهم أرادوا بذلك إذكاء معاداة الديمقراطية النسبية والثقافة وإيقاف عجلة تطورهما، مما ولد تربة صالحة ﻹنتعاش القوى الظلامية وأزلام النظام والقاعدة.
لقد كان من المفروض أن لا تطول المرحلة اﻷنتقالية أكثر من عقد، تصفى فيه موروثات الصنم، وتقلص الفوارق العميقة بين رواتب ومستحقات الخدمة لكافة موظفي الدولة العراقية (وضعه بريمر) وترشّد مصروفات الحكومة، وتوجه لخدمة اﻷصلاح والتنمية. لكن محصلة حصيلة عشر سنوات خيبت الآمال، حيث إتسعت خلالها دائرة الفساد وتصاعدت المناكفات بين أطراف القائمين على الحكم (ﻷن كل واحد ايريد إحيد النار لكرصته)، فتكاثرت أيدي المتربصين بالمشروع الوطني وشهروا سيوفهم لذبح العملية السياسية، فأتوا على موتها سريريا، وجيروا مكتسبات التغيير لتلبية المصالح الفئوية والطائفية والقائمين على النظام والمقربين منه، وأُبعد الذين وقفوا بالضد من نهج المحاصصة الطائفية لمعرفتهم المسبقة بما ستجريه من معوقات لكنس موروثات النظام السابق، وإعاقة أي إصلاح بشكل منظور. وغاص من تصيد في الماء العكر من القائمين على الحكم حتى قمة رأسه بالفساد، ولم يغرق، ﻷن هناك ولا زال من ينقذه، ممن إشتد عوده في القمع والتفرد والفساد، وبالخروج عن مفاهيم الدستور. ولم يعر أي إهتمام لطوابير طالبي العمل وشريحة المتقاعدين للحصول على إستحقاقاتهم الوطنية، شاخصة أمام المؤسسات المعنية، وقد أثقل الفقر قاماتهم، ونخرت اﻷمراض أجسادهم الهزيلة، وشردت الذكريات المرة أفكارهم، ونكدت البطاقة التموينية ورداءة مفرداتها ومستعمرات النفايات والمياه الراكدة حياتهم. أما متى يأتي الماء الصالح للشرب، ومتى يفي مسؤولو الطاقة بوعودهم المخدرة بتوفر البنزين والكهرباء، و يعترف القائمون على الحكم بفشلهم في إعادة المليارات التي ذهبت لجيوب من ركب موجة نهب ثروات البلاد وعاد الى موطنه الثاني، ليستثمرها هناك، وبإتباع اﻷصول القانونية الدولية للتفتيش عن بقية الملياردات التي نهبها آخرون وإختفوا.
من حق شريحة المتقاعدين (حوالي المليونين) وما شاكلهم ممن هُضمت حقوقهم أن يتساءلوا على أي أساس حدد الراتب والتقاعد الخيالي لممثلي الطوائف في الحكومة والبرلمان. ومن حقهم أيضا إستعمال كافة الوسائل للضغط على أصحاب القرار إيقاف مهزلة حجب فيزة خروج القوانين التي تصب في صالح الشعب المغلوب على أمره، وإيقاف ترحيلها الى الدورة القادمة. وما لم يفعّلوا ثقلهم اﻷنتخابي في الانتخابات القادمة بالتصويت ﻷصحاب المشروع الوطني، مشروع دولة المؤسسات المدنية والعدالة اﻷجتماعية لعراق المستقبل، فان مأساتهم ومعانتهم ستستمر، وآمالهم ستخيب.
يتبع