كنا لحظتها صغارا نحن جيل المحن العراقية، حيث لم نبلغ بعد ربيعنا الثالث عشر إن جاز لنا أن نطلق على أعوام عمرنا ربيعا لكل عام أسوة بخلق الله غير المبتلين بالطغاة والكلاب التي ظلت تنهش لحومنا طيلة نصف قرن وما يزيد، منذ أن تسلط البعث القمعي سدة الحكم في غفلة من الزمن، فعاث أزلامه وعبثوا ونشروا قاموسا فريدا في صياغته من الفوضى، حين باتت لهم الغلبة وبامتياز في خلق قيم بمفردات ملأت معجما حافلا بكل دنئ ووضيع.
كنا نحن أطفال خلف السدة المحرومين من كل شئ، فلا مدارس، ولا رعاية صحية، ولا ساحات لعب، وات دور شباب، ولا ابسط متطلبات العيش الآدمي، حيث كانت آمالنا وعيوننا شاخصة صوب تحقيق أمنية الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم، لنقل هذه الشريحة المظلومة التي تعد بالملايين، إلى المدينة التي شرع بتأسيسها، حيث انتقل القسم الأعظم إلى مدينة الثورة، وبقينا نحن وجبة الأشد فقرا ننتظر الفرج، حتى جاء الزلزال وأطاح بآمالنا، حين قفز ثلة من الضالين والمنحرفين وأنصاف البشر، إلى سدة الحكم وأطاحوا بالحكم الوطني، واغتالوا ظلما قادته الميامين غيلة وخسة، وعلى رأسهم الوطني الصدوق الزعيم عبد الكريم قاسم، وكانت تلك هي بداية العبث الذي تفشى في كل تفاصيل الحياة العراقية. والبقية يعرفها المكتوون بنار الطغيان البعثي الرهيب.
كنت أتردد قبل انتفاضة الرشيد الباسلة على محل الشهيد حافظ لفتة الخياط، الذي قام بخياطة البدلات العسكرية للمنتفضين الأبطال، وكان الشهيد الخالد والشيوعي المقدام حسن سريع يتردد على المحل، لم أكن أعرف أحدا من شجعان الحزب البواسل. كنت يومها صديقا لأخ الراحل حافظ الخياط، عبد الرحيم، وكان الشهيد حافظ بدوره صديقا لأخي الأكبر المعتقل يومذاك في نقرة السلمان، لم يخطر ببالنا أبدا أن يكون الخياط احد الأعضاء المنتفضين، حين ظهروا بالشموخ الشيوعي المعروف على شاشة التلفزيون، بشكيمة الأبطال الأسطوريين، لسبب بسيط، أن الشهيد حافظ الخياط كان على قدر كبير من الوداعة والرقة والحس الإنساني النبيل وعدم الجرأة حسب رأينا يومها بان يقوم بذلك الاقتحام البطولي النادر، ليكون احد المشاركين الرئيسيين في الانتفاضة المقدامة أيام كان البعث المجرم بأزلامه القتلة من أعضاء الحرس القومي الذين كانوا على قدر مخيف من الشراسة والهمجية والبهيمية، وهذا لا يعني أن بقية المشاركين البواسل ليسوا على هذه القيم التي باتت لصيقة للشيوعيين النبلاء، وكنا نحن تلاميذ المدرسة الابتدائية نعاني الأمرين، كون بعض المعلمين كانوا أعضاء في هذا الجهاز القمعي الفاشي، مجموعة من البلطجية وقطاع الطرق وفاقدي الإحساس بالآدمية والمشاعر الإنسانية إزاء الآخر، يلجون الأقسام الدراسية ببدلاتهم الكاكي وأسلحتهم الرشاشة لتخويفنا، ورغم صغر عمرنا وعدم الإحساس بالخوف، كنا نبيع الباجات لمساعدة اسر السجناء من الشيوعيين، كانت مغامرة غير محسوبة العواقب من أطفال جبلوا على الاقتحام منذ نعومة أظفارهم.
فقط نود أن نذكّر الأجيال الراهنة أن البعث هو البعث، لا يمكن أن تنظف أدرانه جميع مساحيق الكون، لكونه أصلا ولد رثا وفي بيئة موبوءة، وبقى هكذا، والشواهد خير دليل لمن يسكن مجاهل أفريقيا، لا لمن اكتوى بجحيم تلك الطغمة الفاسدة والغبية.
في تلك الفصول المرعبة من سنوات الضيم والقمع الوحشي، تحرك هؤلاء الأبطال لا يهابون وحشية الحرس القومي وقادته الأشرار وهمجيتهم. وكادوا أن يسقطوا اعتى طغمة فاشية، لولا القدر اللعين، وقلة تجربة المنتفضين، وبعض الإرباكات التي وقعوا فيها، فتمكن المجرمون البعثيون من إحباط الحركة البطولية وحدث ما حدث دون استرسال في التفاصيل الأخرى.
فقط ما أريد التأكيد عليه أن العراقيين ممن لم يعاصروا الحدث، عليهم أن يتصوروا حجم البطولات النادرة لتلك الكوكبة الشيوعية الفذة وهي تقارع عتاة القمع والهمجية، كانت المحاكمة صورية، يقودها على ما أظن ضابط بعثي قاتل اسمه احمد أبو الجبن، وكان كثير السخرية، حين استصغر القائمين بالانتفاضة بتحقيره لأصولهم الجنوبية، وكونهم ليسوا من سدنة الحكم من أصول تكريتية "مع اعتزازنا بأبناء تكريت الاصلاء" فكانت ردود الشهيد حسن سريع تنزل على رؤوسهم كالصاعقة بأنفة الشيوعي المقدام الذي لا يهاب الأهوال، متوعدهم بالثبور والمصير المحتوم، والآن حري بنا أن نستحضر تلك المواقف البطولية بنبوءاتها، فكنس التاريخ وبإرادة القوى الخيرة، ذلك العفن البعثي الذي أصبح الآن ذكرى رثة في تاريخ العراق الحديث، وما نفعتهم تلك الأساليب الدموية الموغلة في السادية، لإبادتهم لملايين الأبرياء وسطوتهم الكارثية على كل تفاصيل الحياة العراقية، كل تلك الأفعال البشعة أصبحت في خبر كان، وبقيت ذكرى الأبطال الخالدين الذين قارعوا الظلم البعثي المجرم، أمثال قادة الحزب الشيوعي الميامين الذين غيبوا في زنازين القمع البعثي، وتلك الأفواج العراقية الخالدة من كل أطياف المكونات العراقية من إسلاميين وقوميين وأكراد وغيرهم، كل هؤلاء الأبطال باتت ذكراهم قيما خالدة ومواقف وطنية مقدسة وذهب الفاعلون الخاسئون إلى مزبلة التاريخ.
فقط أريد أن اتمم هذه الشهادة، بهذه الذكرى العطرة لأبطال حركة الرشيد في 3 تموز، ما فعله البعثيون المجرمون بكوكبة المنتفضين الخالدين حين نصبوا أعمدة المشانق في الساحات العامة، وكنت أنا شاهد عيان حين علقوا أمام الملأ الأبطال الذين تم اقتيادهم بالقوة ومن كل الأعمار لمشاهدة الطقوس البعثية المقززة، كنت أنا من ضمن الآلاف من المسحوقين حين شاهدنا البطل الذي اجهل اسمه مع أخيه، وكان يبيع اللبن بصرائف المجزرة، معلقا على عمود وحضر ثلة من المجرمين لينزلوا الجسد الطاهر ويطئوا ببساطيلهم القذرة عليه بكل نذالة ودونية، ودون احترام لقدسية الجثة، لينقلوه إلى سيارة كان مسجى فيها، حين فتحوا أبوابها الخلفية، جسد الخالد الشهيد حافظ الخياط، حيث علقوه أمام محله، ورموا الجسد فوق الجسد بفعل الأنجاس، تلك الصورة التي لم تغب عن عيني وبقيت شاخصة أمامي، لتذكرني ببطش البعثيين ومدى خستهم ودونية أفعالهم التي ما توقفت أبدا وعلى امتداد أكثر من نصف قرن.
ما ينبغي أن يقدمه الوطنيون العراقيون لتلك الكوكبة من الشهداء، الاعتبار الذي يليق ببسالتهم، لمواقفهم والاهتمام بعوائلهم وإطلاق أسمائهم على الساحات والأمكنة العامة وان يحفظ العراقيون أسماءهم علامات فخر وتقديس، لأنهم كانوا الوقود الذي أضرم النار بسلطة البعث الغاشمة.
المجد والخلود لشهداء حركة حسن سريع ورفاقه، حركة الرشيد الخالدة
والخزي والعار للقتلة البعثيين وكل من احل الدم العراقي المقدس..