المنبرالحر

الكوانتا: أصولها وجذورها وأسرارها / د. جواد بشارة

1
ذات يوم في القرن الماضي اطلق العالم الفيزيائي الكبير ريشارد فينمان، جملته الشهيرة "أستطيع أن أخاطر بسمعتي وأقول بأن لا أحد يفهم الميكانيك الكمومي أو الكوانتي"
عندما نقول اللامتناهي في الصغر فهذا يعني أننا ملزمون بالحديث أولاً عن العلم الذي يتعامل مع هذا المفهوم، وهو فيزياء الكوانتا أو ميكانيكا الكم physique ou mécanique quantique، وهناك قلة من العلماء من تفهموا في بدايات القرن الماضي أسرار هذا العلم وما يترتب عليها من تغيرات في الرؤية العلمية للكون والمادة والطاقة وإعادة النظر في المسلمات العلمية السائدة.
فيزياء الكموم أو الكوانتا هي بلا شك أحد أكبر المغامرات العلمية للقرن العشرين. وبالتالي ينبغي الكشف عن أصولها وجذورها وأسرارها وما يعتليها من غموض وصعوبات مفاهيمية، أي الأسس والتجارب والتطبيقات المرتبطة بهذه النظرية.
تحتوي الأسس العلمية لفيزياء الكوانتا أو الكموم، على الأساسيات من الخيارات المفيدة في فهم واستيعاب المبادئ الكوانتية أو الكمومية الرئيسية حسب تسلسل ظهورها التاريخي والزماني. وعلينا أولا أن نضع فيزياء الكموم أو الكوانتا في سياق الامتداد المكمل للفيزياء الكلاسيكية كونها جاءت لتجيب عن تساؤلات ومسائل لم تستطع الفيزياء الكلاسيكية حلها أو تفسيرها.
إن مفهوم الكمومية ثوري بطبيعته ولقد أدخل إلى عالم الفيزياء بمختلف الأشكال. ولابد من الحديث عن العلماء الذين وسموا بأعمالهم ومساهماتهم العلمية فيزياء الكموم أو الكوانتا وتركوا بصماتهم وكانوا جيل الرواد، كـ(ماكس بلانك والبيرت آينشتاين ونيلز بور ولوي دي بروجلي) وغيرهم. وبعد هؤلاء الآباء المؤسسين لهذا الصرح العلمي، يأتي جيل من العلماء والفيزيائيين الموهوبين جداً الذين وضعوا القاعدة الرياضياتية الشكلانية المتينة اللازمة للأبحاث العلمية اللاحقة في هذا الميدان. وقدموا إضافات مذهلة مثل مبدأ الاستبعاد لبولي principe dexclusion de Pauli، ومبدأ الريبة أو اللا يقين لهيزنبيرغ principe dincertitude dHeisenberg، أو معادلة شرودينيغر الشهيرة léquation de Schrödinger، ومع ماكس بورن، برز مبدأ الاحتمالات principe de probabilités، وعلينا أن نلاحظ كيف تغلغلت التخمينات والافتراضات في أبحاث العلماء وزعزعت مفهوم الحتمية conception déterministe في عالم الفيزياء. كما يتعين علينا توضيح كيف استطاعت فيزياء الكموم أو الكوانتا أن تلج عصر التفسيرات والنبؤات أو التوقعات. كان آينشتين ينظر بعين القلق والهلع من التحولات والتطورات التي طرأت على النظرية الكمومية أو الكوانتية التي ساهم هو شخصياً بتأسيسها وتطويرها. وتجسد نقده فيما عرف بمفارقة EPR التي سنشرحها بالتفصيل لاحقاً، ونعرج على مختلف تيارات ومدارس التفسير لميكانيكا الكموم أو الكوانتا من تفسير كوبنهاغن interprétation de Copenhague الى يومنا هذا في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. مع إطلالة سريعة على أهم التجارب الجوهرية، وهي في أغلبها تجارب ذهنية تفكيرية وليست مختبرية، مثل مفارقة قطة شرودينيغر paradoxe du chat de Schrödinger، وبالطبع التجارب المختبرية التي أثبتت صحة المعطيات العلمية لفيزياء الكموم أو الكوانتا كتجارب العالم الفيزيائي الفرنسي آلان آسبيه، وتجارب جون بيل الأحدث منها والتي ردت بعد ثلاثين عاماً على مفارقة EPR والتي أعطت الحق لبور وأعتبرته مصيباً في حججه ضد آينشتاين التي خطأت طروحاته وحججه ، والتجارب الأحدث كتجربة الحصول على غيوم من الذرات الباردة أو أبحاث وتجارب عالم الفيزياء الفرنسي الحائزة على نوبل للفيزياء سنة 2012 سيرج هاروش.
ثم نتناول الجزء الأهم ألا وهو التطبيقات العملية لفيزياء الكموم أو الكوانتا في مجال البحث العلمي وفي حياتنا اليومية، كموضوع الليزر واستعمالاته المدنية والطبية والعسكرية الذي جرى تطويره منذ سنوات الستينات في القرن المنصرم، إلى جانب تطبيقات مستقبلية مثل الكريبتوغرافية أو التشفيرية والترميزية cryptographie والانتقال الفوري الآني تيليبورتيشن téléportationوالحاسوب الكمومي أو الكوانتيordinateur quantique ومختلف الأدوات والأجهزة الالكترونية الحديثة كالهاتف الذكي smartphoneوالجي بي أس GPS أي محدد الأماكن عبر الستلايتات أو الأقمار الصناعية والتصوير الشعاعي الطبي imagerie médicaleالخ.. كل ذلك سنتناوله في سلسلة من المقالات العلمية الصغيرة والمختصرة جداً وبلغة تبسيطية مفهومة من قبل الجميع.
2
منابع الفيزياء الكوانتية أو الكمومية
في نهاية القرن التاسع عشر اعتقد علماء الفيزياء أن قوانين الفيزياء الكلاسيكية التي اكتشفوها تمنحهم المعرفة الكاملة لفهم العالم. باستثناء بضعة تساؤلات ظلت معلقة تبحث عن أجوبة علمية شافية. ولكن في بداية القرن العشرين في العام 1900 حدثت انعطافة حادة في الفيزياء المعاصرة عدت بمثابة ثورة حقيقية وذلك بولادة الفيزياء الكمومية أو الكوانتية La physique quantique من صلب محاولات بعض العلماء الإجابة على تلك التساؤلات العلمية العالقة. ففي عشية القرن العشرين كانت حصيلة المعارف والخبرات في مجال الفيزياء وباقي العلوم الطبيعية وفيرة وفيها تكمن جذور وأصول الفيزياء الكمومية أو الكوانتية. كانت الفيزياء منقسمة إلى ثلاثة تخصصات رئيسية هي الميكانيك والكهرومغناطيسية والديناميكا الحراريةla mécanique، lélectromagnétisme، la thermodynamique، فالميكانيك الكلاسيكي أو النيوتني ـ نسبة لنيوتن ـ mécanique classique newtonienne يستند إلى دعامتين وضعهما إسحق نيوتن في نهاية القرن السابع عشر.
الدعامة الأولى هي قانون الحركة، والدعامة الثانية هي قانون الجاذبية أو الثقالة الكونية وهي بلا أدنى شك أكبر الاكتشافات العلمية لكل الأزمان التي سبقت اكتشافها. وكان الجمع بين هذين الاكتشافين هو الذي قاد البشرية الى التطور والتقدم النظري والتقني الهائل الذي حققه الانسان في العصر الحديث. فبفضل قوانين نيوتن يمكننا اليوم حساب مسار الصواريخ والاقمار الصناعية التي ترسل للفضاء. أما الكهرومغناطيسية، وهي الفرع الجوهري الثاني من الفيزياء المعاصرة، فقد نجمت عن توحيد المغناطيسية بالكهرباء وكان العالم جيمس ماكسويل هو الذي أعلنها سنة 1864 على شكل أربع معادلات باتت شهيرة. وما زالت تستخدم لوصف الأنظمة المتنوعة، كموجات الراديو والتلفون والمحركات الكهربائية الخ.. أما الفرع الثالث للفيزياء الكلاسيكية، أي التيرموديناميك الحراري فتقوده ثلاثة مبادئ جوهرية ويدرس آليات وميكانيزمات التحول الحراري للأجسام، وتطور هذا الفرع من الفيزياء في القرن التاسع عشر على يد العالم كارنو وجول وكلاوسيوس Carnot، Joule,Clausius وكانت لهذا العلم تطبيقات عديدة مثل اختراع محركات التفجير وأنظمة التبريد وغير ذلك من الأنظمة الفيزيائية والجيوفيزيائية physique , géophysique. وإلى جانب هذه الفروع الفيزيائية الأساسية مجتمعة يوجد علم البصريات loptique والذي يمكن التعامل معه بمعادلات ماكسويل حصراً لذلك يمكن اعتباره جزءا من الكهرومغناطيسية ولكن بخصوصية منفردة.
فهناك واجهتان لعلم البصريات: الأولى هندسية géométrique التي تمثل الإشعاعات الضوئية كالخط المستقيم الذي نخطه على سطح ورقة بمساعدة مسطرة/ والثانية موجية ondulatoire التي تعامل الضوء كموجة. وكانت هذه الطبيعة المزدوجة للضوء مثار جدل وسجالات علمية لعبت دوراً أساسياً في ظهور وتطوير الفيزياء الكمومية أو الكوانتية. وبعد بضعة قرون من التردد، بسبب الرؤية الحبيبية الموروثة عن نيوتن للضوء، بات من البديهي في فجر القرن العشرين، اعتبار الضوء ذا طبيعة موجية أيضاً. وذلك بفضل أبحاث وتجارب علماء الفيزياء هيوغينز Huygens سنة 1690، ويونغ Young سنة 1801، وفرينلFresnel سنة 1818، وتوجتها فيما بعد معادلات ماكسويل الشهيرة التي وصفت كيفية تأرجح الحقول الكهربائية والحقول المغناطيسية التي تكون الضوء، في الزمان والمكان. ولو تمكنا من حل تلك المعادلات سيكون بإمكاننا وصف الموقع والسلوك المؤقت للحقل الكهرومغناطيسي لكل نقطة إشعاع ضوئي. ونستنتج من ذلك ثلاثة أشياء: الأول أن الضوء ينتشر بسرعة ثابتة ومحددة وهي سرعة الضوء المعروفة 300000 كلم في الثانية، والميزة الثاني هي أنه إذا لم يلتق الضوء بعائق فإنه سينتشر في اتجاه ثابت ومستقيم، والميزة الثالثة هي الحل الرياضياتي الذي يثبت بداهة الظاهرة الموجية التي تتأرجح بتردد معين أي عدد التأرجحات في الثانية الواحدة وبطول معين للموجة التي تحدد لون الشعاع الضوئي. فالضوء الأزرق لديه طول موجة تقدر بأربعمائة نانومتر أي سنتمتر مقسوم على 250000. إن إدراك الصفة الموجية للضوء سمح للفيزيائيين فهم ظاهرتين أساسيتين وهما التشابك أو التداخل والزيغ أو الانحراف وحيود الضوء الذي لا يمكنه شرحه وتفسيره وفق النموذج الحبيبي أو الجزيئي للضوء. فالتداخل والتشابك يحدث عندما تلتقي موجتان أو أكثر في نقطة ما من الفضاء أو المكان. والمثال التوضيحي لذلك هو عند رمي حجرين في مستنقع ساكن على مسافة الواحد عن الآخر وكل واحد منهما يحدث موجات حول نقطة تصادم الحجر بالماء الساكن وبالتالي يمكننا أن تلاحظ مصدرين للموجات التي تتداخل ببعضها البعض.
أما انحراف الضوء وحيوده فينتج عندما يمر شعاع الضوء خلال فتحة تكون أبعادها مساوية لطول موجة الضوء النافذ ومن البديهي القول أننا لا يمكن أن نفسر هاتين الظاهرتين إلا إذا اعتبرنا الضوء ذا طبيعة موجية. ومن هنا برزت ظاهرة الجسم المسخن ذي الشعاع الأسود حسب درجة الحرارة وطول الموجة التي تصدى لشرحها وتفسيرها علميا الفيزيائي الفذ ماكس بلانك Max Planck ولكي يحلها قدم لنا ما نعرفه اليوم بفيزياء الكموم أو الكونتاphysique quantique.