المنبرالحر

عمران بلا روح ... وماضٍ ما زال يفوح / حسين حبيب عباس

وانا في طريقي الى دائرة عملي كل يوم ، انظر من نافذه السيارة الصغيرة التي احاول دائما ان اتسابق مع الركاب لأكون بقربها ، تطالعني الابنية الفارهة ذات الطراز المعماري الحديث والالوان الزاهية التي تعانق السماء وتسحر الالباب وكأنها رغماً ترسم لوحة رائعة ابدعها فنانها ايما ابداع كأنها حدائق غنّاء او واحة جميلة للاصطياف والنزهة لا تشبع منها النفوس ولا يملها الجليس ، يعطي صفائها متعة للعين والروح ، واي وصف لها في سطور لا يعطي جل مظهرها الفتان ، وحتما ان في الداخل اعظم واسلب للألباب .
ولكن الملفت للنظر بعد اشباع العين للناظر الذي لا تخدعه المناظر انها تكاد تخلو من أي نبض وروح بل تخو من البشر الا ما ندر وكأنها متاحف متراصة بعضها اثر بعض فلا نبض من ذي روح الا ما يسقى بماء معين .
وعندما تتجاوز السيارة هذا الحي الراقي تتجه لتخترق حي شعبي وسط المدينة ذي صخب ودوي كدوي النحل الباحث عن رزقه كل يوم والناس تعرج من كل حدب وصوب والمقاهي مملوءة بالعمار من مختلف الاعمار والضحكات من القلب والبسمة تستعيد رونقها كتفتح الازهار بعد شتاء القهر وزوال عواصف الحرمان وعودة الامن والامان والحمالون يزاحمون السيارات على الطريق سعياً وراء لقمة العيش والكد الحلال رغم انحناء الظهر ووطء السنون ، وباعة الخضار والفاكهة تعلوا اصواتهم فوق بعض لتعلن عن بضاعة مسكنها قدور وجبات الغداء والعشاء ، واحبة اشتبكت اياديهم يرنون الى هذا المتجر او ذاك ليبنوا مسكن المستقبل بأمل جديد ونسل غدٍ اتٍ ، ونسوة يحملن متاع العائلة لتصل البيوت لإعداد وجبات الطعام لأزواج او ابناء عائدين في الغداة او العشي يأملون براحة يسيرة من قهر الزمان ، ونسوة علّون اسوار البيوت الواطئة غارقات في حديث مع الجيران قد لا ينقضي ،
صور من هنا وهناك تنبض بالروح والانفاس العبقة والحياة الدائمة التي يمكن ان تحس بطعهما ونكهتها وبحلوها ومرها وحتى هذا المر يذوب وينجلي ويهون مع تماسك الاسر وتقارب الجيران وكثرة الاصدقاء ، تلك المشاهد تأخذ شيئا ولو يسيراً من آبائنا واجدادنا الذين عاشوا بصدق وصفاء نية واقتاتوا على زاد جشب بسيط لكنه كان غنيا بالسعرات الحرارية التي تساعدهم على تحمل شدة الحياة وخالٍ من الكوليسترول كما ان مناعة اجسامهم كانت اقوى ، وهوائهم كان انقى خالٍ من الملوثات الصناعية ولا يعلمون ما هو الاحتباس الحراري وذوبان القطبين ، يصومون الشهر الكريم لرؤية الهلال ويفطرون لرؤيته سويةً وهو كهربائهم في الليل وموقد النار هو مولدة سحب الكهرباء ، ولا يعلمون بأنباء وجود نيازك ضخمة قد تضرب الارض لتدمر الحياة كما تقول وكالة (ناسا) ، ومنازل الطين كانت افضل عازل حراري رخيص يناسب جميع الطبقات ، لا يحلفون زورا او بهتانا الا ما ندر ، ولا يعدون ثم لا يفون بالوعود ، كما نفعل الان .
انني لا اتكلم عن نظرة كلاسيكية رجعية الى الوراء مع ما في الزمن الحاضر من تقدم علمي تكنولوجي هائل يجدر بنا مواكبه والسير في ركبه ، ولكن يحز في النفس بناء الجدران ونسيان بناء هيكل الانسان ، الانسان الذي يحتاج الى البناء النفسي والروحي والاخلاقي، لان الجدران يسهل اعادة بنائها اما الانسان فمن الصعب بناءه او تقويمه اذا مال لا سامح الله ، وعندما اذكر الاجداد اذكر نقاءهم وصفاء نفوسهم رغم بساطة عيشهم ، فهم رغم ذلك انجبونا نحن لنكمل المسيرة وكان الاولى من تراص الجدران ان تتراص النفوس وتتقارب وتذوب في واحة واحدة من التماسك الاجتماعي الذي يقوي الاسرة والمجتمع .