المنبرالحر

المتقاعد … أين حقي / د. علي الخالدي

تكاد تكون لغة المتقاعدين أينما كانوا واحدة ، تدور حول كيفية قتل الملل والضجر، و ملأ فراغ الوقت الذي وفره تقاعدهم ، بما يرضي أنفسهم وخدمة الآخرين ، ويُقنع إعتقادهم، بأن وراء مواصلة النشاط الشخصي والمجتمعي ، يقف الرضا المتأتي من اﻹيمان والقناعة، فلولاهما لضاعوا وتراجعوا ، ولفسدت عقولهم وإستسلموا الى خمول ذهني ، و بلادة فكرية قاتلة من نوع تطويب التساؤل والتفكير ، بما يدور حولهم ، غير مكترثين بسلبيات من لا يريدوا أن يتفهموا مجرى اﻷحداث ،إلا في أطر مصالحهم ،ويتناسون أن بائعي القوى العضلية والفكرية ، قد صبوا حقدهم المشروع ، ضد مشتريها بأبخس اﻷثمان منذ زمن بعيد ،ومع هذا يواصل الذين لا زالوا غير قلقين على المستقبل إستغلالهم ، مقتنعين أن اﻷشي هكذا كانت ، وهكذا ستدوم ، وليكف المستضعفون ، عن المطالبة بالعدل ( أنا برأسك محفوف بالمخاطر ، تطلب العدل وقانون بني جنسك جائر) ، وإﻹقتناع بأن ممارسة السياسة أمر خطير ، و مبعث كل ما هو مثير ومقلق لما تبقى من حفنة سنوات عمرهم ، التي ستمر وتذهب لحالها للمجرى الذي تنزلق اليه ، مهرولة لما لها وما عليها ، تذكرهم بين الحين والآخر ، خروج زميل لهم من الدنيا يدعوهم للجنوح الى السجية ، بالمطالبة برفع القيود اﻹنسانية واﻹجتماعية ( متى أستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار) ، وأن لا ليركنوا جانبا الكرزما التي حملوها ، وهم ملح اﻷرض.
في وطني تحول هم المتقاعد الى وضع الدفاع عن لقمة العيش ، وعن الحياة الحرة الكريمة ، بعد أن واصل نهج المحاصصة الطائفية واﻷثنية ، بعد السقوط أفراغها من محتواها ، (حاليا تواصله التوازنات السياسية ) ، فمنذ الوهلة اﻷولى للسقوط ، إنشغل القائمون على القرار في الداخل والخارج في سجال سياسي ، في أجواء تصاعد إنتهاكات الدستور ، والتستر على الفساد الذي ساد مرافق الدولة اﻷمنية واﻹدارية ، وفي أجواء إتساع توليد تسهيلات وخروقات كانت تقف وراء إحتلال العديد من مدننا من قبل داعش أﻹرهابية ، لم يخفت صوت الجماهير المطالبة بعدم إبعاد التغيير الحقيقي عن المعنى الجنائي ،لكل من أوصلها لما عليه الآن، وهم لا زالوا يبثوا اﻷرث الفكري الطائفي لتسطع اللامبالات بين الناس، تجاه قمامة التزوير والمزورين، التي وإن إختلفت في مضامينها حسب المكان والزمان، لتبقى ملفاتهم عليا غير متدنية للمحاسبة ، فيختفون من الصورة ، وهم البارزون ، كي يمر الوقت بدون حساب ، وكأنه ليس من العمر، يتلكأون في إنجاز ما أنيط لهم من مسؤوليات، فلا هم بمتقاعدين ولا هم بسياسيين منزهين وأصحاب أيادي بيضاء. لفد ضيعوا ما نذروه من نشاط وحيوية في مقارعة الظلم، وتحولوا الى دائمي الصياح ، يزيد أو يقل حسب مواهب حناجرهم ، يقارعون بعضهم عن أمور لا تخص سواهم، وهم متحفزون دائما في وضع اﻷنقضاض على منتقديهم
لم يعد المتقاعد في وطني يتمتع بنومة الصبح ،كبقية متقاعدي العالم ، فهو يستيقظ كالديكة يزيل ما تبقى من خدر بالتمطي ليركض وراء رغيف الخبز .لا تنتصر عنده الرغبة في المنافسة بالعمل ، يدور في خلده الحنين الى النادي أو المقاهي الشعبية ، وهو يحمل قطارة شربه في جيب سترته الداخلية ، و كيسا فيه زوادته ، كي لا تبدو منه حركة تسيء الى نظامية جيبه العام . في الشارع والمقهى يحافظ على روح الرصانة المطلوبة دون خجل من حماقات صغيرة مع الفئة التي الحقَتْ بسوق البطالة حديثا ، وكلاهما يحمل حقدا داخليا عن علو مرتبات المسؤولين ومتقاعدي الرئاسات الثلاث ، و بطر إنفاقهم وكثرت مشاوريهم للخارج ، ومع هذا لم يجأروا بالشكوى عن أوضاعهم ، وهم صاغرون ،ينتظرون ما سيحقق لهم التغيير المنتظر من أنصاف
جهودهم التي بذلت في خدمة الوطن ( إن يكن هناك حق فسله عن لساني أين حقي).