المنبرالحر

طيور بلا أجنحة ( ٢ ) / د. ناهدة محمد علي

في إحدى القرى الفلسطينية وفي صباح شتائي شديد البرودة ، كان ( أيمن ) وهو طفل في العاشرة وكبير إخوته الثلاثة هو المسؤول في عائلته بعد رحيل والده والذي كان قد قُتل في إحدى الهجمات الإسرائيلية على القرية . بعد هذا أخذت أم أيمن تعُد ولدها لكي يصبح مسؤولاً ومعيناً لهذه العائلة، فهو من يُكلف بالتسوق وتوصيل إخوته للمدرسة كل صباح ، وهو من يقف قرب البيت لكي يفتح كُشك أبيه لبيع السكائر ، والذي يكاد يكون المحل الوحيد الذي يتكوم عليه الزبائن كل صباح قبل ذهابهم إلي أعمالهم .
كانت المنطقة التي يسكن فيها أيمن منطقة مُحتلة وقد تعَوَد الجميع على رؤية الجنود الإسرائيليين يتهادون ذهاباً وإياباً في المنطقة ، وقد حذرته أمه مراراً من التحرش بهم لحاجتهم إليه ، كما أخبرته بأن هذه العائلة لن تتحمل فقدان فرد آخر منها .
تعَود أيمن أن يذهب كل صباح إلى مخبز القرية الوحيد والذي يُشم رائحة دخانه من بعيد وكان المحل الوحيد الذي يحصل على تجهيز النفط له بعكس بيوت القرية والتي كان يضطر بعض سكنتها الى شراء النفط المهرب من المناطق الإسرائيلية ، وكان هذا المخبز هو المكان الوحيد الذي تنبعث منه الحرارة والدفء كما يُشم منه من بعيد رائحة الخبز الشهية .
خرج أيمن في ذلك الصباح كعادته وحسب طلب أمه لجلب الخبز والذي يعتمد عليه طعامهم ، رافق أيمن جاره مسعود وهو شاب في حوالي الثامنة عشر ، كان الطريق طويلاً لكنهما أخذا يتمازحان طوال الطريق إلى أن أوقفتهما دورية إسرائيلية وبعد تفتيشهما سمحا لهما بالمرور مواصلين طريقهما . وبعد ذلك بدقائق أخذ تقاذف النيران ينتشر في جميع الإتجاهات ، وحار أيمن، أيعود إلى الوراء أم يواصل الطريق ، ولم يجد الإثنان شيئاً يحتميان به ، أمسك مسعود بيد أيمن وهرولا نحو صخرة كبيرة ليحتميا بها ، أخرج مسعود منديلاً أبيض ليسمحوا لهما بالمرور بدون إطلاق النار عليهم ، لم يسمعهما أو يرهما أحد ، وإستمر إطلاق النار بشكل كثيف وطار جزء من الصخرة التي يحتميان بها . إختبأ أيمن خلف مسعود وهو يرتجف من الخوف والبرد معاً ، فكر أيمن بإخوته ولم يشأ أن يموت هنا لكنه لم يستطع أن يتحرك يميناً أو يساراً ، لم يبال الجنود بالمنديل الأبيض وإستمر الإطلاق بإتجاههما والإتجاهات الأخرى .
كان أحد المقاتلين يتناوش مع الجنود وقد تكاثروا عليه من كل المداخل . مر صوت إطلاق شديد قرب أُذني أيمن فإلتفت إلى مسعود فوجده مضرجاً بدمائه ومتكئاً على الصخرة ، كاد أيمن أن يبكي لكنه تماسك وإستجمع شجاعته وأمسك بجسد مسعود الميت محتمياً به ، وإستمر إطلاق الرصاص وبشكل عشوائي وكثيف ، كان هناك مصور ومراسل لإحدى الصحف الأجنبية وكان يلتقط الصور بسرعة رغم صراخ الجنود وإحتجاجهم . قرر هذا المصور أن تكون هذه هي صورته الأخيرة لكي ينسحب من بين النيران فالخطر يتزايد من حوله .
بعد أن عاد المصور إلى الفندق الذي يسكنه أخذ بمراجعة شريط الصور التي إلتقطها ليتفحص صلاحيتها وليختار الصور المؤثرة والتي سيرسلها إلى صحيفته ، كانت الصورة الأخيرة التي وقف أمامها مذهولا وحزيناً ، مرعوباً وآسفاً ، أحس هذا المصور بالإشمئزاز من كل ما رآه لكنه قرر أن يختار صورة واحدة تعبر عن هول الواقعة والتي قد تُرضي سكرتير التحرير ، قام بنقل الصورة من تلفونه النقال إلى الكومبيوتر وهو يردد ممتعضاً ( إن هذا ليس بالعدل ، ليس بالعدل إطلاقاً ) . كانت الصورة هي صورة أيمن مضرجاً بدمائه ومتكئاً على كتف مسعود ، وكان الإثنان مستلقيين على الصخرة الكبيرة والتي لم تستطع أن تحميهما ، بل تفطرت وأدخلت النيران إلى جسديهما .