المنبرالحر

الفكر الطائفي والتطرف / د. عبد الحسين صالح الطائي

هناك بعض المواضيع لا يمكن أن نفهمها بشكل دقيق إلا من خلال سياقاتها التاريخية، وموضوع الفكر الطائفي والتطرف بهذا الإطار. التطرف موجود في معظم تراث الأديان، سواء كانت سماوية أو غيرها، ولكن بدرجات مختلفة. ونحن شئنا أم أبينا، علينا أن نعترف بوجود التطرف والغلو الذي يؤدي إلى العنف في تراثنا الاسلامي منذ بداياته الأولى، بعدما تحول إسلام الشورى إلى ملكية وراثية، وفي مختلف المراحل الزمنية وإلى يومنا هذا حيث اتخذ اتجاهات جديدة وخطرة ذات طابع إرهابي.
أكثر الأحداث التاريخية التي كان طابعها التطرف كانت في إطار طائفي، ويقف وراء تأجيجها مافيا السياسة، وبعض الحكام الذين سخروا الدين لمآربهم وأهدافهم الخاصة، وبمساندة ومؤازرة ومباركة مافيا الدين، وعاظ السلاطين، من خلال الفتاوى التي تتناغم مع تطلعات هؤلاء الحكام وتحرض على استخدام العنف. ما يعنينا اليوم هو الاتجاهات التي وصل إليها التطرف، خاصة بعد ظهور الاسلام السياسي، والحركات الدينية السلفية المتطرفة، التي أصبحت نتائج أعمالها الاجرامية خطرة على أغلب المجتمعات، خاصة مجتمعنا العراقي الذي يعاني من مآس كبيرة. هذا الأمر يجعلنا أمام حقيقة مؤلمة بأن مشكلة التطرف والعنف في مجتمعاتنا لن تنتهي في الأفق القريب، وهذا يضعنا أمام مسؤولية كبيرة في كيفية ايجاد المعالجات، من خلال رؤية ومعرفة دقيقة في كيفية إزالة أسباب التطرف أو الحد منها، وفي كيفية تحدي توجهات احزاب الإسلام السياسي.
الإسلام السياسي والعنف
مفهوم الإسلام السياسي: مصطلح حديث استخدم لتوصيف حركات سياسية تؤمن بالإسلام باعتباره (نظاما سياسيا للحكم). ويمكن تعريفه بأنه مجموعة من الأفكار والأهداف السياسية النابعة من الشريعة الإسلامية التي تؤمن بها شريحة من المسلمين الأصوليين الذين يعتقدون بأن الإسلام: ليس عبارة عن ديانة فقط وإنما هو عبارة عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات دولة. ويعتقد الإسلاميون أن الدين شامل لكل مناحي الحياة، والسياسة في المقدمة، وتطبيق الشريعة وأجب إلهي. وضمن هذا المفهوم يؤمنون بأن هناك نظاماً إلهياً لا يجوز إغفاله ويجب على المجتمعات اتباعه، وهو ما يعبر عنه بالحاكمية. ويستندون في ذلك إلى نصوص قرآنية ونبوية تشرع للحكم الاسلامي، ويصل الأمر إلى تكفير من يخالف ذلك( ).
مفهوم العنف: يعتبر العنف مظهراً من مظاهر العدوانية، ومصدر قلق يهدد المجتمع، لما يترتب عليه من آثار سلبية عواقبها كبيرة لا يمكن تجاوزها في فترة قصيرة من الزمن( ). تطرق الكثير من الفلاسفة والمفكرون لمعنى ومفهوم وأشكال العنف من وجهات نظر مختلفة، باعتباره ظاهرة متأصلة بالطبيعة البشرية. فقد تناول المفكر ثوماس هوبز موضوع العنف مؤكداً بأن مصادره موجودة في الطبيعة وأركانها التنافس والحذر والكبرياء. وحدد الإغريق العنف بأنه إفراط بالقوة وخرق للقوانين. بينما يرى ماركس بأن تاريخ المجتمعات، هو تاريخ الصراع بين الطبقات في مختلف المراحل الزمنية، صراع بين من يملك وبين من لا يملك وسائل الانتاج، وحسب رؤية فردريك انجلس بأن الصراع الطبقي يولد شكلين من العنف، عنف سياسي وعنف اقتصادي، وغالبا ما يحدد الثاني الأول، باعتبار العنصر الاقتصادي هو أساس تطور المجتمع. ويرى ماكس فيبر بأن أساس سلطة الدولة مبني على ممارسة العنف لغرض فرض السيطرة على أفراد المجتمع.
أما في العصر الحديث فقد ارتبط العنف بأشكال مختلفة أبرزها الحروب والعدوانية، كما في حالة الحرب العالمية الأولى والثانية وغيرها من الحروب التي انتشرت هنا وهناك. وقد اسهم التقدم التكنولوجي المعاصر في تطوير وانتشار وسائل وأدوات استخدام العنف المفرط. وكثيراً ما تُربط الممارسات العنفية ضد الآخر المختلف بالدين الاسلامي، تحت مسميات الجهاد أو غيرها من المفاهيم، وفقاً للنصوص التي تحفز البعض من المسلمين إلى استخدام العنف ضد من يخالفهم الرأي، وهذا الأمر بحد ذاته عزز من فكرة الاسلاموفوبيا لدى الغرب. مما حفز البعض من المسلمين بأن يكونوا من المناهضين للشريعة، ويعملون على إخراج الاسلام من قيود الشريعة ومناداتهم بالدولة المدنية.
اسباب ظهور الاسلام السياسي: الاسلام السياسي ظاهرة لها عواملها وأسبابها الذاتية والموضوعية الكثيرة، منها:
- الأزمات الاقتصادية والبطالة والفقر والحرمان والاحباط نتيجة الهزائم المتواصلة.
- فقدان الحقوق الأساسية لكثير من الناس في الكثير من مجالات الحياة.
- انهيار المنظومة التعليمية وسطحية الثقافة، وتداعياتها السلبية على المجتمع.
- الفراغ الديني وضعف المؤسسة الدينية، والانحراف الفكري، وعدم تفهم واقع الحياة البشرية.
- طبيعة الفتاوى المتعددة التي تمجد الاصولية، واستخدام الدين للمآرب الخاصة.
- التفكك والضغينة في اغلب العلاقات بين البلدان العربية والاسلامية، وفقدان بوصلة العدالة.
- الفساد وتغلغل آثاره السلبية، والتراجع في تطبيق مبادىء الحرية.
- فكرة احياء الامبراطوريات لدى بعض قادة الدول الاسلامية.
- وجود الاحتلال الاسرائيلي.
- سياسة الدول الغربية، واسلوب التآمر وسياسة الكيل بمكيالين.
بداية ظهور الاسلام السياسي:
ذكر الدكتور رشيد الخيون بأنه يصعب اطلاق مصطلح الاسلام السياسي على فترات الخلافة الإسلامية منذ بداياتها الأولى، ولا على الحركات التي وقفت بالضد من الخلافة، لأن الخلفاء وخصومهم يتخذون من الدين شعاراً وايديولوجية سياسية، ويجمعون بين السلطة الدينية والدنيوية( ).
وأكثر المصادر تؤكد بأن حركة الإسلام السياسي بمفهومه الحديث بدأت بعد انهيار الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى وقيام مصطفى كمال أتاتورك بتأسيس جمهورية تركيا على النمط الأوروبي وإلغائه مفهوم الخلافة الإسلامية بتاريخ 3 مارس / عام 1924م، وعدم الاعتماد على الشريعة الإسلامية. وأكد الدكتور رشيد الخيون بأن هذا المصطلح قد ظهر مع ظهور الأخوان المسلمين في مصر عام 1924، وبعدها تعاظم دور الحركات الاسلامية في إقحام كل شيء بالدين وفق نظرة أيديولوجية شمولية تفرض الكثير من القيود.
وان النشاط الديني في السياسة العراقية قد بدأ كحالة دفاع عن الخلافة العثمانية، على أساس أنها ممثلة للاسلام، وكممارسة جهاد في حالة غزو أو اعتداء، لذا يصعب اعتبار تلك الحركات ضمن الأحزاب الدينية بأنها ضرب من ضروب الاسلام السياسي().
وذكر الخيون بأن الصحوة الدينية السياسية التي اتبعها النظام السابق كانت ردة فعل طبيعية ضد انتصار الثورة الإيرانية وتعاظم المد السياسي الشيعي داخل العراق، حيث أخذ الفعل السياسي أو الحزبي طابعاً شيعياً، ضمن إطار أحزاب سياسية شيعية مع وجود فعل سُني ممثل بالحزب الاسلامي العراقي، ممثل الإخوان المسلمين.
وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وجه الإعلام اهتمامه نحو الحركات الاسلامية المتطرفة، التي فسرت تطبيق الشريعة الاسلامية وفق منظورها الذي تؤمن به. وعلى الرغم من المواجهات المباشرة والانتقادات والحملات الأمنية، تمكنت حركات الإسلام السياسي من التحول إلى قوة سياسية معارضة في بعض بلدان غرب آسيا وبعض دول شمال أفريقيا كالجزائر نموذجاً. وكذلك نجحت بعض الأحزاب الإسلامية في الوصول إلى الحكم في بعض الدول العربية مثل مصر وتونس والمغرب وحركة حماس في فلسطين.
وتعتبر دول مثل إيران والسعودية ونظام طالبان السابق في أفغانستان والسودان، والصومال أمثلة اخرى عن هذا المشروع، مع العلم أنهم يرفضون تسمية مصطلح (إسلام سياسي) ويستخدمون عوضا عنه الحكم بالشريعة أو الحاكمية الإلهية. وبالمقابل يتهم خصوم الحركات الإسلامية هذه الحركات بأنها: (تحاول بطريقة أو بأخرى الوصول إلى الحكم والاستفراد به، وبناء دولة دينية ثيوقراطية وتطبيق رؤيتها للشريعة الإسلامية).
وخصوم الحركات الاسلامية من اليسار ومن التيارات الليبرالية والحركات العلمانية يرفضون فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية في السياسة بكل أبعادها، لأنهم يريدون بناء دول ذات طابع مدني مؤسساتي، ومسألة اتباع الشريعة الإسلامية أو غيرها من المعتقدات شأن خاص بكل فرد في المجتمع لا تتدخل فيه الدولة.
ويؤكد الدكتور رشيد بأن الحراك الديني السياسي في العراق قد ظهر في عشرينيات القرن الماضي، لأسباب كثيرة تتعلق بالشأن الداخلي والخارجي، وارتقت المطالب في السبعينيات إلى المناداة باستلام السلطة وبقوة السلاح، وفرض حالة التدين، أي أسلمة المجتمع. وإن أول نشاط سياسي عقائدي شيعي ينادي بدولة اسلامية في مطلع أربعينيات القرن الماضي، بدأ من خلال جمعية مثلت الشباب المسلم لمنشئها عزَّ الدين الجزائري نجل الشيخ محمد جواد الجزائري، مؤسس الإسلام السياسي العراقي. وكان نشاطه بمعزل عن تنظيم الاخوان المسلمين، الذي كان تأثيره واضحاً على العديد من أحزاب ومنظمات الاسلام السياسي.
وظهر الحزب الجعفري في بداية عقد الخمسينيات، يمثل العمل الحزبي المنظم، وقد برزت من داخل هذا الحزب كوادر تحملت أعباء العمل التأسيسي في حزب الدعوة الإسلامية. وبدأ تصاعد دور الاسلام السياسي الشيعي بشكل واضح بعد الثورة الايرانية وخلال الحرب مع إيران في مطلع الثمانينيات، لأن هذه الثورة قد برزت الظاهرة الدينية في عموم المنطقة، وعلى أثرها تأسست كيانات وتيارات ومؤسسات شيعية، برزت من خلالها شخصيات عديدة، كان لها الدور المؤثر في الوسط السياسي الشيعي.
وبعد سقوط النظام السابق، وصعود أحزاب الاسلام السياسي إلى سدة الحكم، وهيمنة أحزاب الاسلام السياسي الشيعي على أكثر المراكز الحساسة، وبحكم قلة الخبرة واحتكار السلطة والنفوذ والمال، خُلقت حساسية كبيرة لدى الأطراف الأخرى أدت إلى انقسامات حادة في المجتمع. وهذا ما عكسه الواقع بأن هذه الأحزاب المتخندقة، ذات الأداء الفاشل، مارست الطائفية كحالة تعصب واستحواذ طائفة ضد الطائفة الأخرى. ومازال الصراع قائماً بأشكال متعددة، نتجت عنه حالة فساد مستفحلة، وأضرار بليغة بعامة الناس في مختلف المجالات، ولا توجد مساع جدية في الأفق تقف بالضد من هذه الممارسات.
المعالجات: هناك الكثير من الآراء والأفكار التي تشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والأمنية التي تعمل على إزالة أسباب العنف والحد من الصراعات الطائفية، البعض منها يصعب تطبيقها في ظل انتشار ثقافة العنف، والبعض منها لها قوة التأثير على شرائح معينة في المجتمع. وفي كل الأحوال لابد من القول بأن المافيا السياسية، ذات المصالح الفردية الضيقة، هي التي تقوم بالسيطرة على الناس واستغلالهم، والمافيا الدينية تعمل على تطويع الناس والمتاجرة بهم مع المافيات السياسية، لأن التحالف بين الاثنين قائم منذ القدم، والدين الذي تبشر به هذه المافيات قد تم إفراغه من معانيه وأهدافه. وأصبح توجههم في محاربة الآخر المختلف.
هذا الأمر يجعلنا في موقع التحدي لممارسات الاسلام السياسي مستفيدين من تجارب أوروبا الغربية، التي كانت تحارب بعضها البعض على مدى العصور، وبعد أن تخلصت من مافيا الطغيان في نهاية الحرب العالمية الثانية المتمثلة بالنازية العنصرية في ألمانيا والفاشية الظالمة في ايطاليا وغيرها من الديكتاتوريات، أصبحت دولهم تُحكم من الشعوب( ). وتقع على صناع القرار مسؤولية قراءة الواقع بمصداقية بعيداً عن العواطف، للوصول إلى أفضل المعالجات التي تحمي الناس من مكائد المافيات.
وهنا لابد من التعويل على الحراك الجماهيري الذي بدأ في العراق في إعادة لحمة النسيج العراقي الذي مزقته الأحداث المريرة الماضية، باعتبار أن كل حراك جماهيري هو ظاهرة صحية ودعوة إلى تصحيح مسار سياسي متلكئ. لاسيما أن الحراك الجماهيري الحالي قد أحيى الأمل في نفوس العراقيين، لأنه عابر للهوية الأثنية والعرقية والطائفية، ويمكن اعتباره البداية في تصحيح المسار الخاطئ.
وعلينا أن نعرف مسار هذا الحراك من خلال التفريق ما بين شعارات الاصلاح والتغيير، ومعرفة حجم الحراك، وقوة السلطة. الاصلاح يعني تصحيح المسار السياسي المتعثر، والتغيير عملية معقدة وطويلة وتحتاج إلى قاعدة متينة وأدوات وأرضية قوية، لا يملكها الحراك الحالي. وواقع الحال يجعلنا أمام حقيقة، بأن طبيعة السلطة الحالية والكتل السياسية المهيمنة المتحالفة معها لها أبعادها العميقة في المجتمع، ولها مصالحها التي لا يمكن أن تتخلى عنها بسهولة. فهي عبارة عن خليط هجين متماسك انتج حكومات مشوهة بدستور اعوج وقضاء منحرف، أوصل العراق إلى هذه الحالة المرثية. لذا من الضروري أن تكون الشعارات عقلانية وذات طابع إصلاحي مشروع وقابلة للتطبيق، ينتج عنها عهد جديد بعيداً عن الفساد مبني على القيم الوطنية والمواطنة.
وعلى مجاميع الحراك أن تدرك بأن المطالب لا يمكن تحقيقها إلا من خلال خطوات واعية ومدروسة، وإذا أرادت أن تستفيد من الفرصة التاريخية التي منحت لها سواء من المرجعية أو من الشارع العراقي، وتريد تحقيق انتصارات محددة وواضحة عليها أن:
- توحد صفوفها وتعمل على تكوين قيادة موحدة ومنسجمة، باختيار شخصيات لها ثقل جماهيري. تعمل على تكوين حركة اجتماعية تضبط نبض الشارع السياسي، أي بأن تكون المبادرة بتكوين (حركة سياسية ديمقراطية مدنية) تحترم كل أطياف الشعب العراقي، ويكون لها برنامج مرحلي واضح الأهداف، ويمكن أن يكون البديل عن نظام المحاصصة السيئ الصيت.
- توحد الشعارات والخطاب، والتأكيد على أن العلم العراقي هو الرمز الذي يوحد الجميع، وأي رمز فيه تمييز يعد مرفوضاً.
- أن يكون هناك سقف لكل مطلب جماهيري، بحيث تكون هذه المطالب منطقية وقابلة لأن ترفع سقفها لاحقا مع اتساع حجم الحراك. والتركيز في هذه المرحلة على محاربة الفساد ومعاقبة المفسدين، وإصلاح القضاء، والمطالبة بتعديل بعض بنود الدستور، وتشريع القوانين التي تصب في تحسين الخدمات وخدمة الناس.
- توسيع دائرة الحراك، بالاعتماد على أكبر عدد من منظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات النسائية والطلابية. والتأكيد على كل جهة تريد الانضمام بأن تلتزم بتوجهات الحراك.
- ابتكار أساليب جديدة.
- اليقظة والحذر من محاولات السلطة المراوغة والتسويف والاندساس وغيرها. لأنها، من أجل مصالحها، لا تتوانى في تدمير الآخرين والوقوف ضد أي مد جماهيري.
- وهذا يتطلب أقامة جسور من التحالفات والتعاون مع مؤسسات أو شخصيات من داخل السلطة تلتقي مصالحها مع الجماهير. الاستفادة من طروحات المرجعية في تعزيز المد الجماهيري.