المنبرالحر

في ضوء التحضيرات للمؤتمر الوطني العاشر للحزب، المصالحة الوطنية الأهداف والمعوقات / إبراهيم المشهداني

طرح الحزب الشيوعي العراقي مسودة مشروع سياسي اسماه (مسودة موضوعات سياسية للمؤتمر الوطني العاشر للحزب) ليكون مكملا لكافة المذكرات السياسية السابقة الموجهة إلى الرئاسات الثلاث والأحزاب السياسية حول المصالحة الوطنية، وكما في المؤتمرات السابقة فقد اتسمت مسودة الموضوعات بالسعة والشمول والاقتصادية، إلا إن التطور الجديد والملموس في هذا المؤتمر يتمثل بطرح الموضوعات تلك إلى الرأي العام في سابقة لم تقدم عليها التيارات والأحزاب السياسية في العراق، تناول فيها كلما يشغل بال العراقيين وينغص حياتهم في النواحي السياسية والاجتماعية باعتبارها مشاكل عقدية بلغت مستويات أكثر من إي وقت مضى دون إن تبادر الحكومات العراقية المتعاقبة بحكم مسئوليتها إلى وضع المعالجات الجدية التي تنم عن الحكمة ورجاحة العقل ومع الأهمية التي تتمتع بها كافة المحاور الواردة في المسودة إلا إنني سأتوقف عند إشكالية المصالحة الوطنية لاعتقادي إن حل هذه الإشكالية سينقل مخرجاتها إلى كل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية الحالية والمستقبلية،وإنها ستضع حدا للصراعات الاجتماعية العنيفة وتؤسس لاستقرار سياسي واجتماعي ليس لجيلنا الحالي فحسب وإنما للأجيال القادمة أيضا فما هي المصالحة التي نقصدها ؟
اختلاف الرؤى حول مفهوم المصلحة
ان التحديات الحقيقية أمام تحقق المصالحة الوطنية في العراق تعود إلى عوامل داخلية وخارجية أما الداخلية فتتعلق باختلاف المواقف السياسية التي تعكس المصالح الحزبية الضيقة وفقدان الثقة بين هذه الإطراف والتسابق على مركز القرار ، والتهديدات الخطيرة الناشئة عن وجود الإرهاب واتساع رقعة وجوده في العراق مستفيدا من غلو الطائفية السياسية التي تحدد شكل النظام السياسي القائم المبني على أساس الهويات الفرعية وكان من الممكن ان تكون هذه التهديدات مبعثا لتفعيل مشروع المصالحة الوطنية لولا دخول الأجندات السياسية لدول الإقليم التي تمتلك مشاريع وقوى سياسية موالية لها ومتمترسة في دهاليزها على الخارطة السياسية المرتبكة في الداخل. من هنا كان الحزب على درجة عالية من استيعاب هذه العقد عندما وصف المصالحة في كونها نهجاً ونمط تفكير وطريقة أداء وإجراءات عملية وبناء أجواء ثقة.
معوقات المصالحة
معظم القوى السياسية في السلطة وخارجها أعربت عن اهتمامها بالمصالحة الوطنية باعتبارها الدعامة الأساسية لحل الإشكاليات العقدية في المجتمع العراقي وتوتر الأجواء الأمنية والسياسية وتوفير المناخ الملائم لتحقيق الوفاق الوطني لكنها ما ان يطرح مشروع المصالحة للحوار حتى تنفتح جبهات جديدة للخلافات السياسية مع ما يرافقها من أعمال تفجير واغتيالات وعمليات تسقيط سياسي وتبادل التهم واستفحال الشكوكية وعدم الثقة وينتهي ملف المصالح في الرفوف العالية من هنا يمكن تلخيص أهم المعوقات التي تقف امام هذا المشروع بما يلي :
1. غياب الإرادة الحقيقة لدى القوى السياسية النافذة للانتقال بالمصالحة من الشعارات الى منهج وسلوك وممارسة على الأرض.
2. غياب البرنامج الحكومي والسياسي والنهج الإعلامي التوعوي الهادف إلى مغادرة حالة الكراهية والتثقيف بروح التسامح والابتعاد عن الثأرية وسلوك الاستعداء السائد في المنابر الدينية.
3. غياب العدالة في توزيع الثروة وإطلاق العنان أمام الفاسدين والطفيليين والبيروقراطيين القابعين في قمة الهرم الحكومي والكومبرادور للاستحواذ على المال العام مما ادى الى خلق فجوة كبيرة بينهم وبين الطبقات الفقيرة.
4. المحاصصة الطائفية الاثنية التي قادت الى استخدام كافة الأدوات المتاحة للتعبئة والتحشيد الطائفي وكان لوسائل الإعلام المنتشرة والتي تكرس للهويات الفرعية دور كبير في تصعيد الشحن الطائفي وصناعة قواعد انتخابية مجتمعية تصاحبها النزعات العدائية دون الاكتراث بنتائجها والتي كانت تتبادل التأثير على المستوى الداخلي مع المحيط الإقليمي .
5. التماهل الحكومي والسياسي في إيجاد أرضية فكرية ثقافية لخلق شعور بعدم وجود خاسر ورابح نتيجة لتبدل النظم السياسية بل العكس كانت القوى المتنابزة تشجع بوسائل متعددة لخلق شعور بالإحباط وخيبة الأمل في النظام السياسي الجديد.
6. وضع تشريعات غامضة وعائمة قابلة للاجتهاد تحمل في طياتها إجراءات انتقامية لا تميز بين المجرم والبريء ومنها قانون اجتثاث البعث الذي أبدل اسمه إلى قانون المساءلة والعدالة وسيادة مبدأ الانتقائية في التطبيق على أسس طائفية ما نجم عنه ردود أفعال عدائية، وكذلك قانون مكافحة الإرهاب الذي أسيء استخدامه في معاقبة الناس على أساس الانتماء المذهبي حتى تحولت أسماء الناس في هذا المنهج الى جريمة تعرض حاملها إلى الشبهة وحتى الى الانتقام والقتل والتعامل مع مناطق كاملة على أساس الشبهة مما فسح المجال لدخول الإرهاب ابتداء من القاعدة وانتهاء بالدواعش.
7. كان لسوء الخدمات وخاصة الكهرباء والخدمات البلدية والصحية والتعليمية دور كبير في زعزعة الثقة بالسلطة وأصبح الناس لهذا السبب فريسة لمشاريع الإرهاب الخبيثة وخاصة جر الشباب المتذمر والمحبط إلى رفض العملية السياسية والاستعداد للإجهاز عليها كلما وجدت فرصة لذلك.
8. ولا ننسى ان للاختلافات بين المركز والإقليم وعدم توفر الجدية والإرادة الحقيقية لمعالجتها دورا في خلق حالة من عدم الثقة وأثرا على تصاعد النعرات الشوفينية والتهديد بالاستقلال مع ما يرافقها من ردود الأفعال والكراهية وخلق المناخات الملائمة لاستغلالها من قبل الإرهابيين.
تجارب عالمية للمصالحة
في العقود الأخيرة سجلت تجارب ثرية على النطاق العالمي في مجال المصالحة المجتمعية ومن أبرزها تجربة جنوب إفريقيا والتجربة الايرلندية والمغرب وسيراليون وغيرها، التي نجحت نجاحا كبيرا في إزالة الاختلافات العرقية والمذهبية ولكن لتجربة جنوب افريقية خصوصية يمكن الاستفادة منها في تحقيق السلم الاجتماعي، فقرون من التمييز بين البيض المستعمرين الحاكمين والأفارقة السود الذي يشكلون الاغلبية لشعب جنوب افريقيا وعمليات الإبادة ضد السود ونظام الفصل العنصري (الابارثيد) الذي مارسه البيض تجعل كافة التوقعات تذهب الى استحالة تحقيق السلام وتؤشر الى احتمال اللجوء إلى الإعمال الانتقامية والثأرية بعد التحولات السياسية في العقدين الاخيرين من القرن الماضي لكن شيئا من ذلك لم يحدث بل ان العالم كان مندهشا لما تحقق من مصالحة كانت اقرب الى الخيال فقد تخلى البيض عن سلطتهم طوعا للسود وبعد مفاوضات مارثونية تم التوصل الى سن القانون رقم 34 لسنة1995 الذي وضع الأسس لتحقيق مصالحة مجتمعية حقيقية وفي ضوء هذا القانون تم تشكيل لجنة سميت لجنة الحقيقة والمصالحة برئاسة القس المناضل ضد العنصرية (ديزموند توتو ) منحت صلاحيات واسعة شبه قضائية يستند عملها على مبادئ الاعتراف بالجريمة وطلب العفو وقبول الاعتذار في جلسة علنية والشفافية المطلقة والمواجهة المباشرة بين الجلاد والضحية واعتراف الجلاد بكل ما يملك من المعلومات. وقد منحت اللجنة صلاحيات واسعة في الاستدعاء والتحقيق وإدخال ذوي الضحايا والضحايا الباقين على قيد الحياة في مواجهة جلاديهم وإحراجهم بالأسئلة ومن الأمثلة حضور احد المناضلين اليساريين الذي تعرض إلى تعذيب مخيف في مواجهة مباشرة مع جلاده العنصري( جيفري بنزيين) العضو فيما كان يسميه النظام العنصري (وحدة مكافحة الإرهاب )، وصلاحية التحقيق في الانتهاكات التي اقترفها الموظفون الرسميون وأعضاء المنظمات المعارضة خلال 34 عاما،والشرط الآخر في التحقيق إن الفعل كان لأسباب سياسية ارتكبت في ظروف نزاعات حصلت في الماضي.
كل هذه الإجراءات والتشريعات قد خلقت مناخات كافية لحصول الثقة بين الضحية والجلاد من اجل تحقيق مصالحة وطنية شاملة وحقيقية. لجنة الحقيقة والمصالحة لعبت دورا محوريا في إعادة اللحمة الوطنية دون إهدار لحقوق الضحايا ودون حرمان الطبقة الحاكمة السابقة من فرصة إعادة التأهيل.
شروط تحقيق المصالحة الوطنية في العراق
إن رؤية الحزب بشان المصالحة الوطنية تأتي في إطار التأكيد على تقوية اللحمة الوطنية وهذه اللحمة لن تتحقق ما لم تنطلق من إرادة وطنية جامعة والتخلص من بواعث الشك في الآخر على أساس الانتماء الطائفي والعرقي وإنهاء سياسة المحاصصة الطائفية الاثنية وحصر السلاح بيد الدولة وإنهاء التمييز بين المواطنين على أساس الهويات الفرعية والتعامل مع سكان المناطق الساخنة على أنهم عراقيون لاشك في وطنيتهم والبحث عما يخفف من مخاوفهم من الأجهزة الأمنية وكسبهم إلى جانبها ضد الدواعش عن طريق تحسين أوضاعهم الخدمية والمعاشية. إن كسب سكان هذه المناطق واشراكهم في عملية التحول الديمقراطي انطلاقا من الثقة بديلا عن الشك في عملية تثقيف متواصلة بمختلف الوسائل، والاستفادة من التجارب العالمية وترجمتها بما يتناسب مع الخصوصية العراقية واعتقد إن قانون المساءلة والعدالة قد أدى مهماته وقد جاء الوقت الذي يتم فيه تأهيل أعضاء حزب البعث من الذين لم يرتكبوا جرائم القتل والخيانة بحق الوطن وأظهرت الإحداث ضرورة تعديل قانون مكافحة الإرهاب بما يضمن حماية المواطن البريء من تقارير الشهود السريين بما تنطوي في الغالب على تهم كيدية أثبتها القضاء العراقي . وان معالجة كافة المعوقات التي تحول دون الانجاز التام للمصالحة الوطنية وإنهاء هذا الملف الذي طال أمده سيضع بلادنا وشعبنا على سكة التآخي والوحدة الوطنية الراسخة.