المنبرالحر

ماذا بقي للعراق بعد استيراد قدح اللبن؟ / حسام الدين الانصاري

مع محدودية النشاط الصناعي في العراق في خمسينيات القرن الماضي فقد كانت هناك صناعات تتماشى وبنية الاقتصاد العراقي آنذاك، وتتناسب مع المهارات والخبرات الهندسية والفنية والادارية، فكانت هناك صناعات الغزل والنسيج القطني والصوفي والجلود والالبسة والالبان والتمور والاسمنت والطابوق والكاشي والجص وتقطيع الحجر والمرمر والاسفلت والعديد من الصناعات الغذائية كصناعة الزيوت النباتية ومعجون الطماطة وطحن الحبوب، اضافة الى العديد من الورش والمعامل الاهلية كصناعات الاغذية وتكسير الاحجار والمقالع واستخراج الرمل والحصى وصنع الزوارق الخشبية وصيد الاسماك واعمال المسابك والهياكل المعدنية المستخدمة في اعمال البناء وكذلك الاعمال الخشبية وصناعة الموبيليا وكثير غيرها.
واستمرت هذه النشاطات الانتاجية بالنمو لتلتقي بزخم صناعي حكومي بعد ثورة 1958 حين وضعت وزارة الاقتصاد التي كان يقودها آنذاك عالم الاقتصاد الراحل ابراهيم كبة احد ابرز الاقتصاديين على المستوى الدولي خطة التنمية الصناعية تقوم على انشاء مشاريع صناعية ذات تكنولوجيا غير معقدة تتناسب مع هيكل الاقتصاد الوطني وسلم المهارات الموجودة ومحدودية الموارد المالية المتوفرة من ايرادات استخراج النفط حين تعاقدت الحكومة مع عدد من بلدان الكتلة الاشتراكية لانشاء معامل جديدة وتوسيع المعامل القائمة لبعض الصناعات التي ساعدت في ارساء قاعدة صناعية متواضعة وتهيئة قوى عاملة حولتها من الفائض في القطاع الزراعي وتدريبها على الاعمال الانتاجية ومعايشة الاجواء الصناعية التي لم يكن من السهل اندماج هذه الشريحة بالعمل في المصانع الانتاجية تحت ظروف الضبط والالتزام بالوقت وبساعات العمل الطويلة والاجواء المغلقة داخل قاعات وورش المعمل، وامتدت التجربة لفترة زمنية ادت الى البدء بتكوين طبقة عاملة مدربة على مهارات العمل الانتاجي، ولتلتقي مرة اخرى مع تصاعد خطط التنمية الصناعية التي اعقبت عملية تأميم النفط لتتخذ ابعادا جديدة لاقامة مشاريع صناعية كبرى كالصناعات الحربية والكيمياوية والكهربائية والحديد والصلب وصناعة الاجهزة المنزلية وصناعة اطارات السيارات وانشاء معامل جديدة للاسمنت وتطوير الموجود، والصناعات الميكانيكية التي تضمنت عمليات تجميع السيارات والتراكتور وتصنيع بعض مكوناتها وادواتها الاحتياطية، كما شملت توسيع الصناعات القائمة بصورة ضاعفت من قدراتها الانتاجية لتشمل المحافظات والتحاق اعداد كبيرة للعمل في القطاع الصناعي الذي وصل الى حد امتصاص كافة القوى العاملة القادرة على العمل، اضافة الى النمو الذي حصل في نشاط القطاع الصناعي الخاص ودوره في عملية التنمية الصناعية باحتوائه على المشاريع الصناعية المتوسطة والصغيرة التي وفرت الكثير من السلع الاستهلاكية.
ومع استمرار مشاريع التنمية والازدياد المضطرد للانتاج المحلي وتغطية اغلب احتياجات السوق المحلية والاستقرار النسبي الذي تحقق للاقتصاد العراقي.. تأتي الصدمة الكبيرة التي حصلت في اعقاب احتلال العراق للكويت وفرض الحصار الاقتصادي عليه، الامر الذي ادى الى تعثر وتلكؤ المشاريع الصناعية بسبب الصعوبات المالية والحصار الاقتصادي الذي فرضته الامم المتحدة، ولكن رغم ذلك استمرت المصانع الحكومية الى جانب القطاع الخاص بالعمل ولو بمعدلات ادنى من اجل تغطية حاجة السوق المحلية.
ثم تأتي الانتكاسة الكبرى للنشاط الصناعي مع دخول قوات الاحتلال في 2003 وتحطيم البنى الارتكازية وتدمير المؤسسات الخدمية والمشاريع الستراتيجية الكبرى، كمشاريع التصنيع العسكري وتوقف الانتاج بسبب فوضى ادارة مؤسسات الدولة وانحسار التخصيصات المالية الذي ادى الى توقف العديد من المشاريع الصناعية الحكومية، وتعثر وتوقف غالبية مشاريع القطاع الصناعي الخاص ايضا بسبب الانفتاح العشوائي والاستيرادات التي اغرقت الاسواق بالسلع ذات النوعيات الواطئة وباسعار تنافس المنتج المحلي بسبب عدم خضوعها للضريبة الكمركية وفقدان اجراءات الرقابة النوعية.
ورغم هذا الواقع الصعب الذي تعرضت له الصناعة في العراق بقطاعيها العام والخاص، الا ان الامل لم ينقطع حينما جاءت زيادة اسعار النفط وارتفاع الواردات النفطية التي حصل عليها العراق والتي كان يفترض ان تتوجه لمعالجة الوضع الاقتصادي من خلال انقاذ القطاع الصناعي المتدهور، الا ان السياسة العشوائية في ادارة الموارد النفطية والتركيز على الميزانيات التشغيلية غير الانتاجية والعقود الفاشلة والهدر في النفقات الحكومية والفساد المالي المستشري في دوائر الدولة وعدم تخصيص مبالغ للقاطع الصناعي لم تغير من حالة الضعف والتدهور الذي اصاب هذا القطاع الذي تفاقمت مشاكله التي وصلت الى حد توقف الكثير من الصناعات في القطاعين العام والخاص.
ونتيجة لهذا الواقع تحول العراق من بلد واعد في مسيرة النمو الصناعي الذي بلغ اعلى مراحله حينما تمكن من سد حاجة السوق المحلية ووضع الخطط المستقبلية للدخول الى اسواق التصدير، الى بلد مستورد.
واما هذا التردي فقد عرض اقتصاد البلد وعموده الفقري القطاع الصناعي الى حالة من الشلل والموت السريري الذي اودى بالبناء الذي ارست قواعده السواعد العراقية عبر اكثر من خمسة عقود الى الزوال والانهيار ليصبح العراق مستورداً لقناني الماء والبسكويت واقداح اللبن التي تؤشر المستوى الاقتصادي البائس الذي وصل اليه العراق.
واذا كان السؤال عن الحل، فالحل في منع الاستيرادات العشوائية واحياء دور مؤسسة الاستيراد الحكومية لتطبيق سياسة استيراد مبنية على اسس اقتصادية سليمة من جهة، واعادة تشغيل القطاع الصناعي العام بكفاءة عالية ودعم القطاع الصناعي الخاص برفع القيود والضرائب والرسوم عنه من جهة ثانية، لتمكين هذين القطاعين من تغطية حاجة السوق المحلية وايقاف عملية اغراق الاسواق بالسلع المستوردة الرديئة ونزيف العملة الصعبة.