المنبرالحر

الحزب الشيوعي العراقي بين الاحتفاء الروتيني بالماضوية والبزوغ الجدلي للهوية المستقبلية..! / فارس كمال نظمي

الشيوعية Communismm في جوهرها الابتدائي ظاهرة اجتماعية ملازمة للتاريخ النفسي للبشرية، فردياً وجماعياً. أما الحزب الشيوعي فهو ظاهرة سياسية ملحقة بالظاهرة الاجتماعية، أفرزها التطور الاقتصادي وتعقد الوعي السياسي بعد الثورة الصناعية. وبمقدار ما يصبح الحزب هيكلاً سياسياً مجوفاً ومغترباً عن شيوعيته الاجتماعية، فإنه يتوقف أن يكون فاعلاً اجتماعياً مؤثراً في مسارات الحياة الثقافية والسياسية للمجتمع.
وفي العراق المعاصر، كانت الشيوعية دوماً ذات طابع سوسيو-ثقافي قبل أن تكون هوية سياسية حزبوية. وطبقاً لذلك تأسسَ الحزب الشيوعي العراقي 1934 بوصفه امتداداً سوسيو-سيكولوجياً لثقافة المساءلة والإنصاف والتنوير البازغة مع نشوء الدولة العراقية 1921، وتأثراً بكارزما الثورة البلشفية في روسيا 1917، إذ عبّرت خلاياه الشبابية الـتأسيسية الأولى عن التصاق اجتماعي ورسالي فريد بأدق خلجات الهموم الشعبية المرتبطة بالنبض الطبقي الباحث عن بوصلة ايديولوجية لمأسسة مفهومي الحق والعدل في المخيال الاجتماعي المضطرب آنذاك. ولذلك لم يكن غريباً، منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، أن يخرج أغلب المثقفين العراقيين - بوصفهم منتجين نوعيين للفن والأدب والعلم والفكر- من معطف الشيوعية الاجتماعية التي يعدّ الحزب الشيوعي واحداً من تمظهراتها التنظيمية.
ووفقاً لهذه الرؤية، فإن الحزب الشيوعي العراقي يستطيع أن يهرم أو يظل شاباً طبقاً لمدى عجزه أو قدرته على تغليب الطابع اليساروي الاجتماعي للشيوعية في بنائه التنظيمي ووظيفته الفكرية التحويلية للمجتمع، وسط ظروف عراقية وإقليمية عسيرة أعيد فيها إنتاج الوعي الاجتماعي الزائف ليصبح وعياً أساطيرياً منفصلاً تماماً عن الواقع المكتظ بالخراب والانهدام والاستلاب.
إن الشيوعيين العراقيين بصنفيهم الاجتماعي والسياسي باتوا يسألون في كل المناسبات السياسية والفكرية ذات الصلة، ومنها الذكرى السامية لتأسيس الحزب: «هل ما يزال الحزب مالكاً لرأسمال اجتماعي كاف يوفر له دوراً مؤثراً في الحياة السياسية؟ أم تحوّلَ إلى مجرد سردية أخلاقوية توفر إشباعاً نفسياً آنياً لأعضائه ومؤيديه؟!».
وقد يتسع هذا السؤال ليشمل مديات أبعد واحتمالات أعمق تتعلق بالعوامل الذاتية والموضوعية التي تسهم في مراكمة أو إهدار هذا الرأسمال الاجتماعي، إذ أن الإجابة عن هذا السؤال المركب ليست يسيرة ولا جاهزة ولا جازمة، بل إن الخوض فيها هو نوع من النشاط الفكري الجدلي المتعدد المستويات، الذي يمكن أن يطلق حواراً غنياً وواعداً لتنشيط مجمل الحراك اليساري في العراق.
..
"الشيوعية" في مضمونها النشوئي هي فكرة أخلاقية قبل أي اعتبار، وهي الفلسفة الأشد التصاقاً وحميمية بأعمق الأسئلة البشرية عن دوافع الوجود الاجتماعي ودينامياته وغاياته وكيفية تغييره إلى ظروف مثلى. وقد سعى الحزب الشيوعي العراقي طوال تاريخه الوعر أن يظل أخلاقوياً في هويته السياسية، ما جعله حزباً تاريخياً أي عصياً على الاندثار أمام الفاشيات والمحن، بل أن أخطاءه التي كثيراً ما أشار إليها منتقدوه من مناصرين وخصوم، هي في النهاية نتاج غير مباشر لنزعته الأخلاقية الثابتة التي لطالما جعلته أقرب إلى المُثُل العدالوية والتفكير الفاضل، أبعد عن المنافع السياسية والتفكير البراجماتي.
وتأسيساً على هذه النزعة الأخلاقية، فإن الاحتفاء بذكرى 311 آذار ينتظر أن ينبجس منه أولاً تحشيدٌ نفسي لدى قيادة الحزب وأعضائه وأصدقائه، نحو إعادة إنتاج النوستالجيا الماضوية بصيغة اشتغالٍ فكري وتنظيمي آني محموم، يستند في منهجيته إلى تراكم العلوم الاجتماعية الأكاديمية لا إلى اجتزاء التنظيرات المتقادمة المبسطة، مع المحافظة على سقف ايديولوجي منحاز نهائياً إلى قضايا الحرية والعدل الاجتماعي.
هذا الاشتغال سيؤسس بثبات لهوية سياسية مستقبلية مرنة تضمن أن يظل الحزب تياراً شبابياً (بالمعنى النوعي لا العُمري فحسب)، وراديكالياً (بالمعنى الجذري لا العُنفي)، واجتماعياً (بالمعنى الجماهيري لا النخبوي فحسب)، وفكرياً (بالمعنى التجديدي السلوكي لا التلقيني اللفظي)، وفاعلاً (بالمعنى التاريخي لا الانتخابي فحسب).
..
31 آذار 19344 مناسبة مستقبلية في جوهرها، لكنها تصطف في الوقت ذاته إلى جوار الأحداث الأسمى في ذاكرة السياسة والاجتماع في العراق المعاصر.