المنبرالحر

من حكايا أيام زمان... حكايتان من لواء الديوانية / ناصر حسين

الحكاية الاولى :
حكى لي والدي ان رئيس عشيرة البو شيخ مشهد في ناحية العباسية المجاورة لعشيرتنا شكى لدى مدير ناحية العباسية – والشكوى كانت ايام النظام الملكي – على شيخ عشيرتنا عمي الاكبر عباس الحاج ناصر حول موضوع المبزل، وان عمي والبزل ((الحقوا ضرراً بمزروعاتهم)). ويبدو ان مدير الناحية ابن مدينة بعيدة عن الامور الزراعية ومصطلحاتها كالبزل والشاخة والكرمة وغيرها، كتب على الطلب المقدم له هامشاً يطلب من ضابط الشرطة احضار عمي والبزل.
ضابط الشرطة تعمد لدى كتابة طلب الاحضار ان يجعل عمي في الصورة فكتب له ان ((يحضر امام مدير الناحية ومعه البزل)).
وفي الموعد المحدد للحضور توجه عمي الى العباسية، وقبل المثول امام المدير، قابل ضابط الشرطة ليستفهم منه الامر فاطلعه على طلب الشكوى وهامش السيد المدير. بعد ذلك طرق باب غرفة المدير وبعد تبادل التحية وشرب الشاي سأله السيد المدير عن البزل وسبب عدم حضوره فاراد عمي المناكدة معه فأجابه ((بأن البزل ممتنع عن الحضور)) ((لم يكن بامكاني احضاره)) فأجاب نبعث له بالشرطة تحضره بالقوة)).
قال عمي ((لا يفيد، لن تتمكن شرطة العباسية من احضاره ولا شرطة الشامية، ولا شرطة الديوانية ولا حتى شرطة العراق باجمعها)) ولم ينتبه المدير الى ان جواب عمي فيه شيء من الغموض، وباعتباره مدير ناحية لدى نظام لا يعرف غير العنف في التعامل مع الشعب استمر في التهديد واجاب بانه ((اذا كان متمرداً لهذا الحد نستعين عليه بالجيش)). فواصل عمي سخريته وقال له ((وحتى الجيش لا يستطيع احضاره)) هز راسه وكأنما يفكر في الكيفية التي يستطيع بها احضار البزل)).
عند ذاك قال له عمي((يا استاذ، تريد مني احضار البزل، وتهدد باللجوء الى الشرطة والجيش، اتعرف ما هو البزل ؟ البزل مجرى ماء يا استاذ مجرى ماء، الزراعة الشلبية واية زراعة اخرى مثلما تحتاج الى النهر يروي المزروعات تحتاج الى البزل لتصريف المياه الزائدة والمالحة التي تقتل المزروعات ان لم يكن هناك بزل جاهز لتصريف تلك المياه منطقتنا ومنطقة البو شيخ مشهد لا يوجد فيها بزل بالمستوى المطلوب، البزل الموجود مندرس ويحتاج الى تطهير وتطهير البزول هو مهمة الدولة.
عند ذاك فهم المدير ما هو البزل ؟ وهل كان الذنب ذنبه ؟ هو في كلية الحقوق درس القوانين وليس شؤون الري. وبدلاً من ممارسة المحاماة ومن خلال تلك الممارسة يطلع على شؤون المجتمع وتشابكاتها قبل ان يعين، عينته الواسطة مدير ناحية وارسلته وزارة الداخلية الى العباسية، وهي منطقة زراعية وهو الذي لا يعرف شيئاً عن الزراعة والعلاقات الزراعية ومشاكلها المعقدة فواجه هكذا مطب واصبح موضع سخرية لدى ضابط الشرطة ولدى عمي.
الحكاية الثانية:
هي من ناحية غماس في قضاء الشامية وبطلها مدير ناحية ايضاً في غماس كان مركز الشرطة وادارة الناحية بعيداً عن مركز المدينة. التنقل بين المدينة وادارة الناحية يحتاج الى واسطة نقل، الى سيارة.
صباح احد الايام، كان مدير الناحية يقف في الساحة المواجهة لادارة الناحية جاء احد الملاكين، وهو نجل رئيس عشيرة من عشائر غماس، يقود سيارته الخاصة بنفسه اشر له السيد مدير الناحية فتوقف.ظناً منه بان المدير يريد تكليفه بشيء او يريد منه ايصاله بسيارته الى المدينة وكانت المفاجأة، فقد طلب المدير من الملاك اجازة السوق، وبدون أي تردد مد الملاك يده الى النعل الذي يحتذيه فسحبه وناوله للمدير قائلاً ((هذه اجازتي)) وشغل محرك السيارة وغادر الساحة.
غضب المدير من ذلك التصرف فاستأجر سيارة اجرة وتوجه الى الشامية ليحكي الى السيد القائممقام تصرف المّلاك فقال له ((وهل كانت هذه مهمتك ؟ انت مدير ناحية ام شرطي مرور ؟ وماذا استطيع ان افعل فنحن حكام في خدمتهم ؟ هم الذين يعينوننا وهم الذين يعزلوننا من مناصبنا. السلطة سلطتهم وهم اصحاب الشأن وأضاف:
((لم يعد بامكانك البقاء في غماس بعد هذه الاهانة، وكل ما استطيع ان افعله لاجلك هو استخدام صلاحياتي فانقلك الى ناحية الغرب)) ناحية الغرب كانت ناحية وهي الان قصبة يبلغ تعداد نفوسها الخمسة الاف نسمة تتبع ناحية الشنافية التي ترتبط الان بقضاء الحمزة الشرقي بعد ان كانت تتبع قضاء الشامية. وقد حكى لي احد الرفاق ان السيد المدير بعد ان نقل الى الغرب واجه بعد فترة قصيرة امطار نيسان الغزيرة ومياه الفيضان الطاغية في نهر الفرات فانقطع الطريق الواصل بين الغرب والشامية بحيث لم يعد امامه هو وموظفو ادارة الناحية غير استخدام الشباك لصيد الاسماك لتدبير تغذية عوائلهم لحين انحسار مياه الفيضان والوصول الى الشامية لاستلام رواتبهم.
حكايتان من ايام زمان تؤشران الى حالة المجتمع العراقي وكيف كانت تدار اجهزة الدولة. حكام جهلة لكنهم بارعون في استخدام القمع ضد ابناء الشعب وليست غريبة جهالتهم، فشاعرنا الكبير معروف الرصافي قال عن مليكهم ذات يوم انه ((لا يعرف غير عد الايام واستلام الراتبا)).
ويأتي اليوم ونحن في القرن الواحد والعشرين من ينتقدنا، ولست ادري عن جهالة ام عن غرض في نفس يعقوب، لاننا ثرنا في الرابع عشر من تموز عام 1958 وأسقطنا نظام الجهل والتبعية للأجنبي وأرسلنا بعض زعماء النظام ورجاله الى المقابر ومزبلة التأريخ، كما اسمع من البعض كلمات عدم الرضا عن اصرار الحزب الشيوعي العراقي على بناء الدولة المدنية الديمقراطية : دولة المؤسسات، لا دولة الافراد وان كانوا مدنيين، فلا فرق في دولة الافراد بين ان يكون اولئك الافراد مدنيين ام عسكرتاريا. نريدها دولة مدنية ديمقراطية اتحادية كما ينص الدستور العراقي، هذا هو موقفنا، وهذا ما نريد في اللحظة الحاضرة ولا تراجع عن هذا الموقف والى الامام.