- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الجمعة, 24 تشرين2/نوفمبر 2017 16:07
راجت مؤخراً الدعوة الى الدولة المدنية . مقتحمة الوضع السياسي العراقي المقيد بالطائفية السياسية التي تشكل تعبيداً لطريق الدولة الدينية ، فلابد من تحليل خصوبة ارضية هذه الظاهرة السياسية المهمة، مع الاخذ بعين الاعتبار استنفار القوى الاسلاموية التي كانت ولا زالت تعادي نظام الدولة المدنية ، بل وتكفره واصفة اياه بالإلحاد. ان رد فعلها هذا جاء تخوفاً من اتساع المناداة بالدولة المدنية التي غدت ضرورة سياسية ملحة كرد فعل هي الاخرى على الفشل الذريع الذي اصاب نظام المحاصصة الطائفية والاثنية، الذي تحاول ادامته الكتل المتنفذة. بما ان القوى المدنية اليسارية، على وجه التحديد، تناضل في سبيل الدولة المدنية. فضلاً عن انها اول من دعا لاقامتها باعتبارها هي الحل للواقع المزري في البلد. كل ذلك يحتم تمييز دعوتها عن ادعاءات الاخرين التي لاتعدو عن كونها تمشدقاً بتبني فكرة الدولة المدنية.
بالإلحاد
ان التنظيرات والتطبيقات، لنظام الدولة المدنية عديدة. فمنها مقترنة بنظام سلطوي دكتاتوري معاد للديمقراطية < النظام الانقلابي العسكري > ، واخرى تتبنى اللبرالية. < النظام الرأسمالي > الذي يلبس لبوس الديمقراطية وهو يفتقر للعدالة الاجتماعية. من هذه اللوحة نستطيع مشاهدة حقيقة لا لبس فيها، بان الدولة المدنية تختلف بين النظرية والتطبيق، وبين الشكل والمضمون، وذلك مرهون تماماً بالهوية السياسية والاقتصادية والاديولوجية للقوى الداعية لها.
اما تجليات الدولة المدنية الديمقراطية المتسمة بالعدالة الاجتماعية، فهي تتميز عن كافة تلك الدعوات المضللة، اذ ان فلسفتها تقوم على ركائز اساسية لا غنى عنها والمتمثلة بهيكلية ثلاثيىة الاركان.
1 – وجود قواها المحركة المدنية الديمقراطية < مجتمع مدني >
2 – وجود منظومة ديمقراطية < دستور جامع ومؤسسات دولة >
3 – اقامة العدالة الاجتماعية < اعتماد نظام المواطنة وحقوق الانسان و فصل السلطات الثلاث >
اما فصل الدين عن سياسة الدولة، فهو اساس ضمني ياتي كتحصيل حاصل.
ولهذا لا يتوجت طرح الصفة العلمانية في واجهة الدعوة لاقامة الدولة المدنية. لاسيما ونحن في مجتمع قد غمرته الغيبيات الدينية الى اعناقه. فلا تقام الدولة المدنية اذا لم تترسخ القناعة فيها لدى اوسع الجماهير، وهذا لم يأت بالدعوات والشعارات المجردة ، وانما يحصل متى ما ترسخت القناعة في اذهان الناس لغاية ان ترى بان مصالحها وضمانات عيشها الكريم متجسدة في متون البرامج العادلة الماسكة لاركان نظام هذه الدولة المدنية.
ذلك ما يدعو الى التأمل وتعديل صياغة السؤال بـ ( لمن لها الاولوية .. للدولة المدنية ام للدولة العلمانية. . ومن هي الاكثر الحاحاً في ظرف العراق الراهن؟. ولكن يستوجب التقصي قبل ذلك، عن مدى ارجحية هذا الفصل الافتراضي. حيث لا يسمح الترابط الجدلي بينهما بالفصل المزعوم. و من خلال التجارب التاريخية ياتي التاكيد ايضاً على عدم امكانية قيام الاولى (المدنية ) من دون الثانية ( العلمانية ) والعكس صحيح، غير ان هنالك بعض المميزات لا تتعلق بالجوهر العام لكل من هما، حيث تحصل احياناً اختلافات بالممارسات. مثل الشدة تجاه الدين او المرونة مع بعض تعاليمه نظراً للظرف الملموس ونمط قيام نظام الدولة.
الدولة المدنية لا تتحقق الا في مناخات مستقرة، وسلم اجتماعي وتوسع ثقافة المواطنة وقبول الاخر. وعليه ينبغي ان تحتل مهمة نشر الفكر العلمي والعمل المتواصل لمكافحة التخلف والافكار الطائفية والاثنية بمستوى متقدم، لغاية تعاظم وضوح الرؤية لدى الناس حيال مستقبلها، وافاق احوال البلد بالاتساق مع حركة التطور والتقدم العلمي والتنمية. وهنا يقتضي الامر ان يُرسم خط الانطلاق من لدن القوى المحركة والقوى القائدة التي تتصدر عملية بناء الدولة المدنية. ولا يغرب عن البال ان يتقدم على رأس مستلزمات الانطلاق، فهم اتجاهات الرأي لدى الناس وما هي المؤثرات الفكرية والسياسية والاقتصادية التي تحكمه
هنالك خصلة العدالة تتحلى بها الدولة المدنية الديمقراطية، حيث تظهر للعيان عندما تترسخ القوانين والمؤسسات التي تعنى بتفكيك قيود شغيلة اليد والفكر " القوى المنتجة " من استغلال القوى المالكة لوسائل الانتاج. ان تجلي تلك السمة الطبقية بصورة لا لبس فيها، يتم حينما تعتنق الدولة مبدأ العدالة الاجتماعية، علماً ان ذلك لم ير النور الا بعد مخاضات عسيرة، لا سيما في محيط مليئ بعوامل التعسف والاستغلال على مدى عقود، لاسيما وان القوى الطفيلية المستغلة التي يقض مضاجعها قيام نظام العدالة الاجتماعية، ما زالت ماسكة بمواقع النفوذ وسلطة القرار.
في وضع العراق الذي تتحكم فيه الاحزاب الطائفية السياسية المتشبثة بكراسي الحكم الى حد الاستماتة، مستندة الى دعم اقليمي ديني الصبغة. هل ستتحقق الدولة المدنية بيسر في هذا المناخ السياسي المتكلس ؟. المنطق يقول ممكن الحصول شرط ان تتوفر مقوماتها. اذن المهمة ليست بالهينة وتحتاج في المقام الاول الى تجميع القوى التي تؤمن بالنظام المدني الديمقراطي وبالعدالة الاجتماعية، فأي برنامج سياسي سيمكن هذه القوى المدنية من الاصطفاف ومغادرة حالة الشرذمة القاتلة التي تبدو مستعصية في واقعنا العراقي. ؟! . فمن الواضح جداً صعوبة توفر ما هو فاعل في شحن عوامل التعاضد، باستثناء الحراك الجماهيري في ساحات الاحتجاج الذي ينتج كل يوم وعياً في مفهوم المدنية. الامر الذي يدعو الى تعضيده بالتواجد والتوسع والتنوع بالوسائل النضالية، ومما لاشك فيه اذا ما دل هذا التشرذم على شيء انما يدل على افرازات جذور الانحدارات الطبقية والفكرية لكل فصيل مدني.
هنا يتبين بجلاء ان الخطوة الاولى في الالف ميل نحو الدولة المدنية المنشودة يتوجب ان تكون من نصيب العمل على توحيد القوى المدنية الديمقراطية حصراً. ولمباشرة هذا الجهد ينبغي ان يتصدره اعداد البرنامج السياسي الرصين والمرن في ذات الوقت، الذي يستوعب التعديل وفقاً لمتطلبات المرحلة السياسية المعينة ومستجداتها. ولا تقل اهمية عنه هيكلية رابطة القوى المدنية الديمقراطية المشاركة، بمعنى وجود لائحة داخلية تحكم سياقات العمل تلافياً لاحتمالات ظهور نزق سياسي لدى بعض الاطراف المشاركة، الذي تزرعه الدوائر الخارجية والداخلية على حد سواء المعادية للتغير المدني الديمقراطي، والتي سوف لن تنفك عن محاولاتها لتمزيق وحدة القوى المدنية.
ان التوجهات نحو الائتلافات كخطوة لابد منها لاتمام كتلة القوى المدنية، اذ انها مرهونة بمدى الايمان بنظام مدني ديمقراطي يتبنى العدالة الاجتماعية، وعليه يمكن ان تأخذ الاصطفافات اشكالاً متعددة ، منها : لجان تنسيقية ، جبهة مدنية واسعة، تحالف مدني ديمقراطي، ائتلاف قوى مدنية ذات مشتركات ومقاربات اوسع من غيرها، وغير ذلك من انماط الاصطفافات السياسية التي يفرزها الوضع السياسي السائد، ولا يغيب عن عوامل التاثير في هذا المضمار دور الحراك الجماهيري في الشارع، الذي يتمخض عادة عن نضال الجماهير في سبيل الحرية والعدالة والعيش الكريم الذي يعتبر المهمة الاولى للدولة المدنية الديمقراطية العادلة المنشودة .
ومن اولى موجبات النضال في هذا المضمار، معرفة الانواء السياسية ومنسوب المد الديني وانتشار الخرافة والغيبية الملبدة في الفضاء السياسي العراقي، بمعنى ان فكرة المدنية تكاد تكون شبيهة بالنبتة المستوردة التي يتطلب زرعها مناخاً شبيهاً بمناخ موطنها الاصلي. والمقصود، الاخذ بعين الاهتمام بالظرف الموضوعي ، وعليه ينبغي صياغة المشروع السياسي للدولة المدنية، وبلورت شعاراتها الكفاحية، بروحية تسلب لب اوسع الجماهير، والفقيرة منها على وجه التعيين. لكون الكادحين اول من يتطلع لمعالجة مشاكله المعيشية، علماً انهم الاغلب في الساحة. وبذلك صار يتعين على المناضلين في سبيل هذه الغاية النبيلة. ان يشمروا عن سواعدهم لنيل رضا الناس. الى جانب تشكيل خط الصد السياسي والفكري، حيال الهجوم المعاكس المتوقع من قبل القوى المتضررة . من قيام الدولة المدنية.
لقد اشرنا عما هو مطلوب لتحضير المقدمات الضرورية لهذا المشروع قبل قيامه، فبقدر ذلك ينبغي ان يتم التخطيط لاستحضار عوامل التطوير وفتح افق التقدم العلمي، والحذر من الرضا عن النفس، او المراوحة في حيز نهوض الجماهير. ومما لا شك فيه ان المسؤولية في المرحلة التي تأتي عقب قيام الدولة المدنية، ستكون اكثر اهمية وابلغ خطورة، حيث سيشتد الصراع الطبقي والسياسي وتنشط حركة المتغيرات في مختلف الاتجاهات في الاوساط الاجتماعية المختلفة على اثر صراع المصالح .