كان معتقل خلف السدّة – معسكر شرطة القوّة السيّارة قرب مدينة الثورة- يزدحم بالمعتقلين السياسيين من كافة طبقات وفئات ومكونات المجتمع العراقي (عمال، فلاّحين، موظفين، كسبة وأصحاب أعمال، طلبة، فنّانين، منتسبي قوّات مسلحّة، رياضيين. من عرب وأكراد وتركمان وآشوريين وكلدان وسريان وأرمن. مسلمين شيعة وسنّة، مسيحيين وصابئة وإزيديين)، الذين جيئ بهم بعد انقلاب 8 شباط الفاشي 1963 متّهمون بالانتماء للحزب الشيوعي أو مقاومة الانقلاب . زجّ في هذا المعتقل أكثر من 5000 شخص موزّعين على إثنتي عشرة قاعة، وكل أربع قاعات محاطة بأسلاك شائكة، وكل منها كانت معدّة أصلا لـ 80 سريرا لأفراد الشرطة . إلاّ أنّ قلة السجون والمعتقلات التي كان يعاني منها الانقلابيون جعلتهم يزجّون في كل قاعة ما بين 400 و 450 معتقلا . وكنت من المحظوظين، لأنّ قاعتنا زجّ بها حوالي 370 شخصا فقط، وأسمينا هذه القاعات "علب ساردين" . مع ذلك كان معتقلتا أفضل من كثير من السجون والمعتقلات، بما فيها دور السينما التي حوّلها الفاشست إلى معتقلات تعذيب وقتل واغتصاب. أصبح معتقلنا، عمليا، بيد الحرس القومي الفاشي مع وجود عدد من أفراد الشرطة . كان أفراد الحرس الفاشي في حركة مستمرّة في نقل المعتقلين من وإلى المعتقل أو استدعائهم لما يسمى بالتحقيق لممارسة القتل والتعذيب . كانت تردنا أخبار عن استشهاد رفاق في هذا السجن أو ذاك، أمّا أخبار استشهاد قادة الحزب فقد كان الحرس الفاشي يدخل أجهزة الراديو إلى القاعات ويجبر المعتقلين على سماعها . وأسمعونا كذلك يوم 8 آذار , خبر استيلاء البعث العفلقي في سوريا على الحكم بقيادة المجرم المحترف أمين حافظ، ثمّ الترويج للوحدة الفورية بين مصر وسوريا والعراق، والتي انتهت بالاتفّاق بين قادتها على "علم" تتوسطه ثلاث نجمات ترمز ل"الوحدة الفورية" بينهم، والتي لم تتحقق، بل قُتل الآلاف من المواطنين تحت شعارهم وعلمهم المزيفين، ثمّ حصلت التصفيات فيما بينهم تحت شعار الوحدة وبدون أن تراودهم ذرّة خجل .
مرّت علينا أيّام عصيبة بسبب المضايقات والاعتداءات والاستدعاءات من قبل الحرس الفاشي، وخاصة بعد فشل انتفاضة جنودنا البواسل في 3 تمّوز بقيادة الشهيد البطل حسن سريع . كانت الأخبار شحيحة ومعظمها تصلنا من أهالينا أيّام المواجهات المحددة في الأيام 3 و 18 من كلّ شهر، ومن مرضانا الذين يراجعون مستوصف المعسكر برفقة الشرطة، وكذلك من الشرطة حرّاس القاعات . كان أغلب نزلاء قاعتنا من طلبة الاعداديات، ومعظمهم من منطقة الشاكرية ومدينة الثورة، وطلبة جامعة بغداد وعمّال من مختلف المهن، وشرطة من مختلف مراكز شرطة بغداد. رغم تلك المضايقات كنّا نلتقي ونتحدّث عن المناسبات الوطنية والأممية ونتعلّم الأناشيد الحماسية، ونناقش الأخبار المحزنة كالاعدامات والقتل والسطو والاغتصاب من قبل الحرس سيء الصيت، أو كشف خطوط تنظيمية جديدة واعتقال أعضائها . أما الاخبار السارّة فكانت تدور حول انتصارات البيشمة ركة والأنصار الشيوعيين في كردستان على قوّات ومرتزقة البعث المدعومين من قوّات البعث السوري ، وأخبار التضامن العالمي من قبل الدول الاشتراكية و القوى التقدمية العالمية مع الشعب العراقي والمعتقلين السياسيين وضحايا الارهاب، ووكذلك أخبارتحدّي الشعب للإنقلابيين، والخلافات بين زعماء الوحدة المزعومة، وتصفية القوميين الناصريين من قبل البعث، ثمّ التصفيات بين الكتل البعثية الحاكمة . كنّا على يقين بأنّ هذا النظام سيسقط بسبب جرائمه البشعة وتناقضاته وعزلته في الداخل والخارج .
تردت الأوضاع السياسية بشكل كبير، وأخذ البعثيون يتراشقون فيما بينهم علناً , بعد أن أزاحوا حلفاء الأمس من القوميين الناصريين، وتحاول كل كتلة إقصاء أختها الأخرى متهمة إيّاها بالعمالة . أمّا في المعتقل، فقد اسندت الحراسات إلى الشرطة الذين كانوا يتعاطفون معنا، بينما أخذ الحرس الفاشي يراقب المعتقلين بين حين وآخر ويدخلون القاعات، محذِرين ومهدِدِين بلا معنى، وحتى الشرطة كانت تسخر منهم مثلما نحن نسخر. صباح يوم 3 تشرين الثاني أخذنا، كالعادة، نهييء أنفسنا لاستقبال الأهل والأحبّة، فهذا يحلق وذاك يقلّم لحيته أو يمشّط شعره والآخر يغتسل... ونهييء القدور الفارغة لإبدالها بما لَذَّ وطاب من أيدي الأمّهات والأحبّة... ونهييء الملابس المتّسخة لإبدالها بالنظيفة. وأكثر من هذا، كنّا نشتاق لسماع الأخبار الأكيدة عن عراقنا المبتلي بحكم الفاشست، وأين وصلت تناقضاتهم . تأخّر دخول المواجهين إلينا، وكنا نريد أن نعرف سبب ذلك. فجأة دخلت إلينا مجموعة من الحرس القومي، وقال أحدهم : "اليوم ستكون المواجهة من خلف الاسلاك الشائكة" ! أخذنا نتبادل النظرات فيما بيننا وكأننا نتّفق على شئ ما، وهنا تساءل الشهيد فاضل حسن وتوت (طالب في الصف الرابع- كلية التربية، استشهد بعد تعذيبه على أيدي جلاوزة البعث في أواسط سبعينات القرن الماضي في مدينة الحلّة)، عن سبب منع المواجهين من الدخول، فردّ أحدهم : "هذا الشئ لايخصّكم" فكان ردّنا، بأننا نريد أن تكون المواجهة داخل الاسلاك مثل كلّ مرّة . تمسكنا جميعاً بموقفنا هذا , في نفس الوقت كانت الأمهات والأخوات والزوجات يصرخن في وجه الحرس الفاشي : تريدون قتل أولادنا، لن نغادر قبل أن نراهم ! تحدّثنا معهنّ من الشبابيك المطلة على الأسلاك، وأخذنا نحثّهن على الذهاب إلى الحاكم العسكري العام، للاحتجاج على اسلوب الحرس القومي، لمعرفتنا أنّ الحاكم العسكري في خلاف مع قيادة الحرس القومي. توجه أكثرهنّ إلى الحاكم العسكري، غير مكترثات بما سيحدث لهنّ، ولم يبقَ سوى اللاتي أتعبهن السفرة، وبقين جالسات يبكين على فلذّات أكبادهنّ . في ذات الوقت حاول الحرس القومي إخراجنا بأيّة وسيلة، مرّة بالتهديد والوعيد وأخرى بإعطائنا وعودا بأن تكون المواجهة القادمة داخل الاسلاك. بعض الأمهات كُنّ ينادين على أولادهنّ، ومنهنّ أم سعدون كمّونة (طالب في الصف الثاني – كلية الهندسة)، فدخل أحدهم، وقال لسعدون : " أخرج لأنّ امك تناديك وتعتقد باننا نريد قتلك" ، فردّ عليه سعدون بثقة وهو متلحّف : "سوف لا أخرج ". فأخذه أحد الحرّاس بين ذراعيه مع لحافه، لأنّ وزنه كان حوالي 40 كيلوغراما، لإخراجه من القاعة، وبحركة بهلوانية، قفز سعدون من بين ذراعيه، ورجع إلى مكانه، وعمّ القاعة ضحك متواصل . ثمّ لجأوا إلى اسلوب تهديد آخر مفاده : " سنقرأ قائمة الأسماء، والذي لا يخرج يعتبر عاصي، والعقوبة معروفة" . نودي على أول أسم، وكان أسمي، فسكتّ ثمّ كرر المنادي: منو يوسف ؟ لم أرد. فكرر: منو يوسف؟ فقلت أنا يوسف، وماذا تريد ؟ فقال: لماذا لم ترد؟ّ فقلت، لأنني لا أريد الخروج. فردّ : سنتفاهم ! ثمّ نادى على أسماء أخرى، وكانوا "نمر" حسب ظنّي، (وكان شرطيا في أحد مراكز شرطة مدينة الثورة)، ثمّ كاكا قادر- عامل، وفاضل العزّاوي- شاعر وطالب في الصف الرابع كلية التربية، وفاروق أيضا طالب في كلية التربية، وجاسم غنّو، صاحب حلويات في الأعظمية و...و... فلم يخرج من القاعة سوى شخص واحد، وأثناء خروجه قال له أحد الشرطة من الحرّاس :"انت مو سبع مثل جماعتك" ... بين الأخذ، والرد، والتحدّي، دخل حارس قومي وقال : " بأمر من الحاكم العسكري ستكون المواجهة داخل الاسلاك في القاعة . قبل أن يكمل جملته : "تستطيعون الخروج بدون ضجّة" تعالت أصواتنا وشعرنا بنشوة النصر . انتشر خبر الاعتصام بسرعة وحذا حذونا آخرون في سجون أخرى . سألنا النساء، عن كيفية حصولهنّ على موافقة الحاكم العسكري بهذه السرعة ؟ أبلغننا : اعتصمنا حول مقرّ الحاكم، وأخذنا نصيح بأعلى أصواتن،ا بأنّ أولادنا في خطر، ونريد مقابلتهم وجها لوجه، للإطمئنان عليهم، ولن نغادر حتى لو نُقتل ! فأوعدنا الحاكم العسكري بالدخول، وأوعز إلينا أحد الضبّاط بالرجوع إلى المعتقل لملاقاة أولادنا .
لم يفتنا بأنّ الفاشست سينتقمون منّا لعجرفتهم التي، مرّغها الشيوعيون العراقيون في الوحل، فأخذوا يتربصون، لتحين فرصة الانتقام . فاستغلوا ليلة احتفالنا بالذكرى الـ 46 لثورة اكتوبر العظيمة، يوم 6/7 تشرين الثاني، وكانت عبارة عن أمسية " محيبس " ، فعزلوا مجموعة، وكنّا ستة، في غرفة بجانب القاعة، كأول خطوة للإنتقام بعد، وشاية أحد المعتقلين . لكن الأوضاع لم تمهلهم، ففي 18 تشرين الثاني 1963، وهو موعد المواجهة القادمة، فانقضّ عليهم حليفهم ورئيس جمهوريتهم عبد السلام عارف وأنهى حكمهم خلال ساعات، والذي دام تسعة أشهر وعشرة أيّام . أما عندنا، في معتقل خلف السدّة، لم يُلقِ الحرس الفاشي سلاحه وهم المسيطرين على كامل المعسكر. فدارت معركة بينهم وبين الشرطة الذين أخذوا يقاتلونهم ببندقية "سيمونوف" مع عدة مخازن فقط . وخلال حوالي 15- 20 دقيقة استسلم الحرس الفاشي للشرطة. وتمّ سجنهم في قاعة مجاورة لنا، وأخذنا نغنّي أغية "سبحان الجمعنا بغير ميعاد" . بعد ثلاثة أيّام جاء الحاكم العسكري رشيد مصلح إلى المعتقل، وتحدّث إلى الحرس القومي السابق، وأطلق سراحهم، وبقي الشيوعيون في نفس المعتقل وغيرهم في سجون ومعتقلات أخرى .
ملاحظة هامّة :- قبل أيّام , وتحديدا يوم 29 تشرين أوّل الفائت وصف أحد نوّاب العراقية انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 ب"الردّة السوداء" عطفا منه على انقلاب وانقلابي 8 شباط 1963 , وخرج علينا بفتوى يدعو فيها النوّاب الى عدم التصويت لصالح اعتبار ضحايا الانقلاب الفاشي شهداءا واسترجاع حقوق المسجونين والمعتقلين، مستنداً إلى ادّعاءات كاذبة روجتها الصحف التركية والمصرية والأمريكية والانكليزية والشركات الناهبة لنفط العراق . لمصلحة من كانت هيئة اجتثاث البعث تعمل ؟؟؟