المنبرالحر

تهشيم الطبقات اﻹجتماعية المحركة للتغيير وتأثيره لاعلى المنظمات الديمقراطي 3 / د. علي الخالدي

فتحت ثورة تموز المجيدة اﻷبواب على مصرعيها أمام الفكر التنويري، فخلال عمرها القصير تنامت بشكل متصاعد شريحة المثقفين من كافة اﻷصعدة العلمية والثقافية، ونما أعداد منتسبيها بإطراد وتعززت مواقع منظماتها في المجتمع، وإتخذت طابعها العلني كاﻷدباء والصحفيين والفنانين ، ورابطة المرأة وإتحاد الشبية والطلبة. وبعد أن جيء بحزب البعث الفاشي، لينفذ مخططات الدول الطامعة بالعراق القريبة والبعيدة، وأسياده في الداخل والخارج، مارس إسلوبه الدموي في محاربة الفكر التنويري، وحاملي الثقافة الوطنية العراقية، دافعا بمنتمي هذه المنظمات الى السجون والمعتقلات ومن نجا منها، الى اﻷختفاء أو الهجرة القسرية( اﻷولى) ومن كافة حقول الثقافة، اﻷدب والسينما والمسرح ، مفرغين الوطن من ينابيعه الثقافية، ولم يسلم ذوو الكفاءات العلمية من همجتهم، لما يحملوه من فكر متماهي وتطلعات الجماهير، والقريب جدا من فئات الفقراء.
وما أن جرى إنفتاح في الوضع السياسي، (بغض النظر عن خلفياته) لبى مثقفو الهجرة اﻷولى نداء الوطن في أوائل السبعينات، لكونهم بقوا مهوسين بحبه . فعاد العديد منهم اليه، وبجهودهم إزدهرت الثقافة والفنون، و سار العراق في إتجاه التنمية اﻷقتصادية والبشرية من جديد، لكن هذا لم يرق لجلادي الشعب ممن يخافون الثقافة ويرهبون تعطش الشعب العراقي لها، فشنوا حملاتهم التعسفية على كل ما هو مبدع، لا يجيد النفاق، ويرفض اﻹحتواء والتدجين، والسقوط في وحل و مستنقع السلطة البعثية. فاضطر العديد منهم الى الهجرة الثانية في أواخر السبعينات. ومع طول مدة تلبد سماء الوطن بالغيوم السوداء، تكيف العديد منهم في الدول التي ضمنت لهم العمل، ومع هذا بقوا مشدودين الى اليوم الذي يخلصهم من الدكتاتورية.
لقد إستبشروا خيرا بما فعله العامل الخارجي بإسقاط النظام الدكتاتوري، راسما ودول الجوار خارطة طريق لمستقبل العراق اللاحق، وممهدا عبرها مواصلة العداء للثقافة و عدم إحترام وتقدير مبدعيها، فلم يضعوا قضية اﻹبداع والثقافة على قائمة أولياتهم ، وشرعنوا تحت ستار تدينهم الجديد، عداوتهم الضارية للثقافة والتنوير، التي تنبع من عدوانية طائفتهم للوطنية والنزاهة، والعدالة والمساواة ، وحرية التعبير في صيغة التصدي للتنظيمات الديمقراطية، عماد بناء الوطن ، وبدأوا بتصفية أصحاب الفكر التنويري كما حصل للمبدع كامل شياع والصحفي هادي المهدي، والعشرات ممن لا يجيدون العزف على وتر الطائفية، وسلطة السلطان، وشيع القتل على الهوية وعلى الشهادة التي يحملها الكفوء، ورغم خطورة الوضع اﻷمني، ومع هذا هرع العديد من ذوي الكفاءات الى الوطن أو الى مخاطبة الجهات المسؤولة بتمهيد طريق العودة، مضحين بإﻷمتيازات التي تمتعوا بها خلال عملهم في مؤسسات دول الشتات، إلا أن القائمين ممن أحسنوا العزف على أيقاعات نهج المحاصصة الطائفية، لم يحترموا حاجة الوطن اليهم، فوضعوا شروطا وتعليمات، لا تهين علمية المتقدم فحسب، وإنما تظهر المعاملة الفظة وعدم تقدير كفاءة العائد، كمعادلة الشهادة التي كفلت له العمل بدول الشتات، أو إجراء إمتحان لطبيب عمل عشرات السنين في المستشفيات الجامعية، وغيرها من المعوقات التي تختفي وراءها نوايا مزوري الشهادات، والخشية من فعالية خبرتهم، ومنظماتهم الديمقراطية، في عملية البناء التي كان يطمح اليها الشعب من وراء التغيير.
لقد سعى القائمون على نظام المحاصصة منذ اﻷيام اﻷولى الهيمنة على مرافق الحياة بلباس تدين جديد ، وممارسة اﻷساليب التي خبرها شعبنا في السيطرة أو عرقلة نشاط أية قوة تعارض الطائفية ، ونهج المحاصصة، ليخلوا لهم الجو في اﻷستحواذ على الوظائف العليا، وتعيين محسوبيهم في الوظائف والدرجات الخاصة على حساب مستحقيها من ذوي الكفاءة والنزاهة ، وبمثل هذه الطريقة حاولوا أن يهزوا كيانات المنظمات الديمقراطية، وكان نصيب المرأة أمور غريبة على العرف والتقاليد العراقية الموروثة ، بحيث سعت كل طائفة وحسب موقعها الجغرافي الى تجييش الحس الطائفي والمذهبي ﻷسلمته ظاهريا، بفرض الحجاب وتكريس مظاهر التطرف الديني بالفصل بين الجنسين ، ونشر النظرة الدونية لنشاطاتها وقدرتها على الرغم من كونها تقوم بثلثي مهمات المجتمع. فهي من يربي النصف الثاني منه، ومن يقوم بتدبير مهام بيتها والعائلة ، وفي الريف و المدينة تتحمل أعباء تكاليف عائلتها المعاشية، ومع هذا فرض عليها إضطهاد إجتماعي مركب، تمارسه برجوازية دينية في المدينة والريف نشأت بشكل صاروخي من تهشيم الطبقة الوسطى، مستغلة إمكانياتها المادية المتراكمة من السحت الحرام، وممارسة طابعها اﻷستغلالي على منظمات المجتمع المدني، تخوفا من نشاطاتها المعرية لأساليبهم المتطاولة على الدستور، لمواصلة الفساد والمحاباة والعلاقات العشائرية والمحسوبية والتمسك بمواقعها في اﻹدارة المدنية واﻷمنية.
ما من شك إن المنظمات المهنية والديمقراطية، المنبثقة من محيطها ومنذ نصف قرن خاضت ظروفا قاسية في ظل اﻷنظمة الرجعية والدكتاتورية، إكتسبت عبرها تجارب في مواصلة نشاطها من أجل التغيير، لقادرة على التصدي لمحاولات إحداث ثغرات في تنظيماتها، ووضع كل ما من شأنه تعزيز دورها وتحقيق تطلعاتها التي صيغت في برنامج التيار المدني الديمقراطي في اﻷنتخابات القادمة، وستقوم بتوعية جماهير شعبنا، من أجل عودة الروح الوطنية لمردودات التغيير التي لن تتحقق في مجتمع لا يزال يتميز بفجوة تتسع بإطراد من اللامساواة واﻷستغلال، إذا جيء بنفس الوجوه في اﻹنتخابات القادمة.