فضاءات

ثلاثون عاما لمعركة جبل بي خير* / محمد الكحط

رغم الظروف المعقدة التي مرت بها الحركة الأنصارية للحزب الشيوعي العراقي بعد عام 1983 استمر الالتحاق من الخارج لكردستان العراق، مؤمنين بمبادئهم، متوجهين للوطن ومنها هذه المفرزة التي توجهت في شهر حزيران 1983، عبر الحدود السورية إلى داخل العراق، حاملين معهم آمال الفقراء وأحلامهم، منهم من ترك مقاعد الدراسة في الخارج ومنهم من ترك عمله وعائلته.
كانت المفرزة بقيادة الرفيق البطل الشهيد أبو هديل، ورفاقه الأبطال في مفرزة الطريق، أتذكر منهم: "أبو جهاد، أبو أيمان، أبو سحر، أبو كفاح، أبو عزيز، أبو خلود، أبو شهاب، أبو حسنة، ناهل، علاء الصغير، علاء الكبير، أبو جوان" وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكرة بتذكرهم.
مفرزتنا كانت تضم رفاقا من مختلف الأعمار والمهن والقوميات والأديان، كلهم عراقيون شيوعيون، منهم الكادح والطبيب والمهندس والطالب والموظف، تأبطوا حقائبهم البسيطة وحملوا سلاحهم بوجه الدكتاتورية البغيضة، كان علينا في الليلة الأولى عبور الحدود والوصول إلى أماكن آمنة، رغم الدوريات والمفارز الحدودية للسلطة العراقية، واجتياز أماكن وعرة، وأنابيب النفط، وكذلك عبور نهر دجلة، وهذه من أصعب مراحل العبور. هذا يتطلب السير بسرعة والانتباه للتعليمات وتنفيذها بدقة. رغم أن العديد من الرفاق الموجودين في المفرزة من الجدد على هكذا ظروف، لم يسبق لهم استخدام السلاح إلا في التدريب البسيط، ولم يتعودوا السير لمسافات طويلة.
انطلقنا وعبرنا الخط الحدودي المار عبر انبوب النفط العراقي- التركي وتوجهنا لنعبر دجلة، ثم القيام بنفخ الإطارات ووضع "الكلك" في الماء، وكل رفيق اتخذ مكانه المكلف به، تكدسنا فوق الكلك وبعض رفاق مفرزة الطريق خلع ملابسه ونزل الى النهر ليدفع الكلك، وكان كل شيء يتم حسب ما مخطط له، بعد أن عبرنا بنجاح سرنا في أماكن وعرة في ليلة حالكة الظلمة، لتسهيل حركتنا دون أن يشاهدنا أحد، وصلنا إلى منطقة سهل"دشت"، وكاد نور الفجر ان يبزغ ، تطلب من المفرزة ان تسير بسرعة، لتصل إلى مكان آمن قبل شروق الشمس، ولكن ذلك غير ممكن لبعض الرفاق الذين أنهكهم التعب ولم يعودوا قادرين على الحركة رغم الاستراحات التي مررنا بها، ورغم تناولنا المياه خلال الطريق، أتذكر منهم الرفيق الدكتور أبو تضامن والرفيق سامر والفقيد الرفيق أبو زكي، وصل بعض الرفاق إلى بداية جبل "بي خير" في انتظار وصول الرفاق الآخرين، وشيئا فشيئا وصل معظم رفاق المفرزة، لكن بقي الرفاق المرهقين ومعهم رفاق من مفرزة الطريق، منهم الرفيق أبو هديل الذي سار معهم لحمايتهم، توزعنا نحن الذين وصلنا وأخذنا أماكن محددة في بداية الجبل، لاحظ بعض عناصر النظام الرفاق المتبقين قرب الساقية، فجرى تراشق بالنيران، وأنسحب رفاقنا بقيادة الشهيد (أبو هديل) من خلال مجرى الساقية وبسرعة، وجرت المتابعة ومن ثم التحشيد، فتوزع رفاق المفرزة على ثلاثة مواقع، كان الموقع الأول في المقدمة وأثنان للخلف من أجل السيطرة على الحركة في الوادي من أعلى الجبل لمواجهة أي تقدم نحونا.
وصل جميع الرفاق قبل ان تتم محاصرتهم في السهل، وما هي إلا لحظات حتى بدأ اطلاق النار علينا، وجرت مواجهة، بعدها ظهراً، وصلت تعزيزات كبيرة لقوات النظام من مدرعات وغيرها، بعد ذلك تقدمت طائرات هليكوبتر وحاولت الإنزال فواجهها الشهيد أبو سحر بسلاح الآر بي جي 7، فأنسحبت. واستمرت المعركة طيلة النهار، حاولت مجموعة منهم الالتفاف من الخلف، لكنها تراجعت تحت نيران الرفاق، كنا بلا ماء وقليلا من الغذاء، لكن المفرزة صمدت، بل وكبدت أزلام النظام خسائر بشرية.
عند الغروب، بدأ العدو بالإنسحاب، شيئا فشيئا تاركا بعض أفراده قتلى في ساحة المعركة.
وبعد أن تأكد الرفاق في الاستطلاع، من الانسحاب الكامل لقوات العدو، نزل بعض الرفاق لجلب الماء، منهم الشهيد البطل أبو سحر، وعندما عاد جلب معه بندقية أحد القتلى من عناصر العدو، بعد حلول الظلام نزلنا جميعا من الجبل وأخذنا استراحة، نام معظم الرفاق بسبب التعب، وكنت أحدهم لكنني استيقظت فجأة، فوجدت الشهيد (أبو هديل) واقفا بقامته يحرسنا جميعا، ورفاقا بعيدين هناك للاستطلاع، فقلت له رفيق أرتح قليلا لعلي أساعدك، قال أرتح أنت أمامنا سير طويل.
وصلتنا بعض الإمدادات من الأكل، فأكلنا بعض الشيء، تحركنا باتجاه عمق جبل "بي خير"، ودخلناه ووصلنا أماكن وعرة، وعند بزوغ الفجر سمعنا صوت الطيران الحربي، وما هي إلا لحظات حتى بدأ قصفنا بقنابل النابالم وأسلحة مختلفة من قبل الطيران، لكننا كنا في "الأشكفتات" أي الكهوف أو أماكن من الصعب وصول النيران المباشرة علينا، وكانت التعليمات بعدم الرمي وعدم الحركة، لكن الجبل بدأ يحترق بكامله بفعل النابالم، ولم يبق شيء لم يحترق، ووصلت النيران إلى أرجلنا وكان الدخان يتصاعد ويسبب صعوبة التنفس للجميع. كانت معنويات جميع الرفاق عالية جداً، وكان لرفاق مفرزة الطريق الدور الجميل في بث الطمأنينة والروح المعنوية العالية بين جميع الرفاق. ليلا تحركنا باتجاه الدشت، والتقينا براع معه أغنام، قام أفراد الجيش بحرق أصوافه التي جمعها، ظناً منهم أنه يتعاون مع البيشمركه، وتحمل خسائر كبيرة، ورغم ذلك قدم لنا ما توفر لديه من غذاء، وقام بتزويدنا بحيوان لنقل أحد رفاقنا المتعبين جدا وهو الرفيق الفقيد أبو زكي، مع إبنه للوصول إلى الشارع الذي يربط زاخو بدهوك، والقريب من كلي زاخو.
في اليوم التالي وبعد الاستطلاع، تبين ان الشارع الدولي مليء بالكمائن ، تحركنا باتجاه الأماكن الآمنة إلى مجمع (عاصي).
وصلنا إلى بستان أحد أصدقاء المفرزة، حيث تناولنا الفواكه والخضروات وأخذنا قسطا من الراحة، عصرا بدأنا صعود الجبل الأبيض ونزلنا عند أحدى القرى القريبة من زاخو وهي قرية دولا.
بعدها سرنا أياما وليالي، ورفاق الطريق يكذبون علينا (كذباً أبيض)، قائلين لنا: "سنصل بعد دقائق....سنصل بعد دقائق" وهذه الدقائق تتحول إلى ساعات، مررنا بعدة قرى وأماكن، وبعد خمسة أيام، وصلنا إلى مقر الفوج الثالث في "كلي هصبة" ضمن قاطع بهدينان، حيث كان الرفيق الفقيد أبو جميل (توما توماس)، ورفاق آخرون في انتظار المفرزة، وكان الموقع جديدا وفي طور الإعداد بعد انسحاب مقر القاطع من الحدود التركية بسبب الهجمات التي تعرض لها من قبل الجيش التركي. بعد أيام تم توزيع الرفاق إلى المواقع الأنصارية المختلفة. ومنهم من بقي في الفوج الثالث.
وفي الفوج الثالث، بدأت حكاياتنا الجميلة الجديدة.
مجدا شهداء مفرزة الطريق الأبطال، مجدا شهداؤنا الأنصار، مجدا شهداء الحزب الشيوعي العراقي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* بي خير: تعني بلا خير، كون الجبل أجرد خال من الأشجار المثمرة.