فضاءات

المتقاعدون .. لم يعد هناك من يتحكم بنا / د. علي الخالدي

لم يعد يتخوف من التأخر عن العمل ، فالمهمة الحالية بعد تقاعده هي أن ينام كما يحلو له وأن يتجنب التعب ، و يقاوم الملل بقراءة الكتب اﻷدبية ، التي شبع إشتياقا اليها ، حيث لم تعطه كتب ومجلات إختصاصه العلمية فسحة وقت لقراءتها . يزداد أسترخاءا ، عندما يقلب قصصات ورق جمعها في مظروف ، سجل فيها كاتبوها مشاعرهم الطيبة بالشكر واﻹمتنان ،على شفائهم من أزمتهم المرضية في العناية المركزة . يُسْعد في تلبية دعواتهم لحضور أعياد ميلادهم ، وحفلات زواجهم ، وينتشي بالفرح وأﻹعتزاز ، بما يكال له من كلمات الثناء ، هذا ما خلق له علاقات واسعة ، تكفلت بإنتزاع القلق والتوحد .
يحلي متاعب خريف عمره باﻹستمتاع بالحياة ، فيسعى مع شلة من أصدقائه المتقاعدين ، حضور حفلات العرض المسرحية واﻷفلام ، التي حرمته منها مستلزمات العمل والمناوبات الليلية ، وأصبحت فعالياته تنحصر في إرضاء نفسه فحسب ( صفة تلازم كبار السن ) ، بعد أن كانت روتينية أثناء العمل ، وتنفذ ﻹرضاء موقعه الوظيفي والآخرين ، وتصب في روحية التنافس الشريف مع زملائه من اﻷطباء المحليين ، الذين لا يروق لهم أن يكون مغترب ، محط تكريم وثناء . مضى على تقاعده سنتان (رخصة عمله تنتهي في 15 نيسان القادم )، خلالها وأمثاله من المتقاعدين لم يبدوا إهتماما بجمع نقاط اﻷختبارات كي يدخلوا إمتحان ، بما إستجد من العلوم الطبية ،لتجديدها ، فقد قرروا ، توديع القلق وبدء التعايش مع حياة خريف العمر، لذا لم يستحب أن ينادى بدكتور . وهو خارج ممارسة مهنته.
يندفع أحيانا للتفكير بالكيفية الصحية للعيش في الظروف المستجدة التي تملي عليه وعيا جديد منطلق من القناعة المـتأتية من إيمانه عندما (وصل نبع الماء) الذي حدد مجال حركته مع الذين شربوا منه ، وبصم وإياهم بحتمية إنتصار عدالة قضيتهم ، حتى وجد الجد يلجأ الى إيمانه ، الذي بدونه لضاع وتراجع ، وكف عن المقاومة ﻹحلال الحق والعدالة اﻹجتماعية في المجتمع ، ولترك اﻷمر الذي يؤمن به يسير بأجندة المتربصين بسرقته . هذا ما تعلمه من الناس الطيبين ، (قوة مثله العليا في تحركاته) . سهر على تطوير ذاته بعد أن سُدت أمامه طرق خدمة أبناء شعبه ، جاعلا من الكفاءة والمعرفة سلاح ماضي للتمسكن في غربته ، في الوقت الذي تحولت إلى جهل وضياع وبطالة في وطنه ﻷبناء الخايبة ، نتيجة الفساد الذي جاء به البعث الفاشي وإستشرى على أيدي رافعي يافطة المحاصصة الطائفية ( التوازنات السياسية ) ، فجعل من معاداتهما أمرا إراديا في شق طريق تطفله على الكتابة بأمل نشر الوعي وكيفية تحقيقه بمساعدة الطيبين الذين يدين لهم بتعلم مبادئها
في وطنه المتقاعد.. فائض من الحاجة ، وشخص منتهي الصلاحية ، بحيث يجري التعامل معه على هذه الدرجة من اللامبالاة ، واﻹساءة والخفة . وهو وإن تقدم في العمر يبقى جزءا من تاريخ العمل ، ومساهما في التوعية واﻷرشاد ، لذا يبقى التعامل معه على أساس التقدير لجهوده التي بذلها في بناء البلد لا بل يجري تكريمه ، وهذه السمة اﻹنسانية تسير عليها كافة الحكومات المتحضرة ولا يحيدوا عنها .
في وطنه أيضا ،لا وجود ﻷفكار ، وبرامج حكومية تتعلق بحماية وصيانة حقوق المتقاعد إلا لمن تقاعد من الرئاسات الثلاث والمقربين منها . من هنا ترتب على المتقاعد أن يجدد عزمه ونشاطه لتحقيق حقوقه المهضومة ماليا ، واخلاقيا ، مدنيا وحضاريا ، ليُمنح حضورا في التقدير لمجهوداته ، وليستغل ما تبقي من عمره للراحة والتمتع بالحياة في عملية التغيير . من خلال نضاله المطلبي نستشعر مدى الكيل بمكيالين لحياة المتقاعد ، فليس هناك قانون متوازن لكل المتقاعدين مبني على قاعدة اﻷنتاج والكفاءة ، وما يدفع من ضرائب للدولة ، وعلى أسس فعالة متماهية مع قوانين تقسيم العمل ، مما شكل إنطباع أن هناك سلمين للتقاعد ، سلم متقاعدي السلطات الثلاث ، وبه يعبرون سقف اﻷنصاف ،الى التدليل ماليا ومدنيا على الرغم من قصر مدة قيامهم على العمل ، وسلم آخر لمن كهل في خدمة المجتمع ،لا يوفر له الحد اﻷدنى من ضروريات الحياة . لغياب قانون الخدمة العامة ، وعدالة الضمان اﻹجتماعي ، ليحلا العدل بين المنتجين والموظفين.
يتبع