فضاءات

من مآثر الشيوعيين .. صرخة استغاثة.. وإنتفاضة سجناء الحلة - 1967 / د.عباس الفياض*

على ما أتذكر كان ذلك اليوم، الحدث عيداً، وفي اوائل 1967 صباحاً والشمس مشرقة والطقس يميل الى البرودة، والسجناء جميعا يرتدون بجاماتهم النظيفة التي اعدّت من قبل، وهم بأحلى هيئة، حيث الذقون قد جرت حلاقتها فجراً، وفي لهفة للقاء القادمين من أهاليهم (زوجاتهم، امهاتهم،آبائهم، اخوانهم، أخواتهم، أصدقائهم، معارفهم ..الخ). باحات السجن الوسطى والجديد كانت مهيئة ومرتبة ونظيفة والارض مفروشة بالبطانيات لاستقبال الزائرين، واليوم هو يوم "مواجهة".
وكان التعارف ما بين العوائل من مختلف المحافظات قد جرى بحكم الزيارات المتكررة لأبنائهم (1).
وقبل ان نسرد الحدث، لابد من الاشارة الى ما سبقه. إذ ان ادارة السجن قد شددت اجراءاتها اثر عملية هروب المناضلين الضابطين الشجاعين (الطيارعبد النبي جميل وحامد مقصود) كلّ على انفراد بفترتين تقريباً متقاربتين وبالطريقة إياها (2). في داخل السجن جرت عملية انتخابات لممثلي الهيئة الأدارية (3)، وكانت هناك تحركات دولية ومحلية تنادي بضرورة اطلاق سراح السجناء السياسيين، وعلى إثرها جرى تحرك في داخل السجن بإتجاه اعادة مراجعة ملفات السجناء السياسيين وإجراءات الاحكام التعسفية الصادرة بحقهم من المحاكم العرفية العسكرية. وتشكلت لجنة من المناضلين المحامين والحقوقيين برئاسة المناضل والمحامي القدير عبد الوهاب القيسي (4) . وكانت هناك مكاسب كان قد حققها السجناء من ادخال صحف ومجلات وكتب، وتوفرت فرص لبعض الاقلام للكتابة في بعض الصحف الرسمية. وجرى تزويد قسمي الوسطى والجديد بجهازي تلفزيون وشراء بعض الاصدارات الجديدة من المطبوعات العراقية والعربية، نتيجة الموقف الموحد للسجناء، وقوة المفاوض للسجناء السياسيين تجاه الادارة وممثلي الحكومة آنذاك. يضاف الى ذلك نشاطات على المستوى التنظيمي والجماهيري للحزب الشيوعي العراقي خارج الاسوار وتعاطف دولي وتضامني مع قضية السجناء الشيوعيين في العراق. الاخبار الاخرى الاضافية هي ما حققه اتحاد الطلبة من انتصارات في الانتخابات الطلابية في الجامعات والمعاهد التي جرت في عام 1967. عموماً هناك تحرك من قبل السجناء خارج روتين السجن. وكانت هذه الاخبار السارة للسجناء لا تلقى نفس المسرة لدى ادارة السجن ومن ورائها الحكومة. المناضل الراحل نلسون مانديلا في مؤلفه "مسيرة طويلة نحو الحرية" يقول" "ان حياة المعتقل روتينية تتماثل فيها الأيام حتى تختلط الأشهر والسنوات، وأن اي شيء يخرج عن القالب يقلق السلطات، لأن الروتين علامة من علامات حسن الادارة في السجن"(5).
جاء قدوم مأمور جديد وسط هذه الأجواء، منقولاً من سجن العمارة (ومما يعرف عنه انه كان شرساً ومغروراً). وحال وصوله أخذ يطبق نفس السياسة المتبعة في سجن العمارة. إذ شددت الأدارة في التفتيش واستطاعت ان تعثر اثناء التفتيش على بعض الادبيات والنشرات الحزبية في حوزة زوجة الرفيق عبد الرزاق احمد (الذي كان بالخارج مختفياً).
التي كانت تنقلها الى داخل السجن، الى اخوة زوجها في السجن (6). واندفاعات "المأمور" جعلته يتجاوز الاتفاقات بين ادارة السجن والسجناء السياسيين التي مفادها انه لا يجوز اجراء عملية التعداد للسجناء، اوالتجول في باحة السجن ما لم يكن هناك عدد من ممثلي السجن متواجدين مع أي من ممثلي الادارة. وفعلاً تجاهل او فاجأ السجناء عدة مرات، وقيامه بالتجوال في باحة السجن قبل الوقت المحدد للتعداد بدون تنسيق مع الرفاق الممثلين للسجناء السياسيين (7). كما وحصل قبل "الحدث" بأسبوع تقريباً أو اكثر بقليل، توتر بين المأمور المتغطرس وأحد الزملاء في الهيئة الادارية للسجناء أمام بوابة قسم المحجر، الذي كان مخصصاً للسجناء العاديين، لوجود احد السجناء السياسيين هناك بشكل طارىء، وتم تأديب المامور( 8).
اليوم عيد ويفترض بالسجناء ان يستقبلوا ذويهم. كانت والدتي تأتي من البصرة مثل بقية امهات المناضلين اللاتي يأتين من مختلف محافظات العراق (9). فهي تأتي قبل يوم او يومين وتستضاف من قبل العوائل في مدينة بابل وتدخل السجن مبكرة مثل بعض الامهات من الحلة والناصرية والديوانية وبغداد والكوت والسماوة والموصل وكركوك والسليمانية واربيل وغيرها من المدن العراقية. غير ان المواجهة في ذالك اليوم ودخول العوائل جرى بشكل بطيء "أميبياً" ووفق اجراءات مشددة. وقتها كنا في تداول بشأن ما الذي نفعله لكي نحرك الجليد وتدخل العوائل ونتجاوز الروتين. المحامي القدير نصيف الحجاج، ويوسف النعيمي وفاضل عباس وجميل منير وكاتب الحروف وبعض من اعضاء الهيئة الادارية المتواجدين في الوسطى، وممثلينا في الادارة وغيرهم من المناضلين .. تركتهم لحظة لاستقبال والدتي التي دخلت مبكرة. وفي اثناء ذلك سمعنا صرخة مدوية من "السيد حرز" (10) مفادها الى متى تهتك الاعراض وتهان من قبل الجبناء في الإدارة، والى متى يطول السكوت عن ما يجري من حالات تتعرض فيها زوجاتنا وبناتنا الى هذه المضايقات التفتيشية الوقحة وخارج اللياقة من قبل المأمور وادارة السجن؟ بعدها بقليل سمعت المناضل الفقيد كاظم فرهود "أبا وجدان" من ابناء الناصرية (11) ينبهني بالاشارة دون ان يلفت نظر والدتي (لأن والدتي ووالدته ووالدة حسن ابراهيم وغيرهن من امهات المناضلين الشجعان من ابناء الناصرية وغيرهن من الحلة والديوانية كن جالسات متقاربات) بأن "نصيف الحجاج - ابا سعد يريدك"، فأسرعت للقاء بعجالة، حيث وجدت قبلي كلاً من المناضلين يوسف النعيمي، فاضل عباس، جميل منير، وكلنا في الهيئة الادارية العامة للسجن(12) . وفي لقاء لم يستغرق اكثر من دقيقة فهمنا المهمة، وهي ضرورة تأديب المأمور وحل عقدة انسياب المواجهين بسهولة ويسر. بعد ذلك توقفنا نحن الأربعة وبأقل من دقيقة قسمنا الادوار فيما بيننا. الفقيد فاضل عباس ويوسف النعيمي مهمتهما الباب الخارجي حيث المامور، وانا والفقيد جميل منير نتوجه نحو الادارة للتفاوض مع المدير. عند مدخل الباب الداخلي المقابل لمشجب السلاح (قبلها ناديت على الفقيد كاظم "أبا وجدان" وقلت له اشغلوا الوالدة، ولا تجعلوها تحس بشيء) توجهنا الى الادارة، ومن هناك واصل الفقيد فاضل ويوسف.
"أبو آيار" والرفاق كان طريقهم الى البوابة الخارجية. ولما لم نجد، جميل وانا، الحديث الرسمي والدبلوماسي مع المدير نافعاً، هدده الفقيد جميل وحمّله مسؤولية ما قد يتمخض عن ذلك من بعد. في أثناء الحديث شاهد المدير ان المأمور قد صُفع من قبل فاضل ولويت يده من قبل يوسف. أشر الى السجانين للتوجه الى المشجب فلاحقتهم الى هناك، وبشعور لاإرادي ضربت احدهم فبكى وأخذت البندقية منه، وقال "عمي أوامر، ونحن ننفذ اوامر". في أثنائها أسمعته كلاماً ضد الحكومة والمسؤولين وتنفيذه لأوامرهم، وتمجيداً بوطنية مواقف السجناء السياسيين (وهي مفردات ذلك الوقت). إزداد العدد وازداد الضرب المتبادل. كنت رياضياً وامتلك من القوة ما يكفي، وكنا كلنا الاربعة اقوياء. فما كان من جميل الاّ ان يترك المدير ويسرع لمساعدتي (كان همنا ان نحول دون وصول السجانين الى المشجب - ومن الطريف انني كنت ممسكاً البندقية التي اخذتها من السجان ولا أعرف استعمالها!). والثلاثة الذين معي كانوا كلهم ضباطاً، وأدناهم رتبة الفقيد جميل الذي كان ضابط احتياط مهندس. وبقوة سواعد جميل استطعنا ان نهزمهم ونفرقهم ونشل قوتهم، ولما اصبح المشهد لصالحنا وامام هزيمة المأمور وسيطرة رفاقنا فاضل ويوسف على البوابة الخارجية فتحوا الباب الرئيسي ودخلت العوائل افواجاً، ومن جانبنا فتحنا الباب الداخلي. شعر المدير بالهزيمة وأمر السجانين بفتح الابواب أوسع. فدخلت جموع المواجهين بالعشرات ومن مختلف الاعمار، لتلتقي بجموع السجناء الشيوعيين. إذ اقتلع المناضل فاضل عرب، ونطلق عليه "فاضل عربو" للمداعبة، المعروف بقوته وهو من ابناء بعقوبة الشجعان، السياج الداخلي لسجن الوسطى ووضعه بعيداً عن حركة السجناء، ذلك السياج الذي كان يتمرجح به كل يوم حتى ذلك اليوم، مشاركاً جموع المنتفضين الى البوابة الداخلية. وقتها التقت جموع السجناء المنتفضين بجموع العوائل وسط الاهازيج والهلاهل لتسجل ملحمة ثورية ترجمتها ريشة المناضل الفنان التشكيلي الرائع هادي الصكر بلوحة فنية رائعة سميت "مواجهة" وعلى ما أعتقد انه جرت حياكتها بـ"النمنم"من قبل فريق من المناضلين في مقدمتهم الفقيد جبار عبود "ابو نضال"، واُرسلت هدية الى الفيلسوف برتراند راسل داعية السلام المتضامن مع السجناء السياسيين في العراق. وقتها ناديت على المناضل جميل وقلت "اطمئن، المشجب لن يصل اليه سجان"، بعد ان احاطني كل من المناضلين سعيد تقي وجمال الأحمروغيرهما. ورجوته ان يصعد الى منتصف بوابة السجن الداخلية ليلقي كلمة يهدىء بها الجميع خوفاً من التصادم، وربما نخسر ضحية سواءً من العوائل ام الاطفال الذين بصحبتهم، وان نفوت فرصة ربما تستغلها الادارة. وحصل ذلك إذ أعتلى جميل مسرعاً البوابة وألقى كلمة مؤثرة قصيرة.
كان يوماً مشهوداً يصعب وصفه حيث تعانقت الأذرع وسط الفرح والدموع والزغاريد، اذ دخلت العوائل بسلام وغادرت ايضاً وهي تهلل لذلك اليوم الذي لا يشبه غيره من الايام. في المساء نصب "المسرح الخشبي" المتنقل الذي صنعته ايادي السجناء السياسيين من النجارين والمهندسين والفنانين، واعتلى المنصة كل من الشعراء والادباء والمثقفين الكبار والمناضلين مظفر النواب والفريد سمعان والناقد فاضل ثامر والروائي والشاعر فائز الزبيدي والشاعر الملحمي يوسف الصائغ (13) وجمعة اللامي وعلي الشيباني وعدنان عبد العال وصالح الشايجي والأديب زهدي الداوودي والشاعر الدافىْ هاشم صاحب والمسرحي عدنان صاحب وغيرهم العديد من المبدعين. كما كان المناضلون شهاب ذياب "ابو تحرير" وعبد الامير سعيد والمحامي القدير عبدالوهاب القيسي والمحامي الشجاع محمد علي البناء والمحامي القدير نوري وأخوته الثلاثة من اهالي بعقوبة ولطيف الحمامي وصاحب الحميري ومعن جواد وعبد الواحد كرم وفالح أحمد وخالد وخزعل حمادي وسعدي السماوي وحازم وسالم سلو (14) وهادي حسن وصادق الخباز وكليبان صالح وحكمت كوتاني ومحمد غضبان وعاصم الخفاجي وغيرهم من النقابيين الكبار. كما كان الشهيد معين النهر الشجاع والصغير الكبير "جدو" وخالد وجمال الأحمر وشاكر متروك من ابناء الكاظمية الشجعان، وفاضل الحسناوي وعبد الامير صادق وفاضل لفته ومهدي الراوي وعقيل ورياض حبش وخالد غني وأحمد حداد ومرتضى وعدنان حسين واحمد علوان وغصوب وخليل هبالة وسميع داوود ومكي عبود وعلي الواسطي وغيرهم كثر (عذري لمن لم أذكره لأن الذاكرة والعمر له ضريبة كما يقال). وقتها قال القاص الزبيدي عن المأثرة، بما معناه كنت اعتقد "ان السجن يصدىء المناضل او يزنجره ونحن قد زنجرنا، ولكن هذه الملحمة البطولية أثبتت العكس، فهي تذكرني بالقول" إبلِ الحديد ونحن ما بلينا"، فهنيناً للسواعد والقامات المتحدية للموت"، مع عذري للأستاذ الكبير إن لم اُحسن التعبير.
أما الشاعر الكبير الموسوعي المواهب مظفر النواب فاعتقد انه قرأ قصيدة "أيام المزبن كضن، تكضن يا أيام اللف"، او قصيدة "ديج ابو العرفين"، لا أتذكر بالضبط. أما المناضل والشاعر الكبير الفريد سمعان فحسب الظن انه قد قرأ قصيدة "جذوة حمراء في صدره هيهات تخفت"، والآخرون قدموا كلمات ومقاطع ما أجملها. وكما قلت فان الفنان التشكيلي هادي الصكر ترجم المأثرة بريشته، وسميت "مواجهة"، وأنشدت فرقة السجن "السجن ليس لنا نحن الأباة، السجن للمجرمين الطغاة .. ولكننا سنصمد ونصمد .. وان لنا مستقبلاً زاهراً سيخلد"، والنشيد الاممي "هبوا ضحايا الأضطهاد.. ضحايا جوع الاضطرار.. بركان الفكر في إتقاد.. هذا آخر انتصار" ..الخ.
في ظروف القسوة والاضطهاد استطاع كل هؤلاء الشيوعيين ان يبتكروا تجمعاً يتسم بمستوى رفيع من الانسانية في داخل اسوار السجن واستطاعوا رغم اشكالاته ان يبدعوا امسيات ثقافية وقراءات شعرية ونقدية وحفلات غنائية وعروضاً مسرحية عالمية ومحلية ومسابقات فكرية ومعارض لوحات فنية لتشكيليين في السجن، وهدايا صغيرة مصنوعة من النمنم ومن الخشب، بالاضافة الى المباريات الرياضية في كرة الطائرة والسلة والقدم وكرة المضرب وبناء الاجسام، وفتح صفوف لمكافحة الأمية او تعليم اللغات وغيرها من الورش التي تنمي الذاكرة والمهارة وسط عالم مليء بالقسوة والمفارقات.
كل ما اقوله لا يصف الحقيقة وما يحيطها من مشاعر وحماس، وعذري لمن شارك او قدم نثراً او شعراً او كلمة بالمناسبة ولم أذكره. كما وان العلاقات مع الادارة فيما بعد اخذت منحى جديداً حيث رفع الحدث من هيبة السجناء السياسيين.
أريد القول: أن كل ما دونته يعتمد على الذاكرة التي مضى عليها 47 سنة، وقد لا تفي كلماتي بشيء عما كانت عليه المعنويات. انا شخصياً طلبت من غيري الكتابة وحاولت السكوت طوال هذه المدة، ولكن بعض الاصدقاء والرفاق أكد ضرورة الكتابة عن ذلك لانه جزء من تاريخ نضال الشيوعيين وليس ملكاً لأحد، خاصة وان اكثر الفاعلين والمشاركين الحقيقيين قد غيبهم الموت. وددت الاشارة أيضاً الى ان دافع الكتابة هو تدوين تجارب مناضلين وقفوا بوجه جلاديهم وتحملوا خلال تلك الفترة من المحن والذكريات بصورها ومشاهداتها وبمختلف المنعطفات التي مروا بها من تعذيب واعدامات وهتك للاعراض وسجون واحكام مؤبدة وتصفيات جسدية للالاف من ابناء وبنات العراق، ومن مختلف المحافظات جميعاً، في ظل نظام دكتاتوري قل مثيله في البطش والاهانة وسحق حقوق الانسان. تجسدها حالة "الانتفاضة او الهبة وسموها ما شئتم"، المأثرة في مواجهة لشهادة أليمة ومحزنة وإدانة لضحايا نظام موغل في الاستبداد، وكانت صرخة معاناة من طغيان دموي، ترك آثاره الوحشية على اجساد وعقول الكثير منا، من ضحايا تلك الفترة، رغم مرور هذه المدة الطويلة. ولا اريد الخوض في التفاصيل اللاانسانية حول ضراوة السجانين وضباطهم وقطيع الحرس القومي من قبلهم، والصور المفزعة لذلك القطيع المتوحش، الذين تجردوا عن انسانيتهم وتحولوا الى ادوات لقمع السجناء الشيوعيين. يقول مانديلا ايضاً في مؤلفه المذكور "إن التحدي الذي يواجه كل سجين خاصة السجين السياسي هو المحافظة على ذاته في السجن، وأن يخرج من السجن دون أن يتضاءل ، وأن يحتفظ ويزيد من عقائده. وأول مهمة لتحقيق ذلك هو ان يتعلم المرء كيف يبقى، ولكي يتحقق ذلك فلا بد للمرء ان يعرف هدف عدوه. فأن السجن يهدف هزيمة معنويات الانسان وتقويض عزمه، ولكي يتحقق ذلك تحاول السلطات استغلال كل ضعف وتحطيم كل دافع وأن تبطل ما يدل على التفرد وذلك لكي تقضي على تلك الومضة التي تضفي على كل آدمي هويته). وكان قرار التحدي للشيوعيين في ذلك وتفردهم في الوقوف ضد الروتين والتسلط، وبمعنويات عالية، رداً على ما تحاوله الادارة ومن ورائها السلطات من فرض الارادات! ان القرار لم يصنع المواجهة، فالذي اشرت له كان أحد الاسباب. اذ احياناً ما تولد القرارات المؤثرة على مختلف الساحات من رحم المواجهة، ولم يكن قرار الفعل والمبادرة وجس النبض وتوصيل رسالة وليد لحظته او "صرخة استغاثة". إذ لم يبق امامنا الاّ خيار واحد للأخذ به، كان نتيجة ظروف خاصة، ولم يكن بمقدورنا ان نخطط ابعد من كسر شوكة الادارة وإدخال المواجهين. ولو كان التخطيط أبعد لكانت مأثرة فريدة وكبيرة في تاريخ أساطير نضال الشيوعيين العراقيين عبر الزمن. غير ان الفشل واليأس والنجاح في هكذا مواجهة تصبح ورقة عبور الى صناعة قرارات اكبر واخطر وكان ذلك ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كل ما أشير اليه في المقالة او المدونة يعتمد على الذاكرة، وعن حالة محددة، «الانتفاضة»، تقاس بزمن تقاسمه الشيوعيون مع بعض، كلٌ من موقعه، بصرف النظر عن المتغيرات التي حصلت فيما بعد، «الاسماء او المواقع». ويتحمل الكاتب وهو يصف «المأثرة» كل الثغرات او النواقص رغم تقادم الزمن. مع الاشارة باعتزاز الى ما دونه المناضل محمد علي الشبيبي في معرض كتاباته القيمة «ذكريات الزمن القاسي» نقلاً عن والده المناضل والمربي الكبير علي الشبيبي عن الحادثة. وقد لامست البعض بمثل ما مدون، وهو أحد المطالبين بأن اكتب عنه، وهي أكبرمن ذلك.. يبدو لي ان السبب يعود الى اما ان الوالد كان في القلعة الجديدة والحادثة جرت في سجن الوسطى، أو ضعف الاخبار التي تلقاها الوالد الجليل. ويمكن ان يصحح الاحياء ممن ذكرت اسماءهم، ومنهم البطل يوسف النعيمي المشارك والمنفذ للحدث، متمنياً للجميع العمر المديد . أما البعض من المناضلين ممن كتبوا مشكورين وقرأت لهم، عن تاريخ الشيوعيين ونضالاتهم في السجون، فانهم لم يمروا على هذه المأثرة عدا ما ذكرته، رغم ان الجميع الذين كانوا في الوسطى، اشتركوا فيها هم وعوائلهم. وعذري للذين لم أفِهِم حقهم، فكل السجناء بنظري كانوا ابطالاً في المأثرة وما بعدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- اذ جرت اعادة النظر بالكثير من الاحكام وأنا شخصيا استفدت من ذلك، حيث تم تخفيض الحكم الصادر بحقي من المجلس العسكري العرفي الاول من عشر سنوات الى ثمان سنوات، وخرجت من سجن الحلة في الشهر الخامس ومن امن البصرة بعد" كورس من التعذيب وبأنواع الاجهزة" في الشهر الثامن من عام 1967، أي قبل مأثرة الهروب من نفق سجن الحلة البطولية.
2- إذ يمكن ان يفرش المكان لاكثر من عائلة واحدة لملاقاة ذويهم، وحتى الذي لاتأتي عائلته يجد في القادمين اهله ويشاركهم فرحة اللقاء.
3- التي اعدت من قبل المنظمة الحزبية في السجن، بعد ان علمت ان بقاءهما يشكل خطراً على ارواحهما وقد يصل الى الاعدام.
4- الأنتخابات وهي عملية تجرى لاول مرة على ما أعتقد، حيث جرى انتخاب 15 زميلاً من الوسطى والجديد وأنا الأصغرعمراً بينهم، على ان تجري الانتخابات كل ستة شهورللتجديد.وتختلف مهمات الهيئة الادارية عن مهمات المنظمة الحزبية للسجن . اذ الاولى منتخبة بالعادة وعلنية معروفة وهناك تنسيق بين الاثنين، وممكن ان يتحلى السجين السياسي بالعضويتين في الوقت نفسه.
4- المحامي البارز عبد الوهاب القيسي المعروف بشجاعته كان قد بدأ بمشروعه بشأن المطالبة بأعادة النظر بملفات السجناء في سجن نقرة السلمان وقدم مذكرات للمسؤولين في الدولة وعلى النطاق العالمي. وكان معه كل من المحامي الشجاع محمد علي البناء والمحامي القدير نوري الذي كان يرزح في السجن مع اخوته الثلاثة.
5- المناضل الأممي نيلسون مانديلا : كتبت عنه عند خروجه من السجن عام 1990 مقالة بعنوان " نيلسون مانديلا مدرسة للنضال" نشرت في صحيفة 14 إكتوبر التي كنت احد محرريها - القسم الاقتصادي والتحقيقات – أثناء فترة إقامتي في عدن- اليمن الديقراطية.
6- وهما الفقيد حليم احمد الذي اغتيل بطريقة غامضة في السبعينات، واخوه الصغير انذاك محمد احمد والعائلة جميعا هي شيوعية. حيث كان الاخوة الاربعة قد سجنوا لمدة ثلاث عشرة سنة لكل منهما بما فيهم الاب الذي حكم عليه هو الاخر غيابياً بالمدة ذاتها. ومما يعرف عن العائلة أيضاً ان اخاهم كريم أحمد- ابو نصير بعد ان اختطف في نهاية السبعينات قد تمت تصفيته من قبل الاجهزة الأمنية للنظام اثناء حملة المطاردة الشرسة والاعتقالات والتصفيات ضد الشيوعيين وأصدقائهم من قبل النظام الدكتاتوري في اواخر السبعينات وما بعدها.
7- كانت لدينا معلومات من رفاقنا في سجن العمارة تفيد بأن المأمورالمذكور انسان متهور وسبب متاعب لرفاقنا في العمارة، وشارك في اختطاف ممثلي السجن انذاك وهم كل من المناضلين اسعد العاقولي وزكي طرفي، حيث الاول حل نزيلاً في سجن الحلة والآخر لا أعلم اين ارسل. هذا مجرد توصيف للحالة قبل الحدث .
8- هو المناضل مهدي الأعرجي، كان عسكرياً، ومن أهالي المسيب - بابل، وغرض التواجد لعضو الهيئة الادارية هو للتفاهم بعودته الى الوسطى، والمفاجأة كانت بتدخل المأمور بعنجهية لاأخلاقية وبلغة تسلطية وأستفزازية، وذلك بوخز عضو الهيئة الادارية بعصاه على ظهره، وعلى اثرها تم تأديب المأمور وأوقع ارضاً، واُخذت العصا من يده، وكاد ان يُضرب لولا تدخل المناضل يوسف النعيمي. ووقف المأمور مذعوراً امام السجانين الذين برفقته في مشهد يرثى له امام بوابة المحجر. وفي هذه الاثناء تدارك الموقف ممثلو السجن من الشيوعيين وحمّلوا المأمور المسؤولية محذرين اياه من مغبة مخاطبة السجناء السياسيين دون وجودهم. بعدها تدارست الهيئة الادارية للسجن الموضوع، وتمت اعادة الرفيق مهدي الى الوسطى. وهذه الحادثة تشكل بروفة للسجناء السياسيين وممثليهم في التعداد. كان من الممثلين في ذلك الوقت كل من المناضلين عبدالله علي "ابو نجم"، الذي كان صاحب استوديو للتصوير في مدينة الفاو - البصرة وهو من الناصرية، وجميل منير وسعيد تقي ويوسف النعيمي وغيرهم لا أتذكرهم، وكاتب الاسطر ومهدي الاعرجي من وراء بوابة المحجر.
9- كانت تزورني في موقف البصرة ومعتقل قتيبة في معسكر الشعيبة في البصرة، وفي سجن السلمان الصحراوي بالسماوة ومعتقل الحي العصري في الديوانية، وفي معتقل السراي "العبخانه" ببغداد، وفي غيرها من المواقف والمعتقلات، لكنها هنا في سجن الحلة تأتي من الاوائل مبكرة مع امهات ابناء الحلة، بعد ان احيطت بمجموعة من الصديقات من امهات المناضلين من ابناء المدينة. ومما يعرف عن العوائل أكثر إنه قد تطورت العلاقات بين العوائل الى صداقة وتزاور بين الاهالي حتى بعد خروج الابناء من السجون. كما تطورت العلاقات ما بين العوائل الى التزاوج من اخوات البعض من السجناء اومن بناتهم.
10- سيد حرز شخصية محبوبة يبلغ الخمسين من العمر تقريباً انذاك، وهو من ثوار 3 تموز1963، في حركة المناضل الشهيد حسن سريع.
11- الذي يتشابه اسمه مع المناضل الكبير كاظم فرهود "أبو قاعدة" الذي اكن له المودة والتقديروالاحترام الكبير متمنياً له الصحة والعمر المديد. والمناضل الفقيد كاظم "أبو وجدان" من الناصرية كان يفضل مناداته بالصغير تيمناً بالكبير - كانت فرحة إنتصار ارادة السجناء الشيوعيين.
12- حيث يبلغ عدد الهيئة الادارية 15 عضواً منتخبين من قبل جميع السجناء السياسيين، وكنت الاصغر بين هؤلاء العمالقة.
13- الشاعر الكبير يوسف الصائغ فيها بالاضافة الى كونه شاعراً متميزاً فهو تشكيلي من طراز رفيع ، فقد انجز معرضاً فنياً جسد فيه نضالات الشعب العراقي من ثورة العشرين حتى ثورة تموز 1958 وما بعد على شكل طوابع بريدية، ولا اعلم ماذا حصل لهذا المنجزالكبير.
14- سالم وحازم من ابناء الموصل الشجعان، وقد استشهد أخوهم الصغير "سعيد" الذي لم يكمل دراسته وكان ايضاً معهم نزيلاً في سجن الحلة 1966، إذ تعرض سعيد لصعقة التيار الكهربائي، وهو يحاول ان يفتح كوة في اعلى الجدار الخارجي للردهة رقم 13 كي يستنشق رفاقه الهواء. كان باب الردهة من الحديد والشاكوش ايضا. فزحف الباب فعلق الشاكوش بأسلاك الكهرباء المكشوفة. كان ذلك وقت الغروب وفارق الحياة في الحال وكان يوماً حزيناً، وحُمّلت الادارة المسؤولية.