- التفاصيل
-
نشر بتاريخ السبت, 31 تشرين1/أكتوير 2015 20:02
«لم تشهد الحياة أفضل من الطريق الذي سلكت ولم تنجب أرقى من رفقة تلك الطريق»
تكاد تبحر في فضاء بلا حدود أو تحدق بكتاب لا نهاية له، وأنت تجلسُ معهُ، أو تنظر في عينيه اللتين إختزتنا أجمل الصور لمدن وقصبات لا حصر لها، ولوجوه طيبة من الأنصار والنصيرات، وهم يخوضون عشرات المعارك، أو يحلقون عاليا شهداء في سماء الوطن، او يرحلون بسلام بعد أن قطعوا مسيرة من الجمال والوفاء، كما تشعر وأنت تحاوره بمدى الفرح الذي يغمره وهو يستعيد الذكريات.
ـ ما زلت متفائلاً ومقتنعاً بالطريق الذي سلكته، فلم تنجب الحياة أفضل منه، ولا أرقى من الناس الذين حملوه .
ولد القائد الأنصاري دنخا شمعون البازي عام ١٩٣٣ في قرية إيزيدية بريف سمّيل، وقد صادف في تلك الأيام أن تقوم قوات الحكومة العراقية الملكية بمجازرها الوحشية ضد الآشوريين، فيما اُطلق عليها (مذابح سميّل)، فساعدت احدى القابلات الأيزيديات والدته على الأنجاب وأنقذتها من الموت المحتم، فيما قام الرجال بإنتشال والده من تحت جثث اهله وأقاربه القتلى، حيث كُتب له عمر جديد. لم تدم فرحة الولادة كثيراً فكان على أهله الفرار في اليوم التالي هرباً من الجيش. درس الأبتدائية في مدارس ألقوش وكان من التلاميذ الأذكياء، فأرسلتهُ عائلته ليكمل المتوسطة في مدارس الموصل، فأقام فترة بين عائلة كبيرة من أقاربه، لكنه لم يكمل دراسته بسبب واقعه الأقتصادي الصعب.
ـ هكذا بدأت حياتي، يقول القائد الأنصاري (أبو باز)، وبعد أن عدتُ إلى العائلة عملتُ وأنا طفل (نادلاً) في نادي الموظفين بمنطقة الشيخان، ثم عملتُ (نادلاً) في نادي الموظفين بمدينة كركوك ايضاً، ناهيك عن عملي الأضافي في طحن الحبوب (كَيركَرا ـ الجرجر). وأتذكر ان عمري كان قرابة ١٤ ـ ١٥ سنة حينما عملتُ في (مَسـفن) بمدينة البصرة وكانت تديره شركة انكليزية اسمها (كَري مكنزي). في تلك الفترة تعرفتُ أول مرة على الفكر اليساري، حينما دس احد العمال جريدة (القاعدة) في جيبي، واعجبتُ بمواضيعها، وصرت احصل عليها بإستمرار. وبعد أن تصاعد العمل الوطني والنقابي عشية ثورة ١٤ تموز المجيدة، جرت حملة اعتقالات في المعمل، وقام أحد العمال بالأعتراف عليّ مدعيا أني كنتُ أوصل له جريدة (القاعدة) فحكمتُ (٦) أشهر وكان هذا أول حكم يصدر بحقي.
وعن أيام ثورة تموز، يقول القائد الأنصاري أبو باز: كانت حقاً ايام أعراس وطنية، ولكنها للأسف لم تدم، نتيجة مؤامرات الرجعية العربية والمخابرات الأمريكية والبريطانية بالتحالف مع بعض القوميين العرب وحزب البعث. عملتُ في تلك السنين في نقابة الميكانيك، لكن بعد انقلاب شباط عام 1963، توجهت إلى الجبل متفادياً أن اقع فريسة في أيدي اوباش (الحرس القومي)، وبدأت العمل الأنصاري أول مرة في حياتي برفقة مجموعة نادرة من المناضلين الأشداء كان على رأسهم البطل الراحل (توما توماس ـ ابو جوزيف طيب الذكر)، ولم تكن المهمة سهلة ونحن نشق طريقنا وسط المناطق الوعرة والصعبة جغرافيا، و وسط القوى الكردية وثكنات الجيش امنيا. كانت مهمة عسيرة لكننا خضناها بكل تفان واستطعنا بناء الركائز الأولى للعمل الأنصاري المسلح ( قيصرية، غرب قرية باعذرا)، فيما اصبحت مواقعنا نقاطاً محصنة لكل من يريد أن يتفادى ملاحقات الشرطة والأمن .
بعد اتفاق آذار عام ١٩٧٠ تفرغتُ إلى العمل السياسي المدني، وكنتُ اتنقل بين المحافظات وفي بغداد، حتى حان وقت انهيار (الجبهة الوطنية) فعدتُ ثانية إلى الجبل، وأسهمتُ انطلاقاً من منطقة بهدينان، في إعادة بناء الركائز الأنصارية سوية مع الراحلين أبو جوزيف و أبو نصير وغيرهما. توسعت مواقعنا وزادت اعداد المقاتلين، وكبرت فعالياتنا حتى هجوم البعث بالأسلحة الكيمياوية عام ١٩٨٨ في ما سمي آنذاك بالأنفال. حينها انسحبنا الى مناطق كثيرة وقصدت ُ سوريا ملاذا مؤقتا . وبعد أن تمكنت أمريكا من فرض (حظر الطيران) على اقليم كردستان، عدتُ إلى الوطن وعملت في اللجنة الأقتصادية حتى عام ١٩٩٣ حينما قررت مغادرة العراق واللجوء الى هولندا، حيث اعيش انا وزوجتي وأبنتي أمل، فيما يعيش ابني باز في كندا، وتعيش ابنتي الثانية سلفانا مع عائلتها في ديترويت.
ـ وماذا عن تجربة الأنصار الشيوعيين ضد الدكتاتورية؟
تجربتي في الأنصار كانت رديفة حياتي وتاريخي، فقد امضيتُ فيها ما لا يقل عن (٢٥) عاما من عمري السياسي الذي تجاوز العقود الستة . نعم، خضناها رغم الصعاب، ورغم قلة الخبرة والمؤونة والسلاح، خضناها رغم الخيانات التي واجهتنا، والأغتيالات من قبل مرتزقة الحكومة (الجحوش) أو القوى الأخرى التي كانت تتقاسم الجبل معنا. فرحنا وأحتفلنا، بكينا وتألمنا. كان الجبل والنضال الأنصاري كل شيء بالنسبة لي وللكثير من المناضلين الذين احفظ لهم مكانا خاصا في قلبي. لقد استقبلنا المثقفين والأميين، استقبلنا النصيرات البطلات والشباب، ابناء المدن وأبناء الأرياف، المتعلم وغير المتعلم، جاؤونا من العراق ومن أركان الدنيا الأربع، يملؤهم الأمل في مقارعة الدكتاتورية والحفاظ على حزبهم ومبادئهم السامية. لم تكن تجربتنا خالية من النواقص، لكننا بأصرارنا تجاوزنا الكثير، ويحزنني أن اقول أن بعض التضحيات كان ثمنها غاليا، فقد فقدنا شبابا وشابات كانوا مؤهلين إلى أن يكونوا مشاريع أمل وبناء وخير لهذا الوطن.
نحن لم نختر التمرد او القتال رغبة بالعنف، إن مبادئنا الثورية وقيمنا الوطنية أرفع بكثير، لكن من اجل قضية الشعب استرخصنا ارواحنا الغالية. إن اللجوء إلى الكفاح المسلح والحركة الأنصارية كان خيارنا الأخير لمواجهة بطش الأنظمة الرجعية والدكتاتورية، وخاصة نظام حزب البعث وصدام حسين. لقد عاملوا رفاقنا بقسوة وفقدنا مئات الشهداء قبل ان نعود إلى العمل المسلح، وهذا الأمر يعرفه العدو قبل الصديق، لكننا لم نيأس حينما أزفت الساعة بل كنّا لها وما زلنا إلى اليوم، مستعدين أن نسترخص ارواحنا لكننا لن نساوم العدو الجبان.
كانت المنقذ لحركتنا الثورية في بقائها وأستمرارها ومعالجة ما اصابها من أذى على يد النظام الدكتاتوري، وقد اضحت مدرسة صقلت مواهب وأفكار الكثيرين ممن انضموا اليها، وبهذه المناسبة اتمنى على رفاقي العاملين الآن، وعلى الأنصار بالذات أن يبذلوا جهودا مخلصة لأرشفة هذه الحركة بالشكل الصحيح، من اسماء وصور الشهداء والأحياء والمرضى والمعاقين والراحلين، وأن يجري استخلاص الدروس النضالية منها، وأن يُكتب عنها بما تستحقهُ من تجربة نضالية فريدة حدثت في الشرق الأوسط واستمرت أعواما طويلة، وهي لا تقل في دروسها عن ملاحم الجيش الفيتنامي او قوات الأنصار التي حاربت النازية في دول اوربا، نعم انها تجربة تستحق الفخر.
ويكمل الرفيق أبو باز:
كانت مدرسة الأنصار بالنسبة لي واحدة من اعقد دروس الحياة وتجلياتها الأنسانية المرة والحلوة، فالعمل وسط الفلاحين، والقرى الكردية والأيزيدية والمسيحية في تلك المناطق وبالتضاريس الصعبة وبالترافق مع هجمات الحكومة ومرتزقتها، علمتنا الكثير، لكني تمكنت من النجاة من ثلاث محاولات اغتيال، ناهيك عن عشرات المعارك او الكمائن. ويشرفني إني لم أقتل أسيرا أو إمرأة أو طفلاً، ولم أغدر حتى بالعدو، وعشت حياتي في تصوف ولم تمتد يدي الى المال الحرام ابداً. كنت اعيش الكفاف على ما كان يقدمه (الحزب) لي من مرتب شهري، وعندما غادرتُ كردستان، استلفتُ (١٠٠٠) دولار حتى ادبر اموري. هذا ما تعلمته من المدرسة النضالية السياسية والأنصارية وأنا فخور بها.
ويعرج ابو باز على الوضع العراقي الراهن فيقول: بالحقيقة انا سعيد جداً، ومتفاجئ ايضاً. ففي كل جمعة أشعر أن الألم قد غادر مفاصلي، وأن الدماء تسري سريعاً في عروقي التعبة، وإن تأريخاً جديداً يكتبهُ الشباب في بغداد ومحافظات العراق الأخرى، وأرى امامي في الأفق اسطرا وجملاً وأمنيات مكتوبة بالطباشير الملون، نعم اليوم استطيع قول أن عملنا وتضحياتنا وشهداءنا لم ولن تذهب سـدى.
وما أمنياتك للعراق؟
ـ وطن حر وشعب سعيد بس!
وحين ودعت أبو باز، رحت أتذكر الشهادات الناصعة التي كتبها رفاق هذا الرجل المتميز بحقه. ولعل أبرز ما ذكر عنه شهادة وردت في مذكرات القائد الراحل (توما توماس ـ ابو جوزيف)، وما كتبه الأنصار صباح كنجي ود. كاترين ميخائيل ودروك وكفاح كنجي.
لك يا أبا باز، أبا يعكَوب و جميل بك، ومن على لسان اجيال الرفيقات والرفاق الذين عاصروك وعرفوك وناضلوا معك، من افواه الشهداء والراحلين والأحياء ايضاً، أقول شكراً لسني نضالك، شكراً لتضحياتك وصبرك ولدروس الوطنية الخالصة التي ضربتها لنا، وشكراً لعائلتك على ما عانته وتحملته من اجل اهدافك النبيلة وقضيتك السامية العادلة.
انتَ وسام على صدرنا وتاج لكل من يحبك!