فضاءات

المنجز الثقافي العراقي بين الوطن والمهجر/ محمد الكحط

في أمسية هادئة ووادعة شهدتها مدينة انتويربن البلجيكية، أقامها مركز أور الثقافي تألق فيه الشعر والثقافة، يوم الأحد الأول من سبتمبر 2013م، كان محورها محاضرةً نقديةً عن المنجز الثقافي العراقي بين الوطن والمهجر للناقد الدكتور حاتم الصكر، وقدّم خلالها نخبة من الشعراء العراقيين والعرب الذين يعيشون في المهجر بعضا من منجزهم الإبداعي وهم كل من، الشّاعر العراقي ضياء الجنابي، الشّاعر العراقي ماجد مطرود، الشّاعرة الفلسطينية فاتنة الغرّة، وسط حضور نوعي من أبناء الجالية العراقية من المهتمين بالشأن الثقافي.

استهل الناقد الدكتور حاتم الصكر حديثه شاكرا المشرفين على مركز أور الثقافي لدعوته، مقدماً بعض الملاحظات التمهيدية لموضوعته التي تناولت المنجز الثقافي العراقي بين الوطن والمنفى، مقدما بعض التعريفات عن ..المهجر...الغربة..والمنفى، والظروف التي مرّ بها المبدع في العراق وأسباب مغادرته الوطن، لكن رغم ذلك فتوهج الشعر لم يتوقف، فالمبدع سواء كان الشاعر أم الروائي وضع نفسه دائماً ضمن إيقاع الناس ومعاناتهم. وتحدث بشيء من التفصيل عن التحديث والتجديد في الحياة وفي مجالات الثقافة المتنوعة، منتقداً المتاريس التي تقف ضد التحديث في أسلوب الشعر الصلب، فالتحديث حالة تطلبتها الحياة، وما جرى من تغيير في العراق بعد 2003 رغم السلبيات التي رافقت ولا زالت ترافق التغيير، رافضاً ثنائية أو الفصل ما يسمى بأدباء الداخل وأدباء الخارج، فهما يمثلان الأدب والإبداع العراقي بمختلف تسمياته، فهما يصوران أدبنا المتكامل، معتبرا هذا الفرق ظرفيا، كما ان العولمة ووسائل الاتصال الحديثة قربت بين الداخل والخارج، فالأديب العراقي في الداخل يمكنه الإطلالة على الخارج وبالعكس، فهما نسق واحد وتتقارب الاهتمامات والعوالم، لربما المنفى أكثر تعبيراَ عن الحالة الشعرية، فالمكان الجديد وهو المغترب، المكان الذي يمارس عليه الغربة، هذا المكان الجديد قد يبدو نوعا من السجن، لذا تبدأ الهجرة إلى الحنين إلى الذكريات الجميلة، ترحل الذاكرة وتستنجد بالسرّة، وهي الوطن، فالمنفى فجر شاعرية جديدة عند عبد الوهاب البياتي، حيث المنفى كان حالة نفسية عنده، مكان أضطر للعيش فيه، لذا فالشاعر في المنفى حالة نفسية أكثر منها معايشة، فالمنفى ليس حالة سلبية فقط، بل هو مكان يضغط على الشاعر ليفتق حنينه، لربما اليوم لم يعد الشعر كافياً لعكس كل ما يراد، فجاءت، الرواية لتستغل تمددها وسعتها لعكس ما يراد إيصاله بحرية أكبر، لكن يبقى الشعر هو الراصد الروحي العميق للحياة.
الفقرة الثانية من ألأمسية قدم الشعراء ضياء الجنابي وماجد مطرود وفاتن الغره العديد من نتاجاتهم الشعرية، فكانت نماذج منوعة مختلفة في أوجه ومتشابهة في أخرى، فقرأ الشاعر ضياء الجنابي القصائد التالية:

 

أنين مشاكس
دَعوني أدوسُ
بقدميَّ الحافيتين
خلفَ زجاج الكلمات
كل ما خطتهُ أصابعي المرتعشةُ
من أشباه وأشباح
وإذا انداح من أضلاعها
التي تتهشم الآن
أنين،،
أنين..
ها..
أصيخوا السمعَ
ينداحُ الآن أنين
أنين..
لا تأبهوا
إنهُ أنينٌ مشاكسٌ
لا تأخذْكم الرأفةُ
وتحتجوا بعيون شزرة
وتحنقوا عليَّ
أو ربما ترقصوا على ميلوده الحزين ببطء
لا
امكثوا غير بعيد
دون توفز
وإن شأتم أديروا ظهوركم عني
وعنها
فقد ملت المكوث
في خزانة الأحذية القديمة
والشعر
والألم
***

غزالة...
لم تكن دجلة قريبةٌ مني
حينما مسح العصفورُ بزقزقته أجفاني
فعيناي كانت تهرولان في الزقاق الممتد بين كنيسة الحياة وجامع أم الطبول
وتتشبثان بالقبتين الخضراء والذهبية اللتين تشبهان ثديي أمي
رأيتُ المعدانَ يجرون دوابهم
من سود الجواميس المكحولة العينين
والمندائيينَ يتبعون سرب البشوش المزنرة بالماء والخضار
الأكرادَ يسقون المارةَ بلبن أربيل المدخن
التركمانَ يرشفون ملح الأرض بعين الدبس
الكلدوآشوريينَ يدعون الأيتام إلى مائدة العشاء الأخير
الشبكَ يفلّون الشباك الملقاة على زمكانيتهم
البدوَ يرسمونَ بخفّ الأباعر خارطةً صماءَ تستعصي على الاستنساخَ والتزوير
والمشاحيفَ هي الأخرى تحدَّرت دونَ حرج من الكحلاء إلى الخابور
فتحتُ عينيَّ فإذا بغزالة شقراء تبددُ ما رأيت
و "غزاله غزّلوكي
وبالماي دعبلوكي"
***

خيال..
قتلنا ذاتَ حكاية الذئبَ
وأبقينا على خياله
فهمَ الشيطانُ سرَّ الحكاية
وتقمَّصَ ذلكَ الخيال
وصارَ يطاردُ قطعانَنا
بالحقيقة لا بالخيال
***

جلجامشيون..
جلجامشُ كان عراقياً
ماتَ صديقُهُ
صُعق
وراحَ يبتكرُ الخلودَ لدحر الموت
نحنُ عراقيونَ بالطبع كذلك
في كل لحطة يموتُ لنا عشراتُ الأصدقاء والأحباب
ولا نبالي
نخبئ الموتَ تحت جلودنا
لنذيقَهُ مرارةَ الفراق
***

غناء..
أجهشتُ بالبكاء هذا الصباح
وغسلتُ حنجرتي من بقايا حروف الفرح الناشز
ورطّبْتُ ضميري بالحزن الجميل
و سأخلع جلدَ الفريسة المشوه عني
وأُغنّي بلحميَ الحي
***

أشغالي..
كنتُ أشتغلُ في السوق عاطلاً
وفي المقبرة أطمئنُ الموتى عنكم وأبادلُهم كياسة الهدوء
ويومياً أعدُّ أعمدة شارع الرشيد
من "خان المدلل" قرب "الطوب أبو خزّامه" في ساحة الميدان
إلى عمارة الجقمقجي في الباب الشرقي
وبالعكس
وإذا أخطأُ بواحدةً أعيد الحساب من الأول
دون ملل أو توان أو تذَمُّر
في الوباء والحرب اشتغلتُ طبالاً
وقبل أن تمطَّ الشمسُ ذراعيها
ــــ دُم دُدُم دُم دُم
دو ري مي فا صول
كم دم مطلول
ري مي فا صول لا
يخرسُ القولا
دُم دُدُم دُم دُم
وفي تفسير الفرح اشتغلت فيلسوفاً بليد الرؤيا
وفي الملاعب اشغلتُ "زعيب خرّاب اللعيب"
ورُشحتُ بالتزكية دونَ منافس
أن أشتغل في النوم كابوساً
لكنَّني رغم هذا
أفصح من نطق لا في لغة الضاد
***
هبوب..
أهبُّ فوقَ النهر
فيقشرُ الموجُ وجهَ الماء
وتنتشي رائحةُ البراءة في عروقه
وتغتلمُ عيناهُ بالخصب
هبةً أخرى
تزفرُ ذاكرتُهُ بعبق التراب
ويختلجُ الضوءُ في بؤبؤ عينيه
ولكن
هل يستمرُّ الهبوب؟
***

لحمُ الأرض..
نزقُ النفي
وثقلُ دم الإثبات
لا يخدشان وَقارَ الصمت
ماالذي يمسكُ النفسَ أنْ تسيحَ في الشوارع
غيرَ أسرار تلوذُ في أبهة الصمت
الأرضُ تبسطُ لحمَها
لتشقَّهُ بذرةٌ صغيرةٌ
تحضُنُها
وتهمسُ في أذنيها
أن توغلي بين أحشائي
كلّما تسنّى لك اختراقَ الفضاء
***
فجائع..
تغزوني
جيادُ الوقت
مزنرةً بصهيل المعامع
وزمازم الغزوات
تجتاحني
دون مقاومة
ولا من ناصر ينصرُني
لكننّي
واحسرتاهُ
آليتُ احترافَ الفجائع
***

غياب..
مهنةُ الغياب أتعبتني
وحقيبةُ الاغترابِ في زمني ذا
ناضجةُ الاكتئابِ
الريحُ هي الأخرى فقدتْ عذريتَها
حين رمتني بين فهارس الألم
الحنينُ المضغوطُ على مرمى حلم
يحيلُ هياكلَ الأصوات دخاناً
هَزُلتْ لحومُ البلدان
فيما تقرضُ الفئران عظامَها
***

موت..
حينما متُّ
لم يفزعْني الموتُ
فقد أراح جنحَ النحلة
الذي لم ينكصْ بأعباءه يوماً
ولكن
أفزعتي الصدمةُ التي رأيتها
في عيونكم أحبتي
***

ثرثرةٌ وصمت..
كثيراً ما يخلعُ النهرُ ثوبَهُ
وأنا أواري حُزني
كثيراً ما يَعرضُ عريَهُ عليَّ
وأنا أعرضُ عنهُ
متدثراً بحنيني إليه
الثرثرةُ تدلقُ شهوتَهُ
والصمتُ يضفّفُ شهوتي
***

تعالي.
أوزّعُ البحرَ كؤوساً على السفن العطشى
والخطى على السابلة الحفاة
لا شيءَ يشبهُ عينيك سوى وجعي المخبئُ
ولاشيءَ يشبهَ حزني المتجذرَ
سوى عشبةُ النوى
فتعالي
هو وحدُه عطرُك
يفتحُ شُبّاكَ القلب
ويلوّنُ بالفرح شحوبي
تعالي
وأنثالي مثل الرذاذ على جسدي
واستنشقي بسحرك اندهاشي
واشربي اشتهائي
وإلّا
فعيناك لا تغمضان
وقلبي لا ينام

ألوكُ الدهشة
تنتابني العزلةُ
تسيلُ الأيامُ
من بين أسناني
ولا أقوى على التهامِها
تندكُّ اللحظاتُ بين أضالعي
ولا أقوى على تنفسِها
لكنَّني
بكلِّ ما لدي من جنونٍ
من خيولٍ جامحةٍ
وجمالٍ هائجةٍ
ألوكُ الدهشةَ
وحسيسَ البريقِ
الذي قد أنقذَ
من بين أشداقِ الحريقِ
في وقتٍ مجتزأٍ من التاريخِ
آخرَ ماتبقى من أجنَّتهِ المهجَّنةِ
ورحتُ بلغة التسكاب
أنسجُ على الشبكةِ العنكبوتيةِ
بيتاً لحزني الأخيرِ
أوهنَ من داحسَ والغبراءَ
أخبيءُ فيه وهني
وأضعُ مكياجاً
من أحلامِ الموتى
على وجه البسوس
التي تتدفأُ بدمائِنا
وتخفي خلفَ حمرةِ الوطيسِ
وغبرةِ المطاحنِ
ومضةَ لغزِ الحروبِ
التي تغتلمُ الآنَ في عينيها
وتشي بــ " هل من مزيد"
هاهي تقرفصُ الآن
فوقَ عوسجةٍ
كانَ أبليسُ قد أنبتَها
وسقاها ذاتَ دسيسةٍ
بحيامنِ المخصيينَ من العفاريتِ
في ميادينِ التقاتلِ العاقرة
التي تتقيأُ كلًّ يوم
كلَّ لحظة
جثثاً تزكم أنفَ البنتاغونَ
الممتدَ عبر رئتي
من الهادي إلى الأطلسي
ومن الأطلسي إلى الهادي
لا تيأسوا
بإمكاني أنْ ألمّعَ السنينَ
بدهانِ الأحذيةِ السوداءِ
وأوقظَ الفعلَ الماضي الناقصَ
من غفوتهِ المبنيةِ أو المعربةِ
على نواحِ بغدادَ المتآكلِ
وأقيمُ مأتماً في "القرنةِ"
تتوحدُ فيه دموعُ دجلةَ والفراتِ
علُّ الحزنَ يكونُ موجِباً
أو مانحاً لوحدتنا

 

أما الشاعر ماجد مطرود (كامل الجبوري) المولد في بغداد عام 1963م..
فقدم عدة قصائد منها، منفيون، إلى بغداد، و أحبُّ يا سيّدي بلادي والتي نقدمها هنا لما فيها من إشارات سردية، ومحاكاة لذكريات وآلام لجراحات لم تندمل بعد
((أحبُّ يا سيّدي بلادي
يرتدي بدلة عسكرية بنطاق عريض وحذاء أحمر على رأسه نسر جمهوري وفي يده مسدس
أجلسُ على كرسي خشبي صغير قبالته وعلى جانبي رجلان ضخمان بملامح مخيفة وحاقدة
بابتسامة مريبة وعينين دائرتين حولي وحول الرجلين الحاقدين سألني الرجل ذو النسر الجمهوري
ماذا تحب وماذا تكره أيها الشاب؟ وبصوت يشبه صوت الأسى والدموع قلتُ أحب يا سيدي بلادي
أحب بيتي وأمي وأخوتي, الشارع والجيران, أحب الموسيقى والأغاني كلها
أكره السياسة يا سيدي, أكره الاحزاب والتخندق, الثقافة والمعرفة, اكره الفكر والفلسفة
أكره سقراط وهيجل وكانط وسارتر وفرويد وماركس والى حدٍّ بعيد أكره ديكارت لكنّني أحب
شهاب الدين السهروردي وأبن عربي وأبا المغيث الحلاج أقترب من فكرة الديانات يا سيدي
أحب الله كثيراً, أعتقد ان الله يمنح الطمأنينة والسلام والهدوء..
سخر مني ذلك المتأنطق والرجلان, سخروا كلهم حتى أخرجوني محملاً بآثار الضرب الزرقاء
أخرجوني بعشرة آسنان مهشمة, وبؤبؤ عين مقلوع يلبط في يدي
أخرجوني بأذنٍ واحدةٍ تلاحقني الصعقات الكهربائية, تلاحقني مروحة السقف وهي تدور بجسمي
العاري النحيل كالهيكل العظمي, يلاحقني الجوع والقمل والصؤاب ورائحة البول وأكياس الخراء
يالله كم ذليل أنا ؟ يلاحقني صوتك القادم من أعماقي, أعماق الحسرة والحيف والجور, صوت
متكسر الموجات وهمي الحبال, حقيقي النزعات, يا الله صوتك يطابق صوتي..
أنا القتيل جيفارا.. ارتدي قميص مانديلا وسروال نشأت فرج وحذاء أبي سلوان وأقدام أبي ايفان أنا الحريق
الموشوم بقلب رياض قاسم مثنى أنا قلب حسين صالح جبر ارتدي نظارة حسين الموسوي المكسورة وأرى وأتكلم
بصوتك وأصرخ بصوتك يالله..
في الداخل أو في الخارج ,هنالك أسوار وخلف الأسوار وطنٌ ومنفى, هنالك من لا يقرأ الشعر
ولا يسمع الموسيقى ولا يحب البلاد وهناك من لا يؤمن بالشمس ولا يحب القمر ولا ينتمي للبلاد,
هناك أيضا من يحبُّ نيوتن ليهوديته وسقراط لذاتيته وهناك من يحب سبينوزا لأخلاقه
وحازم كمال الدين لمنفاه, هناك من يحب سعيد انوس لزمنه المفقود بين الأجيال وماجد مطرود
لأنه مطرود من حلمه والبلاد, هناك من يحب الى حد بعيد ديكارت وشكّه القريب من الكينونة
والوجود..
في السجن أو في المنفى هناك من يتساءل ما معنى أن يكون للمنفى ذاكرة وللأوطان مجرد ذكريات؟
ما معنى ان تصغر الوجوه والشوارع والبيوت ويصرّ المنفيُّ على منفاه ويكون للسجن في داخلنا حنين؟
هكذا يتلاشى المعنى ويتداخل ! صادق وكذاب أنا لم أك يوما قريباً من الديانات بل كنت بعيداً مثل منفاي
أكره الله دائماً لأنّه كذابٌ لا يستجيب, لأنّه صانع للقلق والمرض وخالق للخوف ومبتكر للحروب
لكنني نقيّ مثل الأولياء الصالحين كالسهروردي والخضر والحلاج أشبه المهدي أو المسيح في
عشائه الأخير أو كأنّني نسخة معدّلة من العذراء البتول.. يا لهذا التناقض!يالله ماذا حلَّ بي؟
سجين المنفى أنا وعاشق البلاد .. أنا حر الذكريات وعبد البلاد..))

 

ثم جاء دور الشاعرة الفلسطينية فاتنة الغرة، التي قرأت العديد من قصائدها وتألقت في رِقّ النوم إذ تقول فيها:
((رِقّ النوم
كانت الأرضُ تتم دورتها الأولى حينَ اصطَدَمَتْ ببركَةٍ راكِدَةٍ فانتفَضَ منها كتابٌ كانَ أن جاءَ فيه..
فيما يَرى النَّائِمُ:
كانَت الوردَةُ تحبو باتجاه السَّماءِ رافِعةً تيجانها له. تخْلعَ أرديتها واحِداً تلو الآخر. تتلو صلاتَها للربيعِ. تسْتحمُّ بوهجِ اللحظَةِ الأولى.. وكانَ الشجَرُ حولها يسجد..
وكانَ ذلكَ شيئاً عظيما.

فيما يَرى النائِمُ:
كانَت السَّاعَةُ تركضُ خَلفَ الوقْتِ. تُشكِّلُ قاعِدةً مُغايِرةً للكَونِ. تفتِّتُ الطرقَ والالتِواءاتِ تصْنَعُ خَطّاً واحِداً وَحيداً يمشي الجميعُ إلى الفَناءِ عَليه.
وَكانَ ينظُرُ راضِياً..
وكان ذلك شيئاً عظيما

فيما يَرى النائِمُ:
كَانَت النجومُ تَرقصُ في تسبيحِها الليليّ. تَلهَجُ ألسنَتُها بحمْدِ اللغَةِ. فاصطدَمَتْ بشهابٍ ثَاقِبٍ. التقطَته نجمةٌ مُراهِقَةٌ. أعطته في لحظَةِ طيْشٍ فَلكيَّةٍ قُبلَةَ الحيَاةِ فاسْتفاقَ فراشَة.
وكانَ أن انمحى فيها مجدَّداً..
وكانَ ذلكَ شيئاً عظيما

فيما يَرى النَّائمُ:
مجدَليَّةً تفرشُ ضفائِرَها عَلى مَدِّ البَصرْ. يزرَعُه الفلاحونَ تعاويذ وأيقونات ويحصدونَ في الوقْتِ ذاته تماماً، خبزاً أسمرَ وإكليلَ شوكٍ.
وكانَ الوقتُ ظهراً معتماً..
وكان ذلك شيئاً عظيما

فيما يرى النائِمُ:
فَانوساً يرفَعُ ضوءَه للسمَاءِ. يمنَحُ الكواكِبَ خُرافَة التكوينِ فَتُزْهِرَ سيقانُها بعدَ لأي قِصصاً وأنبياءْ. ثم تبدأُ في انتِحارٍ جماعيٍّ لا ينتهي. وكانَ الكونُ مقفراً في ذلكَ النهارِ الوحيدْ..
وكان ذلكَ شيئاً عظيما

فيما يرى النائِمُ:
نخلَةً تزرَعُ أشواكَها في لقَاحٍ بَرّيٍّ مُلقى عَلى عَتبةِ مجرَةٍ بيضَاءَ تخرُجُ مِنْ خِلالِه نحلات طنانات تملأن الجرْنَ نبيذاً وعسَلْ.
وكَانَ القطافُ قد حَلَّ..
وكانَ ذلكَ شيئاً عظيما

فيما يرى النائِمُ:
جوقَةً موسيقيةً تأخُذُ اللحْنَ الأخيرَ. تُعيدُ توزيعهُ عَلى الجهاتِ المائة ,يأخُذُ اللحْنُ تشكلات نِساءٍ ورِجالٍ ذاهِلينَ بشعورٍ موحَّدَة الطولِ والملمَسِ. آخذينَ في الذَّوبان.ِ ممارسينَ فعل الخلْقِ بصورَةٍ مُغَايرةٍ.
وَكانَ الرقصُ اللغةَ الوحيدة..
وكانَ ذلكَ شيئاً عظيما

فيما يرى النائِمُ:
كَانتْ هي تمسِّدُ الرمْلَ في شَبقٍ مجنونٍ. تبحَثُ بينَ ذرّاتِهِ عَنْ بلورةٍ مائيَّةٍ تراه من خِلالها ودقاً يلوح.
وكانَ يمصُّ إصبعَه تمضية للوقْتِ..
وكانَ ذلكَ شيئاً عظيما

فيما يرى النائِمُ:
كَانَ الحلمُ يطفو على الملاءَةِ شلالَ حليْبٍ طَازجٍ. بِرائِحَةٍ طَازجَةٍ. ووَقتٍ طازجٍ. تنبُتُ مِنْ خِلالِهِ أعْشَاشٌ مألوفَةٌ..
وكانت النتيجَةُ.. زهْرةً بيضَاءَ فَقَطْ.
وَكانَ ذلِكَ شيئاً عظيما

فيما يرى النائمُ:
كانت الأرضُ والسَّماءُ رتْقاً واحِداً ثمَّ تناسَلَتا بعْدَما استَمرَّ القَمَرُ بمغازلتهما عمرا. فاسْتجابَتا لنداءِ الغريزَةِ الأوَّلِ..
وكانَت الأرضُ أرضاً بسبْعَةِ أوجُه. والسَّماءُ سماءً بسبْعَةِ أبوابْ.
وكان ذلِكَ شيئاً عظيما

فيما يرى النائِمُ:
أن الرؤيا رجْسٌ مِنْ عمَلِ الكَهنَةِ. فلا ندع الحلمَ يغزونا أبداً حتى تَصِحَّ أبدانُنا بعدَما اعتَراها شحوبٌ مِنْ هَولِ المشْهَدِ.
حينَما كانَ الطينُ يشكِّل تكوينه بيدِه هذه المرَّة.
وكان ذلكَ شيئاً عظيما

فيما يرى النائِمُ:
كانَ الوقْتُ صباحاً جداً. الشَّمسُ بعْد لم تفقد عذريتها.. الراعي يجرُّ غنمَه للمرْعى.. الكونُ هادِئ مفعَمٌ بالسكونِ.. وهي ترشفُ فنجانَ قهوتِها على شُرفةٍ بحجْمِ الفضَاءْ.
وكانَ كِتابُ النَّومِ هذا ملقى تحتَ قدمِيها..
وكان ذلِكَ هو الشيء العظيمْ.

كما قرأت قصائد أخرى منها:
(ديوان إلاي)
(1)
كلُّ البيوتِ لا بدَّ أنْ تستفيقَ
سأمشِي في الحوارِي وأدقُّ على كلِّ بابٍ
سأرمي النّوافذَ بالزّلطِ
وأضيءُ الشّوارعَ
وأعلنُها حريقاً
لا نومَ لاثنينِ معاً
لا ضحكَ
لا رقصَ
لا أغاني
لا لمساتِ يدٍ
و لا قبلاتٍ لاهثةً وراءَ الأبوابِ
سأصرخُ
انهضُوا مِنْ نومِكِم أيُّها الكسالَى
يا من تتلذَّذون بمذاقِ الصّباحِ
انهضُوا
لا صباحَ اليومَ ولا مساءَ
لنْ أتركَ أحداً
حتّى الموتى في قبورِهم
سأنكشُها عليهم بأسنانِي
وأنتزعُ العشقَ عن جلودِهم العفنةِ
سأصرخُ في وجوهِهم جميعاً
أفيقوا أيُّها المغفّلونَ
فأنا مستَيقظة.
(من مجموعة خيانات الرب سيناريوهات متعددة )
(2)
أبي
يا من تسكن لحظة البدء
وجدتني قبل ألف عام ملقاة على حافّة كتاب
وأخذتني
عرّيتني من تراب غيّر ملامحي
وأخذت جسدي
وبتأنٍ وصبر أعدتّه إلى صورته الّتي تريد
وجعلت تلبس كلّ جزء ما تشتهي
تصمّم الورق وتغطّي المستور
وتكشف اللّغات كلّها
ومن فمي أخذت قصصي البالية
وفيه ناراً وضعت
ومن يدي سحبتني
أنهضتني بكامل كلّي
وجلست تنظر ما أتمّته بكمال يداك
ثم الأسماء كلّها علّمتني
وكما تملي الأبوّة
ظللت تضحك مبتهجاً بتلعثم الحروف فيّ
تقدم يدك تصحّح حرفاً هنا
وتعيد سطراً ساقطاً في مكان آخر
وسهرت اللحظات لتحفظني الشّعر
وفنّ القول
ومن رحيقك تجبلها بي
وطلعت بي شوارع المكان
تقدّمني للقرابين صكّ فرح
في كلّ زاوية أركبتني حضنك الذي زينتّه خصّيصاً
وجلت بي على رعاياي
أمنحهم بركاتك
يا أبي
الذي تجلس خلف ناصية القلب تماماً
وصاياك كلّها نفّذت
وتعاليمك أنفذت
ولم أعص ذاتك
إلام الآن صار وجهك غيمة
وصوتك الذي كان يحطّ كجناح
يظلّلني من البرد
ومن نارك
سكن
وأنا يا أبي أبحث عنك في عبّاد الشّمس
وفي الحنّون الذي بدمي صبغته
وأركض الأزقّة حافية
بثوبي الملكيّ الذي نتّشته الصّخور
والشّوك يا قلب قلبي يأكل لحمي
ولا أراك
بصورتي التي صنعت
بتكويني الذي وضعت
بروحي التي نفثت فيها منك
وعلى أقرب مقبرة تركتها
وفي عيني رششت رملاً فلا أراك
وسمعي الذي كان يصطادك من آخر الروح
لا يمتصّ الآن إلا الريح
لماذا في الغابة تركتني
أقرفص وتهترئ عظامي
ولم تعد لي بالحلوى التي وعدت
وللوحوش القادمة صوبي أدرت ظهرك
ومشيت ملقياً بي
كلامك ووصاياك ونواميسك كلّها سمعت
وكلّ روحي على صورتك وشمت
ألم أكن مطيعة بما يليق بملكوتك المشتهى
أبي الذي كوّنت
أنا بنت عمرك التي من فمك شكّلتها
أناديك
لا أجد عينيّ
ولا ألمسني
تعال الآن
أنا خائفة.
(من مجموعة خيانات الرب سيناريوهات متعددة)

(3)
.....
أنا الهواء يا حبيبي
أدخل مسامك
بلا إذن منك
أنظّف ما علق من تراكمات الوحدة
وأمنحك الحياة
أنا الماء
أنزل على قلبك
أبرّده من غلّ التجارب
أتخلّلك
وأعطي ريقك حلاوة تشتهيها النساء
أعرف أين تروح
وأنتظر رجوعك
وعلى أنين عظامي تدوس
ألم أقل لك إنّي أنا الطّريق
أنا كتابك الذي تحبّ
تقلّبني بأصابعك النّحيلة
التي لوّثها الحبر
وبلّلها ريقك لتحطّ علي جسدي ثانية
تتأمّل تفاصيلي بحنان ودهشة
وحينما تأوي الى سريرك الخاوي
أكون في حضنك راقدة
أشعلك حتى تستحيل رمادا
أنا نبيذ
تختارني بعناية عاشق
تصبّني فيدوخ رأسك
أسكرك وأسكر منك
ولا ترتوي ولا أرتوي
وأنا أمّك
آخذك في رحمي
أخبّيك داخلي
أغلق عليك منافذاً يتسرّب الوجع منها إليك
أتلقّى السّياط على ظهري لئلّا تطالك
أتحمّل ضرباتك وإثخانك جسدي
كي لا تشوكك الوحدة
أغنّي لك وفي روحي تقيم
بلا ولادة.
(من مجموعة خيانات الرب سيناريوهات متعددة)

وكانت هنالك عودة من جديد للناقد العراقي الدكتور حاتم الصكر لتبيان بعض قراءاته للنصوص التي قرأت، وكانت كما أشار في المقدمة تمتاز بالسردية التي تتيح مساحاتٍ أرحب للتعبير، واختلفت أوجه وأساليب الإلقاء، فالإلقاء فن، كما أشار إلى التناقضات في التعابير مع وجود هاجس المنفى في جميعها، لكن تشير التناقضات، التي وجدت إلى عدم وجود اليقين، فهل سقطت أم نهضت بلادي، فالقلق الموجود يثير التساؤلات وتطرح القصيدة أسئلة مهمة، وأشار إلى استخدام الأسطورة في بعض قراءات الشعراء، والى التشبث بالموروث والأساطير، كما أشار إلى تميز قصيدة فاتنة بالأنثوية وموضوعتها مستوحاة من موضوعة الخلق العظيم.

كانت أمسية ثقافية غنية بحق لما طرح فيها من مضامين، في الختام، تم تقديم الشهادات التقديرية إلى الضيف الناقد الدكتور الصكر والى الشعراء المساهمين من قبل مركز أور الثقافي في بلجيكا