فضاءات

تلك المدينة، ذلك الفتى.. صور من الماضي مع الدكتور عبد الجبار الرفاعي / ئاشتي

حزمت حقائبي وبكل ثقة قلت سأرحل عبر الانترنت إلى مدينة إبن مدينتي الرفاعي، لعلني أساهم ولو بجزء بسيط جدا، وربما لا يرى بالعين المجردة، ولكنه يحمل الصدق بكل ما تعني هذه الكلمة من استرخاء للروح في لحظة التجلي.
تلك المدينة
مدينة بطبيعتها هادئة، لا تعرف ضجيج السيارات ولا القطارات ولا الباعة المتجولين، مدينة تنهض على آذان الفجر وتنام على آذان المغرب، وكأنها مكلفة بتطبيق الآية الكريمة "وجعلنا الليل لباسا. وجعلنا النهار معاشا"، لا يسمع المرء في ليلها الشتائي البارد غير صافرة الحراس الليليين، وهم يطلقونها في الحقيقة حين يستبدلونهم من يكونون حراسا حتى الفجر، أو مثلما نطلق عليهم في المدينة "عشونجيه، أي من بدء المغرب حتى الثانية عشر ليلا، ومصبحجيه من الثانية عشر ليلا حتى الخامسة صباحا"، كانت وربما لازالت تُسبح المدينة بكيان من الهدوء، لا تعرف معنى الضجيج، مثلما لا تعرف الاسفلت الذي غطى شوارعها بعد منتصف الستينات من القرن الماضي، كانت وقتها مدينة خارج الزمن، وهل هي الآن ضمن الزمن؟!... تتداخل علاقة العائلات فيها وكأنها قرية صغيرة، وفي الحقيقة كانت محكومة بأخلاق القرية بكل تفاصيلها، الطيبة عنوان الناس الأزلي، والتسامح سمة متميزة، والتضامن بين الناس قانون لا يمكن التجاوز عليه، فلا يمكنك أن تقيم حفلة زفاف وجارك لم يمر على وفاة أحد أفراد عائلته أربعين يوما، التداخل في الحياة المعيشية يجعلك تعرف ماذا سوف يكون غداء عائلة تبعد عن بيتك كيلومترا، عجيب أمر الناس هناك، تمتزج في أرواحهم الطيبة والسذاجة والعناد والاختلاف على اللاشيء، وحين يراك المختلف معك في مدينة أخرى، يكون أقرب اليك من نفسك بكل شيء، فهل هو نهر الغراف الذي أرضع أبناء المدينة بكل هذا، أم هو تريف المدينة والعلاقات القروية النقية التي تربط بين أبناء المدينة الواحدة، ربما هناك لغز لا استطيع الوصول إليه. مثلما لا أعرف لغز أنجاب هذه المدينة مفكرين وقادة أحزاب، والجميل بهؤلاء أنهم يربطون اسمائهم بإسم المدينة الرفاعي، والأجمل بهؤلاء المفكرين أنهم يحملون صدق الحقيقة وجمالها، هذا الصدق هو نتاج عذرية القرية، أو هو ربما المخزون الروحي لطيبة الناس الفقراء في هذه المدينة وما أكثرهم، ربما هي تلك صفات المدن الصغيرة في كل أنحاء العالم، وربما هي بالذات صفات سكان المدن الذين يشعرون بالظلم المسلط عليهم من حكامهم، وأكثر الاحتمالات قبولا هو العيش المشترك وكأن جميع بيوتها بيت واحد، أتذكر جيدا ما مر مساء دون أن يأتي إلينا صحن رز من جيراننا، أو نرسل اليهم غداة يوم صحن من نبات الخباز"التوله"، او من السمك المسموط، التداخل في العلاقات يجعل كل شئ جاهزا للمحاكاة الانسانية البدائية الصادقة... أتذكر حين يموت شخص ما، تمر جنازته في سوق المدينة، هناك الكثير من أصحاب الدكاكين يغلقون دكاكينهم ويسيرون خلف الجنازة حتى مسجد المدينة، ولا يمكن أن تمحو الأيام من ذاكرتي، تلك البقرة التي تسير مساء كل يوم في سوق المدينة، تأكل ما تشاء من حاويات فضلات المطاعم في السوق، بالمناسبة لم يكن آنذاك أكثر من ثلاثة مطاعم في السوق، ولم يزجرها أحد، لأنها بقرة "بيت السوز"، الذين هم من شيوخ المدينة وأبنائها، هذه المدينة التي تتمتع بهذه الصفة، خلقت الكثير من المفارقات الحياتية المتميزة، كانت تعشق الغناء، ولكن أي غناء ! أنه الغناء الحزين، كانت مجالس الأعراس أيام الصيف تنصب في الأزقة، والراقصات الغجريات يمضين الليل برقصهن على صوت "محبوب العبد"، وهو يردد على مسامعهن "إهجع ..إهجع"، حين يتصاعد بهن الحماس في الرقص، والمدينة ليس بها شيء مخفي، فالجميع يعرف "بيت العميان"، وهم يتاجرون بالعرق المغشوش، وهناك أشياء أخرى لا أود الإفصاح عنها، ولكنها من مدينتنا التي تعتز بأنها صنعت أكثر من أربعين من حملة شهادة الدكتوراه، وقدمت الكثير من الشهداء من أجل الكلمة الطيبة...الحرية.
ذلك الفتى
"يظن ُ أن الغامض هو في ما لا يعرفه ولا يراه، وهذا ظنٌ خاطئٌ، إن كان الغامض يهمه فعليه أن يبحث عنه في ما يعرفه، وفي ما يراه"...أن تبحث عن نفسك بين ازدحام الأشياء ذلك أمر سهل، وربما لا تواجهك أية عرقلة في ذلك، ولكن أن تصنف نفسك ضمن قائمة ما، ذلك هو المشكل الذي لا ترى مناصا من أن تدير له ظهرك، فكيف بهذا الفتى الذي جاء من بيئة هي بحر من التكتم، وأهوار من الخجل، جاء من القرية ـ القرية ليستقر به المقام في "المدينة ـ القرية". كانت شوارع المدينة لا تستطيع أن تتلمس حركة أقدامه الهادئة، مثلما لا يستطيع هو أن يتدارك خجله في الرد على تحية الناس، يسير بهدوء وكأنه يخشى على الشوارع من تماس أقدامه، يبتسم بفخر وكأنه يدفع ضريبة عن هذا الإبتسام، هو أبن القرية التي يأكل الفقر فيها ويشرب ليلا ونهارا، الفقر الذي كنا نتمنى نحن أبناء المدن العاشقة للكسل، لو تحقق قول أمام الفقراء علي بن أبي طالب، وأصبح هذا الفقر رجلا، لشربنا من دمه وحرقناه ألف مرة...هذا الفتى الذي جاء إلى "المدينة ـ القرية"، وهو يحمل معه كرها شديدا للفقر، وجد الفقر يمشي في الشوارع، ويلعب مع الأطفال، ويجلس في المقاهي مع الناس، لهذا تحول الخوف والوجوم والتردد الذي جلبه من القرية إلى أمر عاد، رأى أن المدينة "الرفاعي" هي قرية أخرى، سوى أن بها أكثر من سيارة وأكثر من شارع، وسوق ينتصف مساحة المدينة، هي قرية لا تختلف عن قريته سوى بحجم مساحتها، مثلما هو الإختلاف بين الأسماء، "قرية آل حواس"...مدينة الرفاعي، لقد انكسر هذا الحاجز عند الفتى القادم من "قرية آل حواس"، وهو حاجز ربما يخلق العزلة أن وجد فعلا، ونعني به حاجز الفقر، في قريته كان غذاءه من الرز المطبوخ باللبن "الحميض"، والرز المطبوخ بالحليب "البحت"، ونبات الخباز "التوله"، ورشّاد البر... في المدينة أضاف لذلك التمر والدبس، ومرة في الشهر"نص نفر كباب" ربما، ضاعت أبجديات الخوف والخجل من الفقر لدى الفتى "جبّار"، وضاعت كذلك أبجديات الخوف الأول، ربما هو لم يتمثل قول كارل ماركس من أن "الطبقة العاملة لا تخسر سوى أغلالها وتربح العالم"، بل تمثل مفهوم العدالة والدفاع عن مظلومية الفقراء، كان الفتى جبّار يعمل بصمت متجاوزا حالة التحدي العلني، وحالة التجاوز هذه نادرا ما تفارق الشباب، ولكن إبن القرية الذي تشبع بعادات الكتمان والتستر، لم يسمح لنفسه أن يكون واجهة للتحدي العلني لسلطة اتضحت كل معالمها، يتكلم بصمت مع المحيطين به، ربما كان قريبا منا نحن "اليساريين"، ولا يجد ضيرا في فتح حوار هادئ حول مفاهيم عديدة، ويبدو كانت لدية حواجز كثيرة آنذاك في الاقتراب أكثر من اليسار، رغم علاقاته الطيبة مع الكثير من الطلبة اليساريين، غير انه انجذب أكثر إلى قوى تؤمن بمفاهيم تبحث عن العدالة بشكل آخر، وتنسجم مع طبيعته التي نشأ عليها في طفولته، وكان كل شئ بالنسبة إليه هو الكتمان، ولهذا حقق نجاحا متميزا في قيادة حزب الدعوة في مدينة الرفاعي، بعد منتصف سبعينات القرن المنصرم.لا أريد أن أكتب عن نشاطه وحياته بعد تلك السنوات، فقد كتب عنه ويكتب الكثيرين ممن يعتزون بمسيرته النضالية، ومسيرته الفكرية المتميزة، وعمله من أجل أن يعصرن ما يؤمن به، سوى أنني أود أن أقول: ان الدكتور عبد الجبار الرفاعي مازال يسعى من أجل تنفيذ مشروعه الذي رسمه لنفسه منذ أن عرف معنى البحث، والذي هو البحث عن الحقيقة المتجددة، ويبدو انه سيتواصل بهذا المشروع بهمة وعناد، يشبه عناد فلاحي قرية "آل حواس"، وهم يحفرون ساقية كي يصل الماء إلى زرعهم.