فضاءات

كلمة في هشام الطائي / د. فالح الحمراني

(نعت اللجنة المحية لمحافظة ميسان يوم الخميس 29 ايلول الرفيق المناضل هشام الطائي (ابو الحارث)، " ذلك الاستاذ والمربي الفاضل والنجم الساطع في سماء الثقافة الميسانية").
دائما تشعر بالصدمة والحزن العميق حينما يرحل وانت في المنفى الاختياري رفيق درب طويل، دون ان تلقي عليه نظرة اخيرة وتنبس له بانه عاش لهدف جعل لحياته معنى ولم تمض عبثا، لانه كرسها لقضية وطن وشعب وتاريخ. وهكذا غادرنا على عجل في ميسان الخميس المناضل الشيوعي: هشام الطائي.
هكذا يرحل النبلاء في زمن الفوضى واختلاط الاوراق من دون ضجة. وما يُعَزي القلب ان صدى رحيل الرفيق هشام الطائي في ميسانه العزيزة، تردد في قلوب رفاق دربه واصدقائه وتلامذته الذين من الصعوبه احصاؤهم، وستبقى ذكراه، المشحونة بنضاله المستديم،تحوم في ازقة المدينة وشواطئ دجلة في تلك الارياف البعيدة التي ناضل من اجل ان يعمها النور والخير وان يكافأ فيها الانسان ما يعادل كدحه وعمله.
عرفته مناضلا ، ملتهب المشاعر. تلك المشاعر الفياضة التي لا تتبلور بهذه المصداقية الا لمن يؤسسها على قناعات وعقائد ويتوصل اليها من خلال خبرة حياة طويلة. وان هشام الطائي مؤمنا بالحزب وفكره وعاملاً في صفوفه ، واذا ابعدته الظروف فيبقى التصاقه به روحيا. ترى ان الحيوية تتدفق في كيانه حينما تتحدث عن قضايا الوطن والحزب، وتتذكر معه اؤلئك الرفاق الذين رحلوا او انتقلوا الى مناطق اخرى، بفعل الملاحقات، بفعل الخراب الذي عم وطننا.
لم تكن لديه قضية اخرى اثمن من قضية العراق، او بالاحرى قضية الكادحين في العراق، قضية شعب العراق الذي كان يؤمن بصورة مطلقه بمستقبلهم،وان تتوفر لهم الحياة الكريمة والعادلة ويكونوا هم الاهم من اية قضية اخرى. ولم ير طريقا اخر سوى الطريق نحو الاشتراكية وفق التعاليم الماركسة لتحقيق ذلك الهدف النبيل. كان متسربلا بالفكر الوطني والاممي، مستوعبا تاريخ البشرية، متطلعا دوما الى الامام والمستقبل.
ماذا سُيقال بحق ابي الحارث؟ وهل ستقيم له ادارة محافظة مدينة العماره، المدينة التي التصق بارضها ودرس تلامذتها وخاض النظال القاسي من اجل اهلها، تمثالا؟ او ستطلق اسمه على شارع. وهو يستحق هذا وذاك؟ فهو المناضل العنيد الذي واجه بصمود وشجاعة ماكنة البعث. حتما سيذكره الشرفاء والنبلاء والرفاق المنحدرون من كل الشرائح من الفلاحين والعمال والمعلمين والطلبة. سيذكره اؤلئك البسطاء الذين كان يتعامل معهم بود وتواضع لانهم من ابناء هذا الشعب الذي كرس حياته لقضيته.
في تموز 1968 نشط هشام الطائي في صفوف الحزب وادى المهام التي انيطت به، ومن ثم اصبح دليل الشبية في محافظة ميسان نحو الفكر النير والتقدمي، مسؤولا عن منظمتها، ومنذ ذلك الزمن الخطر الذي باسترشادته وخبرته لكسب الجيل الجديد وتربيته دخل في اتون المعركة الى جانب الحزب الشيوعي العراقي، الذي حمل الافكار النبيلة والانية باقامة عراق مستقل، ودولة مدنية ومواطن انتماؤه الاول والاخير للعراق لا للطائفة ولا العشيرة او القومية.
وبفضل اسلوب الراحل المرن والمنفتح والديمقراطي اتسعت صفوف "اتحاد الشبيبة الديمقراطية" حال استئناف نشاطه بسرعة مذهلة لتمتد الى الاقضية والنواحي والارياف النائية، وكم كان فرحا ومسرورا ونحن ننظم اول لقاء حاشد في ضواحي المدينة، حيث توافد الشباب من كافة انحاء المحافظة. وبارشادته ايضا تشكل تجمع للمثقفين التقدميين وانتشرت حلقات محبي مطالعة الادب والفكر في مكتبات المدينة وتنظيم المسابقات واعداد النشرات الجدارية، لقد اثارت تلك الانشطة اجهزة امن النظام البعثي ومنظمته التي توقعت عبثا ان شعبية الحزب الشيوعي قد انحسرت، وهذا ما زاد من شراستها في التعامل مع الرفاق بمن فيهم هشام الطائي.
ومن دون تردد اختار الحزب ابا الحارث بعيد قيام ما سمي ب " الجبهة الوطنية"! ليكون ممثلا له في الحوار مع منظمة حزب البعث في ميسان. وكنت في هذه المرحلة على علاقة وثيقه بالراحل. لقد جاهد بكل شجاعة وبسالة بان يكون للحزب موقفه الخاص والمستقل في تقييمه للاوضاع في المدينة والتطورات في الشارع. كان كل مرة يرجع من لقاءاته مهموما وغاضبا، لانه اكتشف اللعبة القذرة التي مارسها البعث، اكتشف الخديعة من خلال محاولتهم التعامل مع ممثل الحزب باستعلاء، ومحاولة جره الى مواقفهم، لكنه كان يرفض ذلك دائما. وذات مساء مازال طازجا في مخيلتي جاءني الراحل ابو الحارث واخبرني بقراره الذي اتخذه بعد معاناة بانه طلب من الحزب اعفاءه من مهمة التمثيل. قال لي بصراحة الرجل الشريف : انها ثقيلة، وانه سيخون الحزب اذا واصل اداءها. انه اكتشف خيانة البعث للجبهة الوطنية، وهذا التوجه لم يكن في اطار سياسة الحزب. ورأيت من خلال اصراره بان قراره نابع من وجدانه، لكنه مازال على قناعة برسالة الحزب ومهمته التاريخية.
سنفتقدك يا ابا الحارث، فالدنيا تَبخل في امثالك، وعزاؤنا ان اخرين تبنوا احلامك وتطلعاتك وافكارك النيرة.