فضاءات

الهجرة والنفي في عيادة الطب النفسي / طالب عبد الأمير

قليلة هي الدراسات التي تسلط الضوء على ظاهرة الهجرة وإشكاليات التأقلم مع البيئة الجديدة التي يأتي المهاجر او المنفي اليها لتكون ملاذاً له، من منظور التحليل النفسي،, قياساً لحجم هذه الظاهرة التي اتسعت خلال العقدين الأخيرين، وبصورة درامية، بشكل خاص بالنسبة لمنطقة الشرق الاوسط، ولما لهذا الجانب من اهمية كبيرة لأن المهجّر، او المنفى بحد ذاته يعتبر المكان الذي يرتد فيه صدى الصدمات التي واجهها اللاجئ، وأدت الى ابحاره في زورق الرحيل الى ضفاف اخرى مجهولة.
من هذه الدراسات كتاب "الهجرة والتأقلم" للباحث رياض البلداوي، وهو استاذ وطبيب مختص بالطب النفسي، ويدير مركز الشرق للعلاج النفسي في ستوكهولم، وهو ذو خبرة تمتد الى اكثر من عشرين عاماً في مجال اختصاصه وهو يتناول في هذا الكتاب الهجرة كرحلة في الجغرافيا والزمن والمتغيرات النفسية التي تحدث داخل الانسان، خلال مسيرة تبدأ من الموطن الاول ولا تنتهي في بلد المهجر، المجتمع الجديد الذي سيعيش فيه المهاجر، وما يواجهه فيه من تحديات جمة يتوجب عليه التعامل معها ومجابهتها. في مقدمته للكتاب يضعنا البلداوي، ، أمام الصعوبات التي يواجهها الباحث في دراسة عملية الهجرة والنفي وتأقلم المهاجر والمنفي مع البيئة الجديدة، وذلك لأن لكل فرد قصته، او رحلته المتضمنة تجاربه ومعايشاته والدوافع التي اجبرته على الهجرة او النفي.
لا تنتهي رحلة المهاجر بمجرد وصولة الى البلد الجديد، بل وتستمر نحو محطات عديدة غير مرئية، يتحسسها المرء في المتغيرات التي تطرأ على حياته الجديدة. فبعد صراعه من اجل الحصول على حق الإقامة، ويتم الاستقرار النسبي، تبدأ مرحلة التحدي الاكبر في التأقلم مع المجتمع الجديد، بكل ما تملكه الكلمة من معنى. وقد تبدأ معها معاناة جديدة ومن نوع آخر، مختلفة عن تلك التي عاشها الشخص المعني قبل مغادرته بيئته الاولى. اذ ان حالة النفي تبدأ بغزل خيوطها، في وعي المنفي، قبل خروجه من الوطن، حيث تصبح الضفاف الاخرى بالنسبة إليه عوالم مبهمة، لا يعرف عنها سوى كونها ملاذات يُلتجأ اليها، تكون فيها الخيارات صعبة وقاسية، ليس اقلها التأقلم أوالارتداد في الاحاسيس والشعور بالذنب، الذي يترافق في بعض الحالات مع تصورات وخيالات عن البيئة الجديدة قد لا تجد لها انعكاسات مادية في الواقع، فتشكل صدمة جديدة بالنسبة إليه. لا شك بأن تغيرات تطرأ على المهاجر، بعد وصوله الى بلد اللجوء، واحساس بالإعياء، او آلام في الرأس، أو اضطرابات النوم، او تبدل اوقات الدورة الشهرية بالنسبة للنساء وغيرها من الامور التي تعد طبيعية، وحالات مؤقته، وتأتي كردة فعل لعملية الهجرة، كما يراها الباحث، لكن المشكلة تكمن في عدم التمييز بين اسباب الاعراض واشكالها، حيث بعضها ناتج عن وضع صحي نفسي يحتاج الى علاج، وهي حالات غير قليلة وخلفيتها تكمن في عوامل مختلفة، منها الصدمات النفسية بسبب الحروب او التعذيب الذي تعرض له اللاجئ في بلده، او بسبب فقده احبة له، وما الى ذلك. لكن المعضلة تكمن أيضاً في عدم اقرار الشخص بأنه مصاب بوضع نفسي، والتعتيم على ذلك من منطلق الشعور بالخجل من مراجعة عيادة الطبيب النفساني، مما يؤدي في احايين كثيرة الى تدهور حالته الصحيه، ويكون من المتأخر معالجته من المرض، الذي قد يتحول من نفسي الى عضوي. ولدى مستشار الطب النفسي رياض البلداوي ادلة كثيرة على هذا، كما نستشف من قراءتنا الكتاب. وبالرغم من ما يواجهه المهاجر المنفي تقع عليه مسؤولية الاسهام في مهمة التفاعل الثقافي مع المجتمع الجديد، الأمر الذي يتطلب دراية وخبرة من تجارب الآخرين. وفيما يتعلق بهجرة العراقيين الى الخارج، فهي حالة حديثة العهد، تجري تحت ظروف قد تختلف كثيراً عن ظروف هجرة شعوب واقوام اخرى مختلفة، اضحت لها خبرة في هذا المضمار. فالعراقي لم يغادر وطنه ليستقر في بلاد غريبة بملء ارادته، وانما هي الأسباب القاهرة التي ارغمته على ذلك. فهو لصيق التربة التي انجبته، وهو مشدود إلى الذكريات التي اودعها ذاكرة المدينة او القرية او الحي الذي نشأ وترعرع فيه. ان الاحداث المأساوية التي عاشها ويعيشها العراقي دفعت به الى اللجوء الى ارض غريبة وبلاد تختلف عن تلك التي عرفها وعاشت في دواخله وتلبست كيانه. فيلتقي بأناس تختلف طباعهم عن طباعه. بعضهم حقاً اناس ظرفاء، جديون، وسيمون ومؤدبون، لكنهم حذرون في التعامل مع القادم الغريب. وهؤلاء الغرباء القادمون الذين ارادوا ان تكون فترة مكوثهم قصيرة، مؤقتة، ارتأى البعض منهم ان لا داعي للتفاعل مع المجتمع الجديد، والاكتفاء بعلاقات رسمية تتطلبها الحاجة لتلبية ما يضمن الاقامة والعيش بينهم، فيلقي هذا التعامل ظلالاً من التأثيرات السلبيةً على حياة المهاجر، الذي يظل يجتر همومه ويندب الوطن. وفي بحثه يتناول الدكتور رياض البلداوي هذه المسألة من زاوية تأثيرها النفسي، الذي توصل اليه من خلال حالات كثيرة خضعت الى تشخيصات ومعالجات في عيادته، ومن خبرته الشخصية كمهاجر عراقي نال قسطه من معاناة الهجرة، خلال ما يقرب من ثلاثة عقود، حيث استطاع تشخيص عللها والتوصل الى ما يتطلبه الامر من حلول لمواجهتها. فقد شخص الباحث عدداً من الحالات التي تعيشها بعض العائلات المهاجرة، خاصة تلك التي فيها اطفال، بأن السنوات الاربع الاولى من وجود العائلة في البلد الجديد، يشعر الوالدان بالزهو من انهما استطاعا الوصول الى بلد المهجر لمصلحة اطفالهما، معتقدين ان مأساة الرحلة المجهولة قد انتهت. وهذا الشعور بالاسترخاء نجد ما يناقضه عند الاطفال الذين يشعرون بأنهم مجبرون على الهجرة، وترك ما يحبونه هناك، في البلد الام، من اصدقاء واقارب واشياء كثيرة. وتتناوشهم احاسيس بالحنين الى ما تركوه هناك. غير انه وبعد فترة سرعان ما يرتبطون بعلاقات جديدة مع اطفال آخرين من خلال المدرسة واماكن اللهو، ويتعلمون اللغة بطريقة سريعة، بينما ينتاب الوالدين احساس برتابة الحياة، وبطء سير التفاعل مع المجتمع، مع صعوبة العلاقات، وصعوبة تعلم اللغة، والدخول الى المجتمع. وهنا يحدث شرخ في العلاقة داخل العائلة، خصوصا اذا كان الاختلاف جليا بين الأب والام، فيما يتعلق بامكانية الاستعداد للتأقلم مع المجتمع، والفرق في امكانية تعلم اللغة والدخول الى سوق العمل، اذ تأخذ بنية العائلة ابعاداً اخرى عند الانتقال من مجتمع بطرياركي، يكون فيه الدور الابوي واضحا، الى مجتمع يكتسب فيه افراد العائلة ادوارا جديدة، وخاصة الأب، الذي يتقلص دوره الاقتصادي والاجتماعي، بسبب كبر السن، والمشاكل الصحية، أو صعوبة الحصول على عمل، بينما يحصل الاطفال على دور جديد وحقوق لم يألفوها في السابق. والأم بدورها تفقد كثيراً من دورها التقليدي، وتصبح منقسمة بين اطفالها وزوجها، وعليها في بعض الاحيان اتخاذ موقف، قد يكلفها فقدان احد الطرفين. بني الباحث فكرته على دور الثقافة انطلاقاً من واقع يدلل على ان العديدً من المهاجرين واللاجئين يأتون بمفردهم الى البلد الجديد، او مع جزء من العائلة، ويتركون الجزء الكبير من الاقارب والاصدقاء وزملاء المدرسة وغيرهم. وليس هذا فحسب، بل حتى انهم يفقدون التواصل مع البيئة الأوسع، والتي تشمل الثقافة والقواعد والاعراف والنظام الاجتماعي الذي اعتاد المرء عليه. ومواجهة هذا الامر تتطلب من المهاجر، ايجاد التوازن، بين الخلفية الثقافية والاجتماعية التي يأتي بها الى المجتمع الجديد، والامكانات الاجتماعية والعملية التي يوفرها المجتمع الذي سيعيش فيه. وبما ان علاقة الانسان بالثقافة تختلف من شخص الى آخر، اعتمادا على طبيعة الفهم الذي يكونه الشخص ازاء العلاقات الثقافية التي يتصف بها المجتمع الذي ينتمي اليه، نجد ان هناك اشخاصاً ينتمون الى البيئة ذاتها ، او المجموعة الاثنية ، لكن ليس لديهم نفس الموقف من العلاقات الثقافية السائدة. لكن البلداوي يرى، برغم ذلك الاختلاف، فان هناك بعض المعايير المشتركة والتقاليد التي تخص المجتمع بشكل عام، وتشكل، الى حد ما خصائص المجموعة ككل، بالرغم من الاختلاف في التكوين الثقافي بين الافراد. بطبيعة الحال، للثقافة تأثير على حياة الانسان اليومية، على طريقة العيش والتواصل مع الاخرين وطبيعة الحوار .. الخ. والثقافة بطبيعتها متحركة وليست ثابتة تنقل من جيل الى آخر دون تغيير، بل انها تغتني بتواصلها مع الثقافات الاخرى. ان ادراك هذه المسالة يفتح افاقا اوسع لتقبل الآخر. وللوصول الى هذا المبتغى، يتطلب الامر آليات فعالة وعملاً دؤوباً لإزالة مسببات ما يسمى بالتصادم الثقافي، واستبداله بمفهوم الاختلاف والتعددية.