فضاءات

كلمة رثاء وتأبين للاستاذ نعمة عبد اللطيف (ابو زينب) *


نجيب محي الدين**
احييكم جميعا.. احيي بوافر التقدير مشاعركم الطيبة النبيلة، مشاعر التقدير والوفاء منكم، لنستذكر ونحيي روح فقيدنا العزيز ابي زينب المربي نعمة عبد اللطيف النبيلة الكريمة ومواقفه الابية.
عرفته معلما محبا للتعليم ومحبا لطلابه، هذه حقيقة مهمة تشكل سر تعلقه بمهنة التعليم وسر نجاحه في مسيرته المهنية التعليمية. ويشيد به ويعترف له طلابه بسلوكه المهني المستقيم وتعامله الانساني الحنون معهم وبحبه الابوي لهم. لقد شعرت بألم ممض وحزن شديد حال سماع نبأ غيابه الابدي عنا، وكان طبيعيا ان تكون هذه هي مشاعري ازاء هذا النبأ الاليم، وانا الذي عرفته وبدأت علاقتي الطيبة به منذ اكثر من نصف قرن. وكان هو في ذلك الوقت طالبا في السنة الاولى بدار المعلمين الابتدائية، وتحديدا في مطلع السنة الدراسية 1952/ 1953 في بعقوبة، ليؤهل خلال ثلاث سنوات ليكون معلما في المدارس الابتدائية. وكنت انا معاونا لمدير تلك الدار وكنت بحكم واجباتي اتابع احوال الطلاب ومشاكلهم وتصرفاتهم ومستوى تحصيلهم الدراسي وغيرها، فكانت تقارير جميع المدرسين عنه تشيد بشخصيته الهادئة واجتهاده وميله الى التعاون ومساعدة الغير.
هكذا كان انطباعي عنه عند مقابلته لي لأمر ما، ولذلك تم تكليفه ليكون مراقبا، نظراً الى ما كانت تتوسم ادارة الدار فيه من الكفاءة والتصرف الحسن، وعلى هذا ظلت مميزات شخصيته باقية في ذاكرتي بالرغم من مرور سنوات عديدة، منذ اعتقالي وفصلي من التعليم في عام 1952 بسبب الاجراءات الحكومية خلال فترة الانتفاضة الوطنية في تشرين الثاني عام 1952، حتى اعادتي الى الخدمة في عام 1958 بعد ثورة 14 تموز وتأسيس نقابة المعلمين ونشاط فقيدنا المتميز فيها.
لقد استوعب خلال فترة اعداده ودراسته في دار المعلمين ليكون معلما، اهمية التعليم، فنالت في نفسه الرضا والتقدير والحب، فحرص وسعى ليكون ناجحاً ومتميزاً في ادائها الى جانب طموح يملأ نفسه نحو مزيد من اكتساب العلم والمعرفة ومزيد من التطوير لقدراته وخبراته في مجال التعليم، الذي احبه وحقق نجاحا في ادائه، فاندفع للانتساب الى دار المعلمين العالية ليكون مدرسا على الملاك الثانوي، وصار مدرسا متميزاً في مجال عمله الجديد مثل ما كان متميزا في مجال عمله السابق.
ان نظرته الى رسالة التعليم هي اوسع واسمى من ان تكون مجرد تلقين للطلاب او تعريفهم بمفردات او موضوعات معينة مقررة ومثبتة في الكتب المدرسية، ولذلك فانه لم يعتبر نفسه معلماً يجدد واجباته بين جدران الصفوف وبين صفحات الكتب المدرسية المقررة، بل كان مربياً حانياً وموجهاً وطنياً لخدمة كل ابناء الوطن واسعادهم وعطوفا يبغي مصلحتهم وسلامة الوطن الى جانب ادائه واجبه التعليمي اداءً جيداً.
لقد نالت القضايا العامة للبلاد ومشاكل الشعب قسطاً غير قليل من اهتمامه ومتابعته، دون ان تنال منها واجباته واهتماماته بالشؤون المهنية، فحرص على ان يظل مساهماً في تعزيز مسيرة شعبه من اجل الاصلاح والتقدم رغم ظروفه الصحية الصعبة، فقد بقي مؤمنا وملتزماً بما آمن به من افكار ومبادئ ومواقف منذ فجر شبابه وحتى اواخر ايام حياته.
ويطل على ذاكرتي في هذه الايام موقف له من القضايا العامة التي تمس مصير الشعب منذ ايام شبابه المبكرة ظل راسخاً في بالي منذ اكثر من ستة عقود.
كان الزمن اواخر شهر تشرين الثاني عام 1952 ونعمة عبد اللطيف في السنة الاولى في دار المعلمين في بعقوبة، انطلقت في البلاد حركة وطنية ابتدأت في بغداد وامتدت الى كثير من مدن العراق للمطالبة باجراء بعض الاصلاحات وفي مقدمتها تعديل قانون الانتخابات العامة، سميت الحركة بـ الانتفاضة او انتفاضة تشرين وهي من الحلقات الرئيسية في سلسلة الحركات السياسية الوطنية الاصلاحية والمهمة في تاريخ العراق خلال القرن الماضي. وكان لطلاب الكليات والمعاهد العالية والثانويات دور كبير في هذه الانتفاضة، دون ان تنال من عزيمتهم وارادتهم تهديدات السلطة واجراءاتها القاسية. وتعتبر تلك الانتفاضة من الحركات الوطنية التي حققت نجاحا كبيرا، حيث انتزعت اهم اهدافها وهو تعديل قانون الانتخابات على وفق ما ارادت. ولم يكن الطالب بدار المعلمين نعمة عبد اللطيف ببعيد عنها، بل كان في صميمها وفي مقدمتها حينما كان في مدينة بعقوبة التي انتفضت مثل سائر المدن الرئيسة في البلاد. واحسبه في ذلك الوقت، كما كان يبدو لي، من ابرز قادتها ومنظميها في بعقوبة. وفعلا انطلقت تظاهرات صاخبة بادئة بطلاب الثانوية ودار المعلمين ثم اخذ المواطنون يلتحقون بها ويزدادون التحاقا كلما مضت في مسيرتها نحو سراي الحكومة.
كانت تلك التظاهرة متميزة بكثافتها وبشعاراتها الوطنية والتقدمية التي ارعبت السلطات حتى تفرقت بعد الظهر، وكان يبدو دور نعمة عبد اللطيف كأحد منظميها. وعند المساء وتحديدا بعد منتصف الليل قامت السلطات الحكومية من شرطة وامن باعتقال عدد من طلاب الدار والثانوية بالاضافة الى مدير الدار ومعاونه وعدد من التدريسيين والمواطنين فاق عددهم السبعين. ولما انتشر خبر الاعتقالات للقيادات الطلابية مع القيادات الحزبية والنقابية المتواجدة في المدينة، انطلقت تظاهرة حاشدة اكبر حجما من تظاهرة اليوم السابق وتوجهت بعد اختراقها اهم شوارع المدينة الى سراي الحكومة مطالبة باطلاق سراح المعتقلين. وكان لها صدى كبير في البلاد ولكن لم تستطع القوى الطلابية مواصلة نشاطها بعد ان فرضت الحكومة حالة الطوارئ والاحكام العرفية العسكرية، كما قامت باعتقال عدد آخر من الطلاب في الايام التالية ونقل جميع المعتقلين الى معسكرات الاعتقال التي اقيمت في ضواحي بغداد، في معسكرات الجيش في ابو غريب والرستمية. وكان منظمو وقادة التظاهرة الثانية هم مجموعة الطلاب القادة الذين لم يعتقلوا في اول غارة لاعتقال الطلاب من قبل السلطات وكان من بينهم الطالب نعمة عبد اللطيف.
واسع الرحمة والرضوان لروحك الطاهرة الابية يا أبا زينب، نحييك بوافر المحبة والتقدير لجهودك ونضالك واخلاصك من اجل وطننا ومن اجل خلق جيل متعلم واعٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ألقيت في جلسة الاستذكار التي اقيمت الجمعة الماضية على قاعة "بيتنا الثقافي" في بغداد.
** نقيب المعلمين الاسبق في سنوات 1959- 1961