من الحزب

حميد مجيد موسى في حوار موسع مع "طريق الشعب".. المحور الأول (1)

الحزب الشيوعي العراقي والديمقراطية.. المفهوم والممارسة

أجرت هيئة تحرير "طريق الشعب" حواراً مع الرفيق حميد مجيد موسى سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، حول موضوعات ومحاور متنوعة: فكرية وسياسية. وجاء الحوار الذي امتد عدة جلسات، في مناسبة احتفالات الشيوعيين العراقيين بالعيد الثمانين لتأسيس حزبهم، وبالتزامن معه.
في المحور الاول (محور الديمقراطية) تحدث الرفيق موسى عن فهم الماركسية والشيوعيين للديمقراطية، وكيفية استيعابها تاريخياً. وفي ما يخص الحزب الشيوعي العراقي، تطرق إلى مراحل تطور الديمقراطية داخل الحزب، والى ممارسته اياها على صعيد العلاقات مع القوى الأخرى، وفي المجتمع.
اليوم وعلى هذه الصفحة، ننشر حصيلة المحور الاول هذا من الحوار مع سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وسنعود الى بقية المحاور في اعداد مقبلة.

حول مفهوم الديمقراطية

الديمقراطية ليست مفهوماً جامداً أو واحدا استمر منذ بدايات ظهور المصطلح حتى يومنا هذا. وهناك تعريفات عديدة للمصطلح، ارتباطا بتعدد الباحثين. لكننا نأخذ ما هو مشترك وما أثبتت الوقائع سلامته.
الديمقراطية في رأينا ليست نظاما اجتماعيا - اقتصاديا، بل هي منظومة من المبادئ والمفاهيم والقيم والأخلاقيات والاساليب والآليات، التي تستهدف مشاركة أصحاب القضية المعنيين بصنع القرار النهائي، سواء كان القرار سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو اقتصاديا. وهي في زمننا الحالي تعني مشاركة أوسع الناس في تقرير مصائرهم، وفي صنع القرارات التي تتعلق بحاضرهم ومستقبلهم .
وقد تعامل الماركسيون مع الديمقراطية في تطور مفاهيمها، وفيما هي تكتسب حيوية وأبعادا ترتبط بالتطور الحضاري للمجتمعات، بتطور الثقافة السياسية، ووعي الشعوب في البلدان المختلفة. وفيما تتخذ أشكالا متنوعة عديدة، تفرضها حاجة الشعوب الى الارتقاء بحياتها ، والى التمتع بحقها في تقرير مصيرها.
فالماركسية، باعتبارها المعبر عن مصالح الطبقة العاملة وشغيلة اليد والفكر والكادحين عموما، تفهم الديمقراطية على انها التبني لمصالح أكثرية الشعب. وحقا أن الشغيلة والعمال والفلاحين وعموم الكادحين هم اكثرية الشعب، أي شعب.
لهذا فنحن نفهم ما طرحته الماركسية عموما من مفاهيم، باعتباره الأكثر جذرية في فهم الديمقراطية؛ وانها (الماركسية) بتبنيها ما هو جذري هي الأكثر انسجاما مع ما يعنيه مصطلح الديمقراطية. الأمر الذي يتيح للديمقراطية الرسو على قاعدة اجتماعية واقتصادية امتن، تكسبها جوهرا أكثر ثباتا وديمومة.
الماركسية بالتالي لا تفهم الديمقراطية على انها مجرد عمليات سياسية وممارسات شكلية أو مؤسسات فوقية. انما تفهم الديمقراطية ببعدها الاجتماعي، بمعنى ضرورة توافق التدابير السياسية العامة مع إجراءات وتحولات وضمانات اجتماعية، تؤمن حقوق أغلبية الشعب في ثروات بلده.
في اعتقادي، أن هذا المفهوم (الديمقراطية ) لم يعد يقتصر على الشيوعيين والماركسيين حصرا، وإنما وصلت الامور، مع تطور البشرية وتبنيها مفاهيم أكثر إنسانية وأكثر انسجاماً مع القيم الاخلاقية العليا، قيم العدالة الاجتماعية، إلى حد تبني الأمم المتحدة وثيقة حقوق الإنسان، التي تربط ربطاً سليماً بين جوانب الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية.

الديمقراطية وما يطالها من تشويه

وليس خافياً علينا، أن مفهوم الديمقراطية واجه على مدى التاريخ الكثير من التشويه والتزييف. فكل الفئات التي تضررت مصالحها الطبقية جراء فكرة المشاركة وضمان الحقوق، تناصب الديمقراطية العداء. وهناك أيضاً من الطبقات والفئات الاجتماعية والأحزاب، من سعى ويسعى إلى استغلال الديمقراطية، في شكلياتها وفي جوهرها، لمصلحته ولمعالجة طبقية ذاتية. وحينما يستنفد الحاجة اليها وتصبح المشاركة عقبة أو عائقا، يحول دون تحقيق مصالحه الاجتماعية الطبقية السياسية، فانه يسعى إلى التضييق عليها وافراغها من محتواها، بل وحتى تخريب مؤسساتها.
الطبقة البرجوازية حينما قارعت الإقطاع، كانت تتبنى مفاهيم ديمقراطية واسعة، ولكن حينما أصبحت طبقة سائدة سعت إلى التضييق على الديمقراطية وتحجيمها والتضييق على مؤسساتها، رغبة في احتكار السلطة والتفرد بصنع القرار. ومن موقعها كمالك لوسائل الإنتاج ومتسيد سياسياً، سعت البرجوازية إلى استخدام كل ما توفر لها وتيسر من أموال ومن أجهزة بوليس وقوة تشريع، ووسائل اعلام ودعاية، لحرمان الشغيلة وأوسع الجماهير من فرص استثمار المؤسسات الديمقراطية في الدفاع عن حقوقها.
هذه الإشكالية تأخذ مدياتها بهذه الدرجة أو تلك، تبعاً لطبيعة السلطة الحاكمة وبرنامجها السياسي. فالبرجوازية التي جاءت بشعارات الحرية أو الديمقراطية، تخلى بعض ممثليها في بلدان معينة عن الديمقراطية، وأقاموا حكومات دكتاتورية فاشية وعنصرية ونازية ....الخ.
والأمر أكثر تعقيداً في الدول حديثة النمو، فهي ليست بمعزل عن العالم، وانما هي حلقة في السلسلة التي تتشكل منها المنظومة الرأسمالية العالمية. ولكن هذا لا ينفي خصوصياتها المرتبطة بمستوى تطورها الحضاري ومستوى الوعي والثقافة، وتوازن القوى الداخلية ونمط تفكير المتحكمين بشؤون البلد. وكل ذلك وغيره ينعكس على أسلوب وشكل ممارسة الديمقراطية في هذه البلدان. وهي في الاتجاه العام لا تستطيع التنصل من المستحقات العالمية، ومن تأثيرات موج الديمقراطية العالمي الطاغي. لكنها تسعى لتشويهها وكبحها والانتقاص منها بمختلف التدابير، ?للالتفاف على جوهرها وتفريغها من مضمونها. وهذا يضع أمام الشعوب مهمات ليست يسيرة، لإجلاء الحقيقة ومواجهة التحديات في ظروف اقل ما يقال عنها انها لم تستقر فيها تقاليد ديمقراطية راسخة بعد ، ولم تسن فيها تشريعات واضحة وراسخة، ولم تتعود الجماهير في ممارساتها على استحصال حقوقها عبر الوسائل الدستورية والقانونية الشرعية. وهذه الامور تعقد المسيرة نحو التطور والرقي.

الشيوعيون والديمقراطية

من ناحية المفاهيم، جرت حقاً في مفهوم الديمقراطية داخل الحركة الشيوعية المعاصرة، تبدلات وتغيرات كبيرة. فهي (الديمقراطية) ليست كما كانت في بدايات الحركة الشيوعية. والشيوعيون في المواقع المختلفة، فهموا الديمقراطية ومارسوها ارتباطا بالأجواء المحيطة بهم في فترات مختلفة .
ورغم أن الماركسية ديمقراطية في جوهرها وطبيعتها وأهدافها، إلا أن بعض الشيوعيين وفي مواقع مختلفة، تعامل معها بحساسية مفرطة أحيانا، وكما لو كانت تخص البرجوازية فقط. دون ادراك حقيقة أن الديمقراطية ظهرت في مسيرة البشرية قبل ظهور البرجوازية.
نعم، هناك من كان يفهم الديمقراطية خطأً باعتبارها نظاماً اقتصادياً اجتماعيا. لكنها ليست طبعا البديل عن الرأسمالية، وإنما الاشتراكية هي البديل المنشود. غير أن الديمقراطية، كما اشرنا ، تكتسب معانيها الحقيقة وأبعادها الفعلية بالارتباط مع النظام الاجتماعي الاقتصادي الذي تفعل وتُمارس في إطاره.
فالديمقراطية في زمن الرق كانت حكرا لمالكي العبيد؛ وفي زمن الإقطاع كانت محصورة بمالكي الاقنان، وفي الأنظمة البرجوازية وظفت لخدمة من يملكون وسائل الإنتاج والأموال. أما في الاشتراكية، فتكتسب الديمقراطية معانيها الواسعة جداً، لان البعدين الاجتماعي والسياسي يتطابقان فيها. ويمكن للمناضلين وذوي الأفكار التقدمية والنزعات الإنسانية أن يستفيدوا من الديمقراطية ويوظفوها، كمفاهيم وأخلاقيات ومؤسسات لخدمة نضالهم، ولتأمين حريتهم في المطالبة بحقوقهم.
إذن، ليس صحيحاً وضع الديمقراطية في مقابل الاشتراكية، لانها هي الوجه الثاني للاشتراكية. نعم، لم يكن صحيحاً أن توضع الديمقراطية في تناقض أو تعارض مع النضال من اجل الاشتراكية، بل كان من الصحيح أن تفهم باعتبارها وسيلة وأداة تخدم النضال من اجل الاشتراكية، وتستحق التطوير والتجذير والتعميق في إطار الاشتراكية، حيث تسقط الحواجز والموانع التي تضعها الطبقات الحاكمة المستبدة.
للأسف بعض حركاتنا لم يفهم الديمقراطية، و تعامل معها بجفاء أو بتشكيك، كما لو انها بدعة رأسمالية أو أطروحة برجوازية، تتنافى مع قيم ومبادئ الاشتراكية.

الشيوعي العراقي.. تجسيد للديمقراطية

عمل الحزب الشيوعي مبكراً وسعى لتجسيد فهمه للديمقراطية. وفي الوثائق الأولى والإرهاصات المبكرة للحزب، كانت هناك دعوة صريحة وواضحة لتبني الديمقراطية في إطار الدولة العراقية، سواء كان ذلك عبر المطالبة بالدستور، أو ببناء مؤسسات تشريعية، أو باجراء انتخابات، أو باحترام الحريات والحقوق لتأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيات، وحماية وتحقيق الحقوق القومية والسياسية والثقافية. فهذه كلها تجليات ملموسة للديمقراطية، كان الحزب مبادراً وناشطاً لتحقيقها.
لكن النزوع نحو الديمقراطية، كان يصطدم ببعض التشوش الفكري لدى البعض، الذي يقول ان بديلنا هو ديكتاتورية البروليتاريا، لأننا نتوجه لبناء الاشتراكية. علماً ان مؤسسي الاشتراكية العلمية لم يضعوا الديمقراطية في تناقض مع دكتاتورية البروليتاريا. بل ان العودة الى ماركس وانجلس ولينين تبين أنهم كانوا يفهمون سلطة الطبقة العاملة، او حكم الشغيلة (دكتاتورية البروليتاريا)* على أنها أرقى أشكال الديمقراطية، أي هي الديمقراطية الأوسع، لأنها تمثل المصالح الجذرية لأوسع السكان كما اشرنا. وليست أساليب قسرية وأستبدادية، كما مارسها خطأ بعض متبنيها أو كما تصورها البعض، مشوهين بذلك معانيها كمقولة تاريخية تطلبتها ظروف محددة وتوازن قوى موضوعية، تمارسها البشرية في مسار تطورها.
لكن وللأسف جرى خلال ممارسة بناء التجربة الاشتراكية، وخصوصاً في عهود الجمود العقائدي وعبادة الفرد وسيادة النزعة الاوامرية البيروقراطية، التضييق على الديمقراطية ومؤسساتها، بل وعلى حق حتى المعنيين ببناء الاشتراكية في أن يساهموا بصنع القرارات، وان يتخذوا الإجراءات المناسبة لحماية وبناء وتطوير الاشتراكية.
وكانت لهذا التوجه آثاره السيئة ونتائجه الوخيمة، ويمكننا ان نعتبره سبباً رئيسياً في انهيار المنظومة الاشتراكية في بعض بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي. نعم، وكان للصراعات الفكرية الداخلية في إطار الأحزاب الشيوعية، وفي إطار الحركة الشيوعية عموماً، وفي البلدان الاشتراكية بوجه الخصوص، انعكاساتها وتأثيراتها السلبية على عموم الحركة.
مع ذلك اعتقد ان النهج الرسمي العام للحزب الشيوعي العراقي ، رغم ما لهذه الحالة المؤشرة اعلاه من تأثيرات سلبية، لم يخل من إصرار على الديمقراطية، وعلى تبني منظومة مفاهيم وتشريعات ومؤسسات ديمقراطية، حتى في إطار النظم السابقة التي حكمت العراق.
لهذا ليس غريباً او مستغرباً ان الشيوعيين كانوا يعتبرون "الديمقراطيين" في الوعي الشعبي ويسمون كذلك - زهواً أو عن قناعة أو حذراً أو تجنباً للعقوبات القانونية الموجهة ضدهم. وإلى فترة قريبة من الزمن، حينما يكون المرء ديمقراطيا يتصور الناس أنه شيوعي. وهذا يعكس عمق السلوك والتصرف والمواقف الديمقراطية للشيوعيين، ومدى قناعة الشعب بأن الشيوعيين ديمقراطيون، وأنهم ليسوا أصحاب نزعة دكتاتورية أو تسلطية أو احتكارية.
نعم، كانت الديمقراطية احد الشعارات الأساسية للحزب رغم ما عاناه داخلياً أحيانا، بسبب ما سبق ذكره من تصرفات لاديمقراطية ، ومن نزعات فردية تسلطية أو أوامرية، كما حصل في بدايات الخمسينيات بعد خسارة الحزب لمؤسسه الأول الرفيق الخالد فهد، وتسنم مجموعة من الشباب ضعيفي الوعي والثقافة في ذلك الوقت، قيادة الحزب. فحمّلوه بممارساتهم الكثير من العواقب غير السليمة، التي اضطرته في فترة لاحقة، الى بذل الجهد وخوض النضال المثابر لمعالجتها.
وقد سعى الحزب في بنائه الداخلي الى تطوير الممارسة الديمقراطية، والانطلاق من الرغبة في تبني مفهوم القيادة الجماعية، ليس فقط تحت تأثير ما أنتجه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفيتي، بعد التخلص من هيمنة العقلية البيروقراطية الجامدة عقائدياً، وإنما انطلاقا من الحاجات الداخلية ايضا. فالحزب المناضل الذي يبني كيانه على أساس القناعة والإيثار والتضحية بالنفس، لا يمكن أن يستقيم وضعه إلا بإيجاد أشكال من المشاركة، تتيح لاعضائه التعبير عن آرائهم. وإلا فان عمله سيعاني العسر وعدم الوضوح، بل وعدم ضمان قناعة منتسبيه بممارساته وسياسته.
وهكذا جاءت وثائق الكونفرس الثاني للحزب معبرة بصدق عن رغبة الشيوعيين العراقيين في ان يرسخوا قواعد الديمقراطية. لكن هذه المفاهيم والممارسات كانت تصطدم بعامل موضوعي يفوق طاقة الحزب، ألا وهو وجود النظام القمعي الرجعي (النظام الملكي)، الذي لم يكن يتعامل مع الشيوعية (شأن اي فكر تحرري) باحترام، ولا يسمح لها بالنشاط، بل ويطبق ضدها ما سمي قانون "مكافحة الشيوعية". نعم، كان هناك ظرف موضوعي حال دون تمكن الشيوعيين من ممارسة نشاطهم بحرية، سواء في الشارع مع الناس، أو مع الاحزاب الاخرى، أو مع قضايا السياسة العامة، او داخل حزبهم. فهذا العامل كان يحول دون انطلاق الحزب في ممارسة الفعاليات الداخلية الديمقراطية، ويحد من امكانية التشاور الجماعي وعقد المؤتمرات والموسعات، ومن امكانية انتخاب الهيئات القيادية، خشيةَ تسلل عناصر الاجهزة القمعية داخل التنظيم، وخوفا من توجيه ضربات قاتلة للتنظيم الحزبي في حال انكشافه، او ممارسته نشاطات تعرضه للانكشاف.
لكن هذا لا يعفينا من الاشارة الى ان آثار النهج الستاليني، رغم ان سنة 1956 كانت سنة اعلان الخلاص منها، بقيت متغلغلة في الثقافة والممارسة الحزبيتين. نعم، وهناك في هذا الخصوص ما انتقده الحزب في وثائقه: ففي لحظات تاريخية معينة كان يمكن ممارسة اشكال معينة من الديمقراطية، من شأنها ان تحسم قضايا كيان الحزب ووحدته وشرعيه هيآته، مثل عقد المؤتمرات. فالمؤتمر الأول للحزب انعقد في العام 1945، والمؤتمر الثاني في 1970، فهناك فترة طويلة مرت بين المؤتمرين. وقد حصل هذا بسبب ظروف السرية وصعوبة العمل. اما حين تتوفر الفرصة والاجواء المناسبة، فلا بد من اعتماد الممارسات الديمقراطية وآلياتها.
نعم، الحياة تتقدم، والمفاهيم تتغير. وفي الممارسة ايضا، والتي نريد لها ان تكون مجدية ومثمرة ونافعة، لا بد من تطوير الآليات والادوات، التي يتعامل بها الحزب في نشاطاته اليومية وفي نشاطه العام وفي علاقاته.
لقد تغيرت أوضاع العراق كثيراً، وتغيرت الأوضاع في العالم كذلك، واصبح الفكر الديمقراطي والنزعة الديمقراطية وثيقي الارتباط مع النزعة الانسانية. وتطور وعي الشعوب في توظيف الديمقراطية (كمفاهيم، ومؤسسات، واخلاقيات) لصالح المشاركة الاوسع للجماهير. وكل ذلك ألقى بظلاله على العراق ودول المنطقة عموماً، خصوصاً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في اوربا الشرقية وفي الاتحاد السوفيتي.

مواقف الحزب بعد انقلاب 1963

لا بد من وقفة هنا، لفهم مواقف الحزب الشيوعي العراقي وسياساته في الفترة التي اعقبت انقلاب شباط 1963. فقد كان الحزب يتعامل مع منتجات الانقلاب الفاشي المشؤوم بفكر واضح: مقابل المنظومة الفاشية الدكتاتورية العسكرية، رفعنا شعار الديمقراطية والحكم الديمقراطي. رفعناه كبديل لحكم العسكر، ولحكم الحزب الواحد.
وبعد عام 1968، وارتباطاً بجملة الظروف المحيطة بالحزب، الذي كان مثخنا بالجراح، ويعاني اشد المعاناة من سنوات القمع والارهاب، وبتأثيرالاجواء السائدة في المنطقة ايضا وفي السياسة العالمية، وفي المفاهيم المعتمدة في الحركة الشيوعية، توجهنا للتحالف مع حزب البعث. وجاء ذلك من منطلق الرغبة في استثمار ما اعلنه البعثيون من توبة بعد انقلاب 1963، وما أبدوه من استعداد لفتح صفحة جديدة ولبناء العراق وتخليصه من التبعية، وتأمين حياة افضل للشعب، ومن رغبة في المصالحة مع القوى الديمقراطية وتصفية آثار الماضي، عبر تسوية قضايا المفصولين والسجناء السياسيين والشهداء والعسكريين، وبعد تعهد النظام بانتهاج سياسة خارجية وعلاقات جديدة مع المعسكر الاشتراكي.
تجاوبا مع هذه التطورات والتحولات جميعا، تبنى الحزب تدريجياً فكرة التحالف مع حزب البعث والمشاركة في الحكومة بوزيرين. لكن الوضع الشائك والمعقد الذي نشأ في اعقاب ذلك، كان يقتضي حذرا من جانبنا ونهجاً اكثر براعة واكثر دقة في ادارة شؤون التحالف؛ ونحن نفهم ان التحالف - فضلاً عن كونه حاجة موضوعية - هو فن من فنون ادارة العلاقات.
نعم، انطلقنا من الحقيقة الموضوعية بموقف سليم يسعى إلى تجميع كل الطاقات، من اجل وضع البلد على الطريق السليم للتطور المتصاعد، الذي يؤمّن استقلال العراق وحرية شعبه ورفاه ابنائه. لكن البقاء في دائرة هذا الموقف لم يكن كافيا، وانما كان لا بد لنا كي نحقق مسعانا، من مجموعة تكتيكات وتوجهات وسياسات تفصيلية، واتقان لفن ادارة التحالف.
فلا يمكن لعملية بناء ان تصل الى مراميها الحقيقية الفعلية، الا عبر ادارة تؤمّن مشاركة الشعب، ومشاركة كل الاطرف المعنية. بمعنى انه من دون الديمقراطية، من دون تأمين مشاركة المتحالفين في صنع القرار، وفي حال الابقاء على احتكار السلطة وعلى تفرد القائد، تعطل عملية البناء، وتوضع الغام في طريق تحقيق ما نهدف له من تطوير وتغيير في الواقع الاجتماعي. مع الأقرار بطبيعة البعث الصدامي الاستبدادية ونزعة الغدر والنفاق المتأصلة في نظامه.
إزاء ذلك، جرت نقاشات في حينها، بعض منها ذو طابع تبريري، والبعض الأخر ذو طابع مفاهيمي خاطئ. فكان هناك من يستصغر شأن الديمقراطية، ويشدد على الديمقراطية الاجتماعية ويستهين بالديمقراطية السياسية. كان هذا الرأي يرى أن الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية هي المطلوبة، لأن الشغيلة تعاني من الحاجة الى العمل وتأمين المعيشة. وكأن تحقيق هذا الهدف الاقتصادي الاجتماعي، ليست له علاقة بالنظام السياسي. واكيد ان هذا الرأي، يعكس شكلا خاطئا من اشكال التعامل مع مفهوم الديمقراطية.
وكان هناك من يعتبر الديمقراطية السياسية قضية يمكن تأجيلها، ويمكن ان تتحقق مع مرور الزمن تلقائياً، من خلال تكرم الحكام بالتخلي عن مفاهيمهم وقناعاتهم المعادية للديمقراطية السياسية، لصالح نهج جديد ديمقراطي. ومؤكد أن أصحاب هذا الرأي وقعوا في خطأ فادح. فالحياة اثبتت ان من الصعب جدا ان يتحول الحاكم المهيمن على السلطة إلى ديمقراطي.
ولكن لا بد من التأكيد ان النقاش الحزبي الداخلي، اشر في حينه، وجود رأي قوي يقول ان الديمقراطية الاجتماعية غير كافية، وانها من دون الديمقراطية السياسية غير محصنة وقابلة للانتقاص. فالديمقراطية السياسية لصيق وملازم وضامن للتحولات الاجتماعية والسياسية الوطنية. وهذا ما أثبتته تجربتنا العراقية.
فحينما غابت الديمقراطية، لم يتورع المستبدون من حكام البعث الدكتاتوريين الفاشيين، عن التخلي عن كل المكاسب المحدودة التي تحققت آنذاك، وعن زج البلد في الحروب، وعن مصادرة كل الحريات وحقوق الانسان في البلد.
نعم، كانت قضية الديمقراطية دائماً بالنسبة لنا مطروحة للنقاش، ولهذا نستطيع القول ان ما نستنتجه أو نتبناه من مفاهيم واحكام حول الديمقراطية، سواء تعلقت بالاوضاع العامة او بالاوضاع الحزبية الخاصة، هي مفاهيم اصيلة، ناتجة عن وعي وقناعة تشكلا في ضوء دراسة تجربتنا المرة والمعقدة، طويلة الامد، سواء في مسار الحركة الشيوعية او تجربة الحزب الشيوعي العراقي الخاصة.

ـــــــــــــــــــــــــــ
* ويقصد بها في المفهوم النظري الفلسفي حكم الطبقة العاملة، على أعتبار أن حكم نظام سياسي معين هو ديكتاتورية لطبقة سائدة، على امتداد المجتمعات الطبقية التي شهدتها البشرية في تاريخها الطويل. فهي تعني هيمنة وسيادة وتحكم الطبقة المسيطرة على دفة إدارة البلد المعني والمجتمع.