من الحزب

الرفيق حميد مجيد موسى في حوار شامل مع " طريق الشعب"عشية الذكرى الثمانين لتأسيس الحزب

محطات من حياته وحياة الحزب ورؤيته للوضع الراهن.. رهاننا الأساسي على جماهير شعبنا / حاوره: ابراهيم الحريري

كان قد مضى وقت طويل منذ رأيت فيه الرفيق حميد مجيد آخر مرة، عشر سنوات تقريباً، وكان مضى وقت أطول منذ ان تأسس الحزب، ثمانون عاماً إلا قليلا، ووقت آخر منذ ان التحق ابو داود بالحزب عام 1958، رغم ان علاقته بالحزب بدأت قبل ذلك، عبر مشاركته في نشاطات طلابية واحتفالية، كانت تنظمها منظمة الحزب في الحلة، قبل ثورة تموز، وكانت، أيضا، قد مرت عشرون عاماً منذ تولى ابو داود سكرتارية اللجنة المركزية للحزب، بعد المؤتمر الخامس الذي انعقد عام 1993 (أجري هذا الحديث عشية عام 2014).
كانت مناسبة لاستعراض –من ضمن قضايا أخرى- تجربة ابو داود الحزبية.. وسيلاحظ القارئ، اني حرصت، شأني في اكثر المقابلات التي اجريتها، خصوصاً مع قادة في الحزب اني حرصت ان استجلي، قدر الامكان جوانب من تاريخهم، من شخصيتهم، حتى من هواجسهم، ذلك انهم في النهاية، بشر، لهم نقاط ضعفهم وقوتهم، انجازاتهم وهفواتهم، همومهم، بما فيها الشخصي وطموحاتهم، شرط ان يوضع، كل ذلك، في اطاره التاريخي، في اطار الوعي، الشخصي والجمعي والمجتمعي، ذلك انهم في النهاية، بشر، نتاج زمن معين ووعي معين.
واذ يجري تقديم كل ذلك واستعراضه، فلكي تفيد من هذه التجربة، الاجيال الجديدة من الشيوعيات والشيوعيين، لكي تتعلم هذه الاجيال ان تقف من نفسها ومن غيرها، موقف النقد، الواعي، المسؤول بما يعزز تجربة المناضل ويغنيها وبالتالي، الحزب ذاته.

صعب القول اني راضٍ

وكان السؤال: هل أنت راضٍ عما حققته؟
ابو داود: صعب ان اقول انني راضٍ عما حققته، فهذا مخالف لقناعاتي الشخصية، فضلا عن انه مخالف لموقف الشيوعي من نفسه ومن نشاطه. كالشيوعيين العراقيين، وأنا من بينهم، تقودنا قيم, احاسيس واهداف، كنا نطمح ان تتحقق لشعبنا وكادحي وطننا افضل الاوضاع واحسن الاجواء ومستوى معاشي لائق، وأمان واستقرار وسلام ومستوى ثقافي متطور، لكن للاسف الشديد، لم تتحقق هذه الاهداف، انخرطت في النشاط السياسي ثم العمل الحزبي، أنا واخوتي واصدقائي في وقت قبل ثورة 14 تموز، قبل انتمائي للحزب، وقد تعززت قناعاتي وتبلورت تصوراتي حين انخرطت في صفوف الحزب ونلنا شرف العضوية في صفوفه.
كنا، اذن، نطمح ان تتحقق هذه الاهداف باسرع مما توقعناه، وكنا نعتقد ان ثمة الكثير من المقومات والمستلزمات والعوامل التي تساعد على ان تتغير الحياة في مجتمعنا وحياة ابناء شعبنا نحو الاحسن. لكن، للأسف، لم يتحقق ذلك.
لم نصب بخيبة امل بسبب ذلك، لكننا ادركنا ان الطريق اكثر وعورة، وان توفر هذه المستلزمات الكثيرة، المادية والبشرية والثقافية، فضلا عن التطور التاريخي، ان كل هذه العوامل بقدر ما كانت تدعو للتفاؤل في تحقيق انجازات وتقدم اكبر لوطننا ولشعبنا، فأنها كانت تستثير، بالقدر نفسه، عوامل اعاقة وعرقلة وتخريب كثيرة وكبيرة بالمقابل.
لقد عانى العراق والعراقيون الكثير من شرور التآمر والتخريب والدسائس والتدخلات الخارجية، الدولية والاقليمية. الامر الذي عقد المسيرة وأربك عملية التقدم وحصلت ارتدادات دموية رهيبة في المسار.
كل ذلك جعل امكانيات تحقيق ما كنا نصبو اليه اصعب.
نحن اليوم، وفي محطة تاريخية من حياة حزبنا، وحينما اطل على المسيرة الطويلة لعملي الحزبي والسياسي التي تزيد على الخمسين عاما، اجدها مسيرة في غاية التعقيد والصعوبة، وللأسف لم تتحقق الكثير من طموحاتنا، وهذا ما يستلزم بذل الكثير من الجهود وتقديم الكثير، ليس على المستوى الشخصي فقط، وانما بالتعاون مع رفاقي وبالتعاون مع الخيرين من ابناء شعبنا وشبابنا الناهض الواعد الذي ينخرط بحماس في الحياة السياسية، ان نواصل مسيرة الحزب لتحقيق هذه الطموحات.
نحن متفائلون، فتلك هي سنة التاريخ، فما هو سيئ الى زوال، ولن يدوم الا ما هو نزيه ومتقدم الذي ينسجم مع مطامح ومصالح شعبنا.

لست نادماً فقد تعلمت في مدرسة الحزب

يستطرد الحديث عما هو شخصي، ويتناول، في هذا السياق، محطات أخرى في مسيرة ابو داود، فما هو الأمر الذي كان بامكانه ان يحققه، وهو نادم لانه لم تتح له فرصة تحقيقه، وهل هو نادم على ذلك؟
ابو داود: تظهر في مسيرة الشيوعي، وهو بشر، فترات معينة، الكثير من الرغبات والامنيات، خصوصا من شاب حيوي، لكنه يتخلى، أحياناً، عن الكثير من الرغبات. فأنا، مثلا، كنت أكثر ميلا الى الدراسة والتحصيل العلمي ومواصلتهما. لكني كلما كنت احاول ان اواصل وانا املك المؤهلات لذلك، على المستوى الدراسي والعلمي، كانت تصادفني بعض العقبات.
من بين ما حاولت ان انجزه، ولعله اوله، ان اكمل دراستي العليا، لكن شعار "التقدم العلمي والعودة الى الوطن" (وهو الشعار الذي تبنته المنظمات الحزبية الشيوعية في بلدان الدراسة) كان هذا الشعار سببا وجيهاً ومقنعا لي، في ترك الدراسة – كنت قد قبلت على دراسة الدكتوراه- بعد ان انجزت الخطوات الاولية لذلك. فعدت الى الوطن، لامارس النشاط الحزبي واعيش حياة الاختفاء، ومن ثم الاعتقال، وما يرتبط بذلك من تعذيب الى غير ذلك. حتى اطلق سراحي.
كنت اذن ميالا لمواصلة الدراسة، لكن برزت الحاجة الى اعادة بناء الحزب خصوصا بعد انقلاب 17 تموز 1968، وكان الحزب يعاني من جراح اليمة.
اتيحت لي عام 1972 فرصة مواصلة الدراسة، لكنني اصررت على البقاء، فلم تكن الظروف آنذاك، تسمح لي ان اقدم طموحي الشخصي على المساهمة في اعادة بناء الحزب، فرفضت العروض التي قدمت لي بهذا الصدد.
واصلت عملي الحزبي حتى حصل ما حصل عام 1978، فحين اعتقلت زوجتي وتعرضت للفصل من العمل والاعتقال والمحاكمات، اتخذ الرفاق (في قيادة الحزب) عام 1978 بعد اعتقال زوجتي، اتخذوا قرارا بمغادرتي العراق، لانهم توصلوا الى استنتاج ان المضايقات التي تتعرض لها زوجتي هي جزء من محاولات الضغط عليّ. وعلى هذا الاساس طلبوا مني المغادرة والالتحاق بأكاديمية العلوم السوفيتية.
نفذت ذلك القرار، باعتباره تكليفا حزبيا، من ناحية، وهو، من الجهة الاخرى، يلتقي مع طموحاتي الشخصية.
لكن الأمر كان يتطلب مني المغادرة الى بلغاريا اولا، حتى اتبلغ رسميا من الاكاديمية السوفيتية بقبولي طالبا للدكتوراه.
خلال انتظاري في صوفيا، حصل ما حصل من تردٍ للوضع السياسي في العراق، وتعرض الحزب، قيادة وكوادر واعضاء، لحملة تصفية شرسة فانخرطت من موقعي في العمل لمواجهة نتائج هذه الحملة، خصوصا بعد ان تدفق مئات الهاربين من البطش الى بلغاريا.
سجلت لاكمال دراستي في اكاديمية العلوم الاجتماعية في صوفيا، وانجزت المرحلة الاولى بتفوق، وأنا امارس نشاطي الحزبي في الوقت نفسه.
لكن ظهرت الحاجة لانتقالي الى براغ لتولي مهمة قيادة منظمات الحزب في الخارج، وهكذا اضطررت، مرة أخرى، لترك الدراسة لكني لم اتخل عن طموحي لاكمال الدراسة، وبدأت اهيئ لذلك، بعد ان انجزت المرحلة الاولى لنيل الدكتوراه.
خلال ذلك جرى تكليفي بتمثيل الحزب في هيئة تحرير مجلة قضايا السلم والاشتراكية (الوقت) اضافة الى القيام بمهامي الحزبية.
وهكذا تكاثرت عليّ المهام والواجبات، خصوصاً بعد التحاقي بهيئة تحرير مجلة القضايا. لكني لم ايأس من تحقيق طموحي العلمي.
لكنه كان عليّ، عام 1984، ان اخلي مكاني لرفيق آخر وان اسافر الى كردستان للالتحاق بحركة الانصار والمساهمة في نشاط الحزب من اجل اعادة بناء الحزب.
فتقدم العمر وضاع الوقت، بينما كنت اتعلم في مدرسة الحزب، وأنا غير نادم، فأنا لم اترك الدرس والدراسة، رغم انني لم اكن احضر لأي امتحان، لكن امتحان الحياة اعقد واصعب، كان يتطلب مني المتابعة، وتعميق معارفي، بشؤون الفكر والسياسة والاقتصاد فضلا عن الاحوال المحلية والعالمية، وهكذا كان لدينا ما يشغلنا في امور المتابعات والبحث والدراسة والكتابة عن الكثير من الأمور.
اذن، وفيما يتعلق بالاجابة على السؤال، فلقد كنت ارغب في مواصلة الدراسة والتحصيل العلمي، لكنني واجهت مهمات اكثر اهمية من حيث المسؤولية الحزبية والوطنية شغلتني، كما قلت، عن مواصلة التحصيل العلمي، واؤكد مرة أخرى، انني لست نادماً فما تعلمته في مدرسة الحزب والحياة ليس قليلا، بل اضاف لي الكثير. فحتى عندما عملت، لاحقاً في شركة النفط الوطنية، كباحث اقتصادي، وقبل تفرغي للعمل الحزبي، كنت ادير بنجاح مجموعة بحث كان اغلب اعضائها من حملة شهادة الدكتوراه، ولم يكن ذلك يمثل عقدة لي ولا لهم، نجاح امتد منذ عام 1971 وحتى 1978.

مكاشفة الذات

ترى هل في حياة ابو داود، السياسية والحزبية، قرار او موقف اتخذه وهو، الان، نادم عليه؟
ابو داود: هذا سؤال مفاجئ: لا استطيع القول انني اتخذت قرارات لم اندم عليها، لكنها ليست من تلك القرارات ذات الطابع المصيري. اشعر احياناً، وانا منغمر في عمل حزبي متواصل ومكثف خلال السنوات الخمسين الماضية من عمري السياسي والحزبي، اشعر انه لو كان هذا الموقف او ذاك انسجاما مع طبيعتي الشخصية، اكثر مرونة، كان يمكن ان يكون أجدى وانفع، بمعنى انه كان حاداً، لم تكن تستدعي الضرورة هكذا موقف حاد.
لا اريد ان ابرر، لكن لا يمكن اغفال ان ثقافتنا وطبيعة تربيتنا الحزبية المتشددة، املت عليّ بعض التصرفات التي قد لا تنسجم مع قناعاتي الداخلية وتربيتي الشخصية والعائلية، او حدسي ان هذا الموقف او ذاك القرار، لم يكن صحيحاً.
لا اخفي عليك، انني لم اكن في بعض المواقف، ودائما، مقتنعاً بما كان يراد مني، او ما يجري اتخاذه من قرارات. كنت انجح احياناً، في تغيير هذا الموقف او ذلك القرار، لكني، كنت في احيان أخرى انفذ ما يراد مني.
اشعر، الان، انه كان بامكاني، لو بذلت جهدا اكبر، ان اغير في طبيعة هذا القرار او ذاك، لكني لم افعل ذلك.

هل يتذكر ابو داود موقفاً او قرارا بالذات؟ هل بامكانه ايراد مثل؟
يضحك ابو داود ويرد: لم اكن متهيئا، في الاصل لمثل هذا السؤال فهو يتطلب مني استعراض حياتي الحزبية وهو ما لا يسمح به الموقف الآن. لكن، بامكاني القول، بل التأكيد ان من يدعي العصمة ويزعم انه لم يرتكب أي خطأ، او لم يتخذ أي قرار، اسف او ندم عليه فيما بعد، ان مثل هذا الشخص لم يولد بعد. وانا لا يمكنني ان أصدق أي شخص يدعي مثل هذه العصمة. لاحظ ان المرء لايولد كاملا، ولا يمكن ان يبلغ الكمال. ذلك ان الخبرة تكتسب، والمعرفة وتعميقها تتحقق من تفحص المرء، والسياسي الشيوعي خاصة- لاخطائه واخطاء الآخرين.
استطيع ان ازعم انني لم ارتكب اخطاء قاتلة او فادحة.
هذه هي سنة الحياة، قد يخطئ المرء، لكن الدرس البليغ الذي يمكن، بل يجب عليه ان يستخلصه، هو ان يعمد الى مكاشفة الذات، وان يعمل، بجد، على معالجة الخطأ والاستفادة من دروسه كي لا يتكرر الخطأ. سواء بحنا بذلك او لم نبح. عرفه الآخرون او لم يعرفوه.
(يدور حوار هنا بين المحاور وبين ابو داود حول دور التجربة والوعي، في تطور المعرفة، وبالتالي في اتخاذ القرارات الصحيحة وفي اكتشاف القرارات الخاطئة التي اتخذت في ظروف مختلفة، ويورد المحاور مثلا عن حوارات بينه وبين الراحل عامر عبدالله، كان المحاور يدفع بأن التاريخ هو ما تحقق فعلا وليس ما كان يجب ان يتحقق، اذ لو كان ما يجب ان يتحقق ممكن التحقق لكان تحقق، اما لماذا تحقق ما لم يكن يجب ان يتحقق ولم يتحقق ما كان يجب ان يتحقق، فهو ميدان البحث التاريخي. وبالتالي فان القرارات والمواقف المتخذة هي انعكاس لجدل وعي وتجربة الافراد والجماعات في اللحظة المعينة، الملموسة، وهو ما اتفق معه الرفيق ابو داود.
هل يعتبر هذا تبريرا؟ قد يعتبره البعض كذلك. لكن لعله اقرب لان يكون تفسيرا، توصيفا، ذلك ان تحليل اية حالة، اية ظاهرة يتطلب قبل كل شيء: توصيفها، بكل تعقيداتها وتشابكاتها).

القرار الصعب

ما هو اصعب قرار اتخذه ابو داود في حياته السياسية والحزبية، عانى صعوبة في اتخاذه، لكنه اتخذه في النهاية، لانه، حسب قناعته، كان لابد له من اتخاذه؟
ابو داود: أصدقك القول انني لم اجابه في حياتي ان افاجأ بمثل هكذا موقف. لكن القرارات الكثيرة التي يتخذها الانسان، تكلفه، احيانا، كثيرا.
انا مثلا، وبينما كنت امارس نشاطي السياسي والحزبي، اعتقلت، وعرفت ان الاعتقال حدث بسبب خيانة، فكان قراري الحازم والقاطع هو ان لا اضعف، اولا، وان لا اورط آخر، او آخرين بأي شكل من الاشكال.
برز امامي من كنت مختفياً في بيته، وهو مناضل قدم الكثير للحزب، فكيف اجنبه شر تطاول الاجهزة الأمنية وتعذيبها واحفظ كرامته وعائلته؟
كان عليّ ان انكر انني اعيش في هذا البيت، وان وجودي فيه ساعة القبض عليّ كان مروراً عابراً، بسبب علاقة قديمة مع العائلة, لكنني فوجئت بان صاحب الدار الذي كنت اسكنه، كان قد اعترف انه يستضيفني. ادركت ان ذلك حدث بسبب تعرضه للتعذيب.
ولقد واصلت الانكار حتى عندما جيء به ليؤكد امامي اعترافه، لكنني واصلت الانكار وقلت انه انما ادلى بما ادلى به تحت وطأة التعذيب.
كانت الاوضاع التي اعتقلت خلالها، وانا اتحدث عن عام 1970، اوضاعا استثنائية، من حيث وحشية الاجهزة الأمنية والانهيارات، بسبب تعريض المناضلين لتعذيب لم يستطع بعضهم تحمله.
ولقد تحملت، بسبب هذا الموقف، الكثير من الأذى، لكنني واجهت الجلادين. بل اشتبكت معهم. ولقد ساهم موقفي في تصليب مواقف العديدين.
كان قرارا صعبا، لكنني اتخذته، وتحملت نتائجه. وانا الآن، راضٍ بذلك.

اصعب الفترات...

تولى ابو داود سكرتارية اللجنة المركزية عقب المؤتمر الخامس للحزب عام 1993، فما هي خلال ذلك، أي خلال فترة قيادته، اصعب الفترات التي واجهها على الصعيدين، السياسي والحزبي؟
ابو داود: هذه الفترة عموما هي اصعب الفترات، ليس فقط على الحزب الشيوعي العراقي، بل على عموم الحركة الوطنية العراقية وعلى الاحزاب الشيوعية في العالم باسره.
لكن مشكلتنا في العراق، كانت اعقد، ولعلها ما تزال، ففي الوقت الذي كنا نتصدى فيه لافرازات انهيار الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية في اوربا الشرقية. فلقد كنا نواجه اعتى دكتاتورية وبامكانيات حزبية غاية في الشحة. ولك، ان تتصور مدى صعوبة ما كنا نواجهه وتعقيده. فكيف يمكن مواجهة كل هذه العوامل السلبية لابقاء الحزب حياً، مؤثراً، ذا دور ملموس وملحوظ في ساحة الكفاح ضد الدكتاتورية ومن اجل الديمقراطية وحقوق الانسان؟
كانت المهمة صعبة حقاً. كانت مهمة الحفاظ على وحدة الحزب اشق المهمات. كانت كل الظروف ملائمة للتنافر ولاحداث شروخ في وحدة الحزب.
كانت مهمة اعادة بناء منظمات الحزب في هذه الظروف، المهمة الثانية الاعقد، فضلا عن الحفاظ على التوجه الفكري السليم والتعاطي المنطقي العلمي مع ما جرى من تغيرات وللحفاظ على تماسك ووحدة الشيوعيين العراقيين.
كانت اعادة بناء منظمات الحزب، اذن، في غاية الصعوبة والتعقيد، والاكثر من كل ذلك، في غاية الخطورة ايضا، خصوصاً اننا كنا نواجه جهازاً امنياً متمرساً، مقتدرا ويملك الكثير من المعلومات والكثير من الوسائل.
لكنني استطيع القول اننا نجحنا في الحفاظ على وحدة الحزب وتماسكه؛ في ان يبقى الحزب قوة سياسية رئيسية، بين القوى المناضلة ضد الدكتاتورية، وان يقيم علاقات تحالف واحترام متبادل وعمل مشترك مع كل القوى الوطنية والديمقراطية المعارضة للدكتاتورية.
خلال ذلك كنا نعيد بناء منظماتنا، ولو بثمن غالٍ وخسائر ليست قليلة، واحيانا مفزعة، لكننا دفعنا الثمن، وبقي الحزب سالما، ورايته خفاقة، وفرص ومستلزمات التعافي موجودة، ويمكنني القول ان ممكنات التطور اللاحق واعدة.
كان علينا، ونحن نواجه كل هذه الظروف، ان نعيد بناء الحزب وخلال ذلك، ان ندقق ونغني ونصحح توجهاتنا. فاعتنقنا في سبيل ذلك نهج الديمقراطية والتجديد في المؤتمر الوطني الخامس.
واكيد ان ما تمخض عنه المؤتمر الخامس، لم يتم بمعزل عما سبقه من تحضيرات ومن نشاطات، واذ اؤكد ذلك، فلكي لا يبدو وكأن المؤتمر الخامس وما اسفر عنه، وكأنه انقلاب، منقطع الجذور، عمّا تراكم في الحزب من اسس ومقدمات، لكن كان علينا تلخيص هذه المقدمات وجمعها في اطار واحد، لنعيد النظر بما تقادم من مفاهيم، وان ندقق العديد من المقولات الفكرية، وان نغني تصوراتنا المستجدة وما فرضته الحياة والعصر من تطورات في حركة الواقع.
كل ذلك، من أجل ان نعيد للحزب حيويته وديناميته، بكل ما يتطلبه ذلك من اعادة نظرٍ في برنامجنا السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي- الثقافي.
وهذا يعني اعداد برنامج اكثر تفهما، أكثر التصاقاً بحركة الواقع، أكثر استجابة للتغيرات التي شهدها العراق والمنطقة والعالم.
وكان هذا يتطلب ان تتكرس النزعة الجديدة في نظامنا الداخلي. وكان علينا ان ندقق وان نعيد صياغة النظام الداخلي بروح اشاعة الديمقراطية، والقيادة الجماعية والابتعاد عن المركزية - البيروقراطية، واتاحة الفرصة لممارسة منظماتنا لاستقلاليتها، في تلك الظروف العصيبة وزيادة صلاحياتها ومعالجة الخصوصيات التي واجهها العراق على صعيد القضية القومية وتبلور اقليم كردستان وبالتالي انشاء الحزب الشيوعي الكردستاني.
كثيرة الامور التي واجهتنا وهي مصيرية بالنسبة للحزب الشيوعي العراقي. واعتقد اننا وصلنا بالحزب الى شاطئ السلامة الذي يمكنه ان يواصل مسيرته باقتدار وامكانية على النهج ذاته، نهج الديمقراطية والتجديد، فنحن ارسينا في الحزب هذه السنّة بالفهم الماركسي الصحيح لما للديمقراطية من أهمية كضرورة حتمية لنشاط الشيوعيين الداخلي، هذا اولا، وثانيا لتأمين مشاركة الرفاق ومشاركة الجماهير في صنع القرارات المهمة وفي ترسيخ مبدأ القيادة الجماعية الذي نعتز به من خلال ما قمنا به من مؤتمرات منتظمة. واجتماعات منتظمة لقيادة الحزب واشاعة تقليد عقد الكونفرنسات والموسعات والاستفتاءات في حياة الحزب الداخلية، هذا فضلا عن ترسيخ اجراء الانتخابات بدءا من الحلقات الاساسية وحتى القيادة.
نعتقد ان هذا اشاع في الحزب روح التآزر اكثر من النزعة البيروقراطية او الاوامرية التي عانينا منها، احيانا، واعتمدناها بدون مبرر في بعض الاحيان ما الحق الأذى بالحزب وبنشاطه.
مع هذا وذاك فاننا نعتقد ان التجديد هو سمة اساسية في حياة الشيوعيين، اذ ليس من الشيوعية والماركسية بشيء الجمود العقائدي والركود والتحجر. ذلك انه اذا اراد المرء، وهذا ينطبق ايضا على الجماعات ، احزابا ومنظمات وحركات ومجتمعات بالقدر نفسه، اذا كنت تريد ان تبقى حياً، دينامياً متفاعلاً، لابد ان تواكب مجريات ومتطلبات الحياة والعصر وما يفرضه ذلك على الشيوعيين من تغيير وتعديل وتطوير لاساليب وآليات نشاطهم ونمط تعاملهم وطبيعة خطابهم السياسي.
هذا الذي نفتخر باننا وضعنا أسسه، ونعمل على ترسيخها وإدامة فعلها في حياتنا الحزبية القادمة.

التجديد عملية صراع متواصلة

هل تحقق ذلك بدون عقبات، مقاومة، مصاعب؟
ابو داود: كلا.. لقد تطلب تحقيق كل ما اشرت اليه، منذ اليوم الاول، خوض معركة حقيقية، ضد منهجين متعارضين، بشكل كامل، مع من هو منشد للفكر والاساليب والممارسات والتقاليد القديمة ومع من انهارت لديه القيم، كل القيم، ويريد ان يتصرف بعدمية، ويفهم التجديد باعتباره انقلابا، قطيعة، حتى على ما هو ثمين وأساسي في حياة الشيوعيين.
كانت هذه المرحلة، مرحلة عصيبة جدا، شهدت صراعا فكريا حقيقيا، داخل الحزب وحوله، وتشكلت "منابر" لا اقول منظمات واحزاب.
لم يشهد الحزب -رغم التجاذبات العديدة على كل صعيد –انشقاقا حقيقيا يعتدُّ به، كنا نتعامل مع هذه الظاهرات باعتبارها افرازاً موضوعياً لعملية التغيير، بروح الديمقراطية والتجديد بما تتطلبه من صبر واناة وطول النفس والنقاش والحوار العميق، على كل المستويات لاقناع العديد، وبينهم مناضلون جيدون قدموا تضحيات لا تقدر بثمن من اجل الحزب وقضية الشعب والوطن لاقناعهم بضرورة اعتماد منهج التجديد والتغيير.
لهذا كنا نخوض هذا الصراع الفكري المتواصل، بروح علمية وحزبية سليمة للوصول الى قناعات تخدم ما تبنيناه من خط نعتبره صحيحا وسليماً يخدم التطور اللاحق للحزب.
هذا الصراع لم ينته، سيبقى صراعا قائماً، لكن بتجليات واشكال تختلف من حيث الحدة، ومن حيث الشكل، عما شهدناه في البدايات الاولى من عملية التغيير، لكننا قادرون على التعاطي مع ما قد يستجد على هذا الصعيد، لسنا مذعورين من الصراع الفكري، حول القضايا النظرية او القضايا السياسية.
ذلك ان حياة الحزب الداخلية لا تتطور ولا تغتني الا بالحوار المبدئي السليم.
نحن لا يمكن ان نستسلم لمقولة نهائية، فالحياة غنية بالمعطيات الجديدة وزاخرة باكتشافاتها، وهذا يتطلب منا ان ندقق، دائما، فيما كان يعتبر من المسلمات، لكن ضمن ما نسميه بتنظيم الصراع الفكري بعيدا عن الفوضى والمهاترات وما يعكر الاجواء السليمة لمثل هذا الصراع.

الفترة السياسية المتصلة، الاصعب

هذا على صعيد الحزب والحياة الحزبية، ولكن ماذا على الصعيد السياسي؟ قبل السقوط كان كل شيء واضحاً: نظام دكتاتوري يسعى الجميع لاسقاطه. ثم جاء السقوط. ونشأ وضع معقد، الا يعتقد ابو داود ان الوضع الجديد الناشئ –آنذاك- كان اصعب الاوقات التي مرت على الحزب طيلة حياته؟
ابو داود: لولا ما اعتمدناه وما قمنا به من تطوير وانضاج وترسيخ مفاهيم وتقاليد قبل التغيير لكانت مهمتنا اصعب. لكن الاجواء الرحبة التي اعتمدناها على صعيد الحزب وقيادته وكادره في التعامل مع معطيات الواقع والتطورات السياسية، وكنا واجهنا قضايا اشكالية صعبة اخرى قبل سقوط النظام مثل اشكال الكفاح والكفاح المسلح, والحصار الاقتصادي وقضايا كثيرة، على الصعيد التنظيمي والسياسي والفكري اذن، لولا تلك المقدمات ولولا اشاعة تلك الاجواء والتقاليد الجديدة، لكانت مهمة التعامل مع الوضع الناشئ بعد الغزو والاحتلال وسقوط النظام الدكتاتوري، لكانت صعبة جدا. ولحدثت تصدعات غير قليلة في الحزب.

لكن ما الذي يفسر ان الحزب رغم ما جرى: غزو واحتلال مارستهما قوات امبريالية اجنبية ووضع جديد تمخض عن الاحتلال وما يسمى بـ (سلطة الحاكم المدني) ان يتعامل الحزب، رغم ذلك، بتلك الروح العالية من المسؤولية، مع الحفاظ على وحدة الحزب وتماسك الكادر الحزبي يكمن السر؟
اذا صحت التسمية، إن سياسة الحزب ونهجه الواقعي في التعامل مع الاحداث التي لعبت دوراً اساسياً في التنبه الى عدم تغليب المسلمات الجامدة وضرورة عدم الابتعاد عن الواقعية ومستلزماتها، يضاف الى ذلك تفعيل العقل الجماعي والجهد المشترك والمتابعة الدقيقة للاحداث، كل ذلك ساعدنا على اتخاذ الموقف الصحيح من الواقع المعقد الجديد.

نحن لا نشعر بعقدة ذنب بسبب موقفنا من الاحداث المستجدة

لقد اردنا، وقدمنا الكثير من اجل خلاص العراق من الدكتاتورية؛ كنا نتوقع ان تورط العراق، ولقد ورطته في العديد من الحروب، وما نستطيع عمله قمنا به ليس لدينا شعور بالتقصير السياسي.
كنا صريحين وواضحين مع قوى المعارضة واغلبها وطني بصرف النظر عما تكون قد ارتكبته، هنا وهناك من اخطاء، او ما بدر من بعضها احيانا من تصرفات يائسة، كان موقفنا واضحاً باننا لا نعول على العامل الخارجي، على الغزو.
رَدّ البعض باننا كقوة وطنية معارضة، لا نستطيع وحدنا اسقاط النظام، فأجبنا: لنصبر ونعزز ونحشد قوانا، فنحن حين كنا نقول بضرورة تفعيل العامل الداخلي لم نكن نتنكر لفعل العامل الخارجي. لكن تلك السنوات كانت قد شهدت دورا اكبر للعامل الخارجي في تقرير مصائر العديد من البلدان.
كنا نردد: نعم! نحن نريد دعم العامل الخارجي، لكن ليس التدخل الخارجي في شؤوننا. ليس الانابة عنا، ليس عن طريق الحرب والغزو والاحتلال، وانما بتقديم الدعم الشرعي الذي يقره ميثاق الامم المتحدة.
كانت هناك وسائل وطرق يمكن بها دعم المعارضة. ذلك ان التدخل الخارجي لن يسفر سوى عن مآسٍ. سنتخلص من الدكتاتورية، لكن ستنتج عنه تداعيات وافرازات ستعيق بناء الدولة الديمقراطية. وهذا ما حدث ويحدث الآن، بالفعل.
لم نقل هذا الكلام الآن، بل هو مُسَطرّ في وثائق رسمية منشورة في وثائق وقرارات اللجنة المركزية للحزب. على هذا الاساس لم نشارك في مؤتمر المعارضة في لندن ولا في صلاح الدين في كردستان بعد ذلك.
كانت حجتنا في اتخاذ هذا الموقف معروفة، رغم اننا كنا طرفا اساسيا في كل التحالفات الديمقراطية.
لم يكن هذا يعني اننا قطعنا علاقاتنا الثنائية مع القوى الوطنية والديمقراطية العراقية. لكننا اختلفنا على طريقة التغيير، لكننا لم نستطع، ولم يكن بامكاننا ايقاف الغزو، ليس نحن فقط، بل الأطراف الاخرى التي دعوناها للتدخل لايقاف مسلسل التصعيد والانزلاق المدروس المعَدَّ له للحرب. حتى الامم المتحدة. لم تتدخل لايقاف هذا السيناريو الرهيب.
وهكذا تجمع حلف عسكري - سياسي لاجتياح العراق، وسقط النظام. ليس فقط، بفعل تآمر الغرب،كما يدعي البعض، وانما ايضا، بفعل سفالاته وحماقاته وعدائه للشعب ولدول الجوار، وبعد ان قدم المبررات والذرائع، للذين كانوا يخططون للغزو والتدخل والعدوان. وبفعل عزلته عن الشعب وجماهيره، الذي تنوعت وتعددت على مر السنين مقاومته ونضاله ضد الديكتاتورية.
بعد ان سقط النظام، واصبح ما جرى امرا واقعا وهو محزن ومؤسف، بكل المقاييس، ولم نستطع منعه، كان علينا التعامل مع الواقع الجديد.
طرحنا، في هذا الوضع المعقد، حلا للمشكلة الوطنية التي نجمت عن الغزو والاحتلال وما الذي يجب عمله لاخراج العراق وانقاذه من الورطة التي وضعنا فيها الدكتاتور ونظامه والتدخل والاحتلال العسكريين. دعونا الى انعقاد مؤتمر وطني تنبثق عنه حكومة وطنية. لكن يبدو انه لا القوى العراقية التي استسهلت واستمرأت التدخل الخارجي، ابدت استعدادا للتوجه الى تحقيق هذه الدعوة بروح عملية مسؤولة وجادة، ولا الامريكان كانوا مستعدين للانتظار حتى تطبخ الأمور على نار هادئة. فأصدروا بيانا يكرس الاحتلال واعلنوا تنصيب حاكم مدني.
لم يكن لدينا، ومنذ اليوم الاول، للحظة واحدة وهم حول طبيعة ما حصل. وقد اصدرنا بيانا بذلك، يشرح رؤيتنا للوضع المستجد. لكن كيف ينبغي التعامل معه؟ فمن جهة هناك قوات اجنبية احتلت العراق، من جهة اخرى هناك بقايا وفلول النظام تسعى لاستعادة "امجاد" نظامها وسطوته، وامتشقت السلاح، وبعضها من تعاون واستعان بقوى الارهاب، وهي، أي قوى الارهاب، كانت قد تغلغلت في العراق قبل السقوط، ولدينا بهذا الصدد معطيات ومعلومات مؤكدة كثيرة، فكيف، اذن، يمكن مواجهة الواقع الجديد آخذين في الاعتبار ان شعبنا انهكته الحروب وما نجم عنها من خراب ودمار، ولم يكن مستعدا لخوض حرب جديدة. ونحن لسنا حديثي عهد بالكفاح المسلح، فلقد كنا خرجنا توا من تجربة كفاح مسلح ضد الدكتاتورية دامت عشر سنوات.
لم يكن أمامنا ألا اعتماد نهج جديد هو تجميع القوى الوطنية وتعبئتها وتحشيد جماهير الشعب لخلق ظروف جديدة ومستلزمات جديدة لاخراج الاجنبي المحتل وقواته من العراق، واقامة نظام ديمقراطي، تعددي، برلماني في دولة اتحادية مستقلة.
على هذا الاساس اعتمدنا المنابر المتاحة ومن بينها مجلس الحكم. وهو يختلف عن اللجنة الاستشارية التي وردت في قرار مجلس الأمن الذي شرعن الاحتلال. وهو محصلة لصراع مع الحاكم المدني وسلطة الاحتلال وما تمثله، ولاعطاء كلمة اقوى واوضح للعراقيين في تقرير شؤون البلد. ولذلك لم يعش مجلس الحكم طويلا. اذ تقاطع– وتؤكد ذلك المعطيات التاريخية الصادقة- مع نهج الحاكم المدني (بريمر) الذي قرر بالتالي حل مجلس الحكم، تخلصاً منه، ومما يطرحه من افكار ومقترحات وسياسات شكلت عقبة اما اهداف ومخططات المحتلين.
ارتكب بعض اعضاء مجلس الحكم اخطاء. استسهلوا واستمرأوا نهج المحاصصة الطائفية وزرعها، ابتداء من مجلس الحكم ولجوء بعض القوى الى تكوين ميليشيات. فالمحاصصة ليست بضاعة مستوردة دخلت مع الامريكان كما يحلو للبعض الذي يبسط الامور، القول؛ بل هي بضاعة انتجها بعض الساسة العراقيين تلقفها واستساغها المحتل، باعتبارها النهج "الافضل"! لادارته شؤون البلد، بعد الاحتلال مباشرة، وفي قابل الأيام، تضمن تفكيك القوى الوطنية الى مكونات وحصص والى طوائف ومذاهب. ذلك ان من يريد ان يتدخل في الشأن العراقي من المحتلين الاميركان وغيرهم، غير حريص على وحدة العراق وقواه الوطنية، ولهذا هم دفعوا باتجاه نشر وترسيخ هذا الوباء الجديد، شرط ان لا يتفجر فيخرب كل شيء. ولسان حالهم يقول: اهلا بالمحاصصة لكن ضمن ضوابط! وهذا ما حصل لاحقاً.
اما ونحن نناقش فكرة المشاركة في مجلس الحكم من عدمها، رأينا ان وجودنا فيه هو عنصر ايجابي مؤثر على عمل المجلس والقوى الوطنية المشاركة فيه لتصليب الموقف من اجل استعادة العراق لاستقلاله وسيادته، وضمان حق العراقيين في بناء مؤسسات ديمقراطية، صحيح ان صوتنا كان ضعيفا، لكنه (أي مجلس الحكم) كان منبرا من منابر النضال حاولنا الاستفادة منه وافترضناه مكملا ومتصلا مع اشكال النشاط الأخرى التي مارسناها في الشارع، في الاعلام وفي العلاقات الوطنية. هكذا فهمنا فكرة المشاركة في مجلس الحكم وطرحنا ملامح سياستنا الجديدة على كادرنا الحزبي، واستفتيناه في ذلك، فكان هناك اجماع او ما يشبه الاجماع على مشاركة الحزب في مجلس الحكم.
بناء على ذلك اعتمدنا خطنا السياسي في التعامل مع هذه المتناقضات، احتلال، عمل مسلح اتخذ طابعا ارهابيا ومرتدا. رغم وجود عناصر وفعاليات وطنية داخله، لكنها لم تعتمد الاسلوب الصحيح، لان امتشاق السلاح في ذلك الوقت كان خطأً مؤذيا.

كنا نمارس المقاومة السلمية للاحتلال

ولم نكن ننطلق من موقف رفض مقاومة المحتل، ذلك ان نهجنا السياسي كان بمعنى ما، مقاومة سلمية سياسية في ظروف عصيبة معقدة.
كان علينا وسط كل هذه المصاعب والمتناقضات، ان نتخذ القرار المناسب، وان نعمل في ذلك الوقت من اجل ان تستعيد القوى الوطنية، ومن بينها الحزب، قوتها وعافيتها، وللتوصل الى موقف موحد من الاحتلال وافرازاته.
وهذه العملية ما زالت مستمرة.
واضح ان الموقف كان، وما يزال، معقدا بل شديد التعقيد وما يزال كذلك.
الآن ونحن في صراع واضح، علني من اجل اصلاح العملية السياسية وتقويمها ومراجعة مسارها للتخلص من عثراتها،وبشكل خاص المشكلات الشائنة والممارسات الخاطئة، فاننا ندرك طبيعة الصراع، أي صراع المصالح بين الفئات المتنافسة على الحكم، على السلطة والثروة.
وبينما نرى ما ترسخ من نهج، من منظومة، بل من وباء سميناه المحاصصة الاثنية الطائفية، وبينما نسعى لترسيخ الديمقراطية وحماية ما تحقق للشعب، حتى القليل من المؤسسات الديمقراطية. ونحن نواجه نهج المحاصصة الطائفية- الاثنية السائدة لدى القوى المتنفذة سواء من كان منها في الحكم او خارجه، يسعى اليه، نواجهه بالنقد. بالفعل المباشر، المظاهرات والاعتصامات بالاتصالات واللقاءات والمذكرات.
اقول ونحن ننتقد سلوك الحاكمين؛ مصالح ومنهجا ونمط تفكير لا ديمقراطي، لا ننسى انه بموازاة ذلك، وبينما نصارع من اجل التغيير والاصلاح، ونحن نمارس ذلك، نظل يقظين، مفتوحي العيون، على من يريد بالعملية السياسية الديمقراطية الشر والسوء، وقد تزايد نشاطهم وامكاناتهم، من دولة العراق الاسلامية، القاعدة، داعج! وداعش والميليشيات والمظاهر المسلحة الأخرى التي تأتي منسجمة مع رغبة من يريد تخريب العراق وبنائه الديمقراطي.
اذن، ونحن نخوض الصراع من اجل تقدم العملية السياسية ومقاومة الارتداد عنها، لا نستطيع ان نغفل ان هناك صراعا اخطر، من نوع آخر، مع قوى تريد الارتداد بالعراق الى القرون الوسطى،وان لم يستطيعوا، فالى عهود الدكتاتورية والانظمة الاستبدادية، وقد تكاثر وتزايد نشاطهم، وتشكل تحالف بين الارهابيين التكفيريين الذين يرفعون شعارات اسلامية، دينية وبين فلول وبقايا النظام الدكتاتوري السابق.
انهم يريدون اسقاط العملية السياسية والانتقام من كل ما ناضل الشعب العراقي لتحقيقه من ديمقراطية ومؤسسات، وتعايش ورفاه.
هذا هو التعقيد الذي نواجهه؛ تركة ثقيلة موروثة من النظام السابق لم تجر معالجتها معالجة مناسبة وفي الوقت المناسب، افرازات الاحتلال، خراب ودمار في مؤسسات الدولة، ارهاب منفلت، فساد مستشرٍ، شلل اقتصادي، نمط تفكير سيئ، علاقات متشنجة متوترة بين القوى ذات المصلحة في الحفاظ على العملية السياسية.
رغم كل هذه الاجواء السلبية، فاننا نصارع ونسعى لاصلاح الوضع ولتغييره، بتجميع قوى الخير، ومناشدة كل الشرفاء بان يعوا حقيقة ما آلت اليه الأمور، ان يبتعدوا عن ضيق الافق والتزمت والعناد والمصالح الانانية الضيقة؛ ان يتحلوا بالواقعية والمرونة وينفتحوا على عقد مؤتمر وطني.
هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى نحن لا نغفل عن ان في العراق قوى غُيبت وجرى تجاهلها وتهميشها عن عمد، الا وهي قوى التيار الديمقراطي، القوى الديمقراطية على تعددها واتساعها.
نحن نسعى الى تجميعها، وهي التي تشعر بالمسؤولية الوطنية في اعادة بناء العراق وتقويم مسيرته ومراجعة احداث الماضي، خلال هذه السنوات الاحدى عشرة التي اجتزناها، ولتوحيد هذه القوى في جبهة بدايتها تحالف انتخابي، لتكوين قوة ضاغطة تستطيع، بتفاعلها مع جماهيرها ومع المزاج الشعبي، وبتعاونها مع القوى السليمة في التكتلات والتحالفات الأخرى، تستطيع احداث انعطاف سياسي في الانتخابات القادمة، رغم اننا كنا، وما نزال نعتقد، انه كان من الافضل اجراء انتخابات مبكرة لانقاذ الشعب وحمايته، واقتصادا في الوقت بدلا من هدر الزمن لصالح ممارسات عبثية وشلل شامل وفوضى ضاربة اطنابها في كل مفاصل الدولة.
ان شعبنا لم يكن يستحق كل هذا، ولم يكن يتوقع هذا من بعض السياسيين الذين حملوا له الوعود والشعارات والبرامج البراقة، ولم يكن يتوقع ان تكون حصيلة السنوات الاحدى عشرة الماضية منذ 2003، هذه الحصيلة البائسة المشتدة.

الصراع بين عوامل التفتيت وعوامل التوحيد

تطرق الحوار الى الازمة الراهنة؛ طبيعتها، عمقها، مداها، وبشكل خاص على وحدة العراق. ودور التيار الديمقراطي اضافة الى مهامه الجوهرية الأخرى، في استعادة وحدة العراق وتعزيزها على اساس المواطنة والديمقراطية. وتساءل المحاور اذا لم تكن حركة عوامل التفتيت، بدءا من سياسة النظام الدكتاتوري الساقط، مرورا بالاحتلال، الى نهج المحاصصة واستشراء الصراع بين القوى المتنفذة الخ، ان حركة كل هذه العوامل هي اسرع من حركة عوامل التوحيد، وبالتالي ما يمكن ان ينجم عن هذه الأزمة الشاملة من مخاطر على كل صعيد.

فكيف يمكن مواجهة ومعالجة هذا الوضع؟
ابو داود: لقد اشرت في حديثي الى طبيعة الازمة الراهنة، شمولها، عمقها، امتداداتها الخ.. لكني من الجهة الأخرى لم اغفل ما تنطوي عليه من تعقيد.
لا يمكن اختزال الوضع الراهن بان هناك جبهة مقابل جبهة. صحيح ان هناك جبهة، متعنتة، متزمتة متشبثة بما جنته من مكاسب ومغانم وارباح، تقف في مواجهة جبهة التغيير.
لكن الجبهتين مهددتان بجبهة ثالثة، اشد خطراً، يضاف الى ذلك تدخلات خارجية متعددة ومتناقضة غريبة وغير مألوفة وما يكسب القضية العراقية خصوصية اكبر، وما يجعل الصراع الداخلي بتوافق بين الايحاء الخارجي وبين الانانية الحزبية الضيقة، يجعل هذا الصراع يبدو وكأنه صراع طائفي، هنا تتخذ الممارسات الطائفية المتعصبة شكل السعي لتوظيف مشاعر الطائفة بالمظلومية لما كان هناك من تمييز طائفي، كأداة سياسية للسيطرة على قناعات الناس وكسب تأييد المواطنين لمثل هذا النوع من الممارسات لتوظيفه لصالح مشروع سياسي ليست له علاقة بالخلفيات الدينية- التاريخية.
تداخل هذا الوضع وتفاعل مع مواقف سياسية معادية لعودة الاستقرار والانتعاش الاقتصادي- السياسي- الثقافي في العراق، من قبل الدول المحيطة بالعراق، بسبب الشرور التي ارتكبها نظام صدام حسين حول جيراننا الى اعداء، بصرف النظر عن المنطلقات والنوايا، فلكل حسابه.
يبدو وكأن المقصود ان لا يكون هذا البلد مستقرا يعيش حالة من الدعة والانتاج وكل ما يوفره الوضع الطبيعي من فرص. ففي حساباتهم انه اذا استعاد عافيته سيكون ذا تأثير كبير في المنطقة والقرارات المتعلقة بها، وتزداد قدراته على تصدير النفط، بما يُغِلُّهُ ذلك من ثروات يمكن، مع قدر من الاستقرار وحسن التدبير، ان توظف بما يزيد من قوة العراق ودوره.
لكل من هؤلاء حساباته، وثأره مع العراق يريد ان يصفيه، وهكذا انهالوا علينا بالسكاكين من كل جانب. مع ان بعض هؤلاء وقف مع النظام الدكتاتوري وشجعه على مغامراته الحمقاء ضد شعبه وضد جيرانه.
انا لا اروج هنا لنظرية المؤامرة، انما استند الى وقائع ملموسة، تفعل فعلها المؤذي حين تكون الوحدة الوطنية مفقودة، ويسهل عليها مهمتها حين نجد العراقيين مشتتين متناحرين متنافسين، يستقوي كل منهم، من اجل ان يزداد تاثيره في المعادلات الداخلية، بالقوى الخارجية.
هكذا كانت تزداد القضية العراقية تعقيداً، ولا يغيب عن البال دور المحتل، فهو ليس في وارد صناعة وحدة وطنية حقيقية، لان ذلك يتناقض مع اهدافه ومخططاته، ومع استراتيجيته بعيدة المدى. وهذا يضيف تعقيدا آخر للمشهد السياسي.
وهكذا، فالصراع الان ليس بين اسود وابيض، بل بين الوان مختلفة، متداخلة. التبسيط هنا مضر ومؤذٍ. يمكن ان يريح السياسي ضيق الافق، فليس اسهل من اختزال الصراع الى الاسود والابيض، ومن ثم الصراخ يسقط الاسود! فليعش الابيض!

رؤية مبسطة

لكن هذه الرؤية المبسطة لا تقدم حلا بل سيكون مصيرها، في احسن الاحوال، النسيان. فمنطق الحياة اعقد واقوى من ان يجري التعامل معها بمثل هذه الطريقة البسيطة السهلة، ذلك ان المشكلة اصعب واعقد بما لا يقاس. والطريق لحلها ليس سهلا بل قد يحتاج الى تكتيكات قد لا تفهم من قبل بعض البعيدين عن معرفة ما يدور في دهاليز السياسة.
ينبغي، اذن، ان نراعي كل ذلك فأنت اذ تسعى الى الاصلاح "والتغيير" ينبغي ان تتفحص امكانيات الآخرين: أي عناصر قوة هذا الطرف وعناصر ضعف ذلك الطرف؛ مجموعهم مقابل التهديد الدائم بالعودة بالعراق، الى الأزمنة السحيقة او الى الدكتاتورية في احسن الاحوال.
العراق كمصطلح، كمفهوم كموطن معرض للانهيار، فأي حذلقة هذه التي تتحدث عن مشاريع وتراكيب فكرية قبل ان تجد لها الاساس والارضية التي تبنى عليها هذه المشاريع الفكرية.
ينبغي قبل كل شيء، ان يعود للبلد سلامه وامنه، أن نسعى لبناء وضع طبيعي للمواطنين المكتوين بنار التفجيرات والمفخخات والاغتيالات والقتل فضلا عن الحرمانات الأخرى من ضرورات الحياة اليومية.
ينبغي ان يؤخذ كل هذا في الاعتبار، وهذا يتطلب ان يحرص المرء على الاستفادة من كل فرصة، مهما كانت صغيرة، لتوظيفها في المشروع التغييري.
وينبغي، ايضا، عدم اهمال ان عددا ولو غير كثير من السياسيين، تورط (في تبني او تأييد سياسات خاطئة ثبت خطأها، بل خطرها) وبالامكان، عبر الضغط والحزم والحراك الشعبي ونقد الخطأ وتقديم الحلول المناسبة، يمكن لكل ذلك ان يدفعهم للاقتراب من معسكر الاصلاح والتغيير، والتعاون معه.
لا يمكن للسياسي الواقعي، ان يهمل هذه القوى، ذلك ان كل الكتل فيها عوامل قوة ايجابية جيدة، من عناصر وشخصيات ومناضلين، يشكون مما يجري، لكنهم مغلوب على امرهم.
ينبغي، اذن، تكوين اجواء ومناخات تدفع هذه القوى لتفهم خطورة ما يواجهه العراق.
يكفي ان نعاين ما يجري داخل العديد من التحالفات والكتل لندرك ان ثمة انشقاقات وانقسامات حقيقية، لها اساس واقعي وليست مجرد تكتيكات ومناورات.
مع اخذ كل هذه العوامل في الاعتبار، فان رهاننا الاساسي يظل على شعبنا الذي بدأ يتلمس ان الاستعجال وخرق المراحل والقفز على الواقع لن تنجم عنه الا المغامرة وشر النتائج.
كلنا يتمنى ان تنتهي هذه الأزمة اليوم قبل الغد، لكن هل تجري العمليات بهذه الطريقة؛ بالتمنيات؟
نحن نكرس كل جهدنا ونستنزف كل طاقاتنا ونسعى لتعظيم امكانياتنا من اجل استنهاض قوى شعبنا وتطوير معارفه بما يجري. وقد حصل تغيير لا يستهان به، الى مستويات من التغيير، فالمزاج الشعبي هو ضد نهج المحاصصة الطائفية، وحتى بعض من روج لها واستفاد منها اخذ يتبرأ منها، ولكن بعض ابناء شعبنا يخدع احيانا، بمناورات واساليب تعمل على ابطاء وتيرة تطور وعيه.
ونراهن ايضا، على القوى الديمقراطية التي بدأ بعضها يدرك خلل وخطأ التشرذم.
عندما يتجمع، الآن، اكثر من عشرين عنواناً، ويمكن لهذا التجمع ان يستقطب الكثير من الاوساط التي كانت بعيدة عن المساهمة في النشاط في الفترات السابقة، ان هذا التحول هو دليل على ان الجهد الذي بذل من اجل تجميع قوى التيار الديمقراطي وتفعيل دورها في حياة البلاد، بدأ يثمر..
لكن هل سيحدث الانعطاف الجذري غدا؟
كلا! لكننا على الطريق الصحيح.
هذه هي مجموعة مستويات ودوائر التحرك النضالي لتعظيم عناصر التغيير السليم، الديمقراطي لاعادة مسار العراق الى الوضع الطبيعي ودحر قوى الردة والارهاب والتكفير، قوى التطرف والتزمت، وسفك الدماء، وعصابات الجريمة المنظمة.

هنا تكمن الصعوبة والتعقيد في الوضع العراقي.

مع كل التقدير للمنجزات التي تحققت، وصعوبات وتعقيد الوضع، الا يمكن ملاحظة ان ايقاع قوى التفتيت هو اسرع من ايقاع التوحيد، ألا يشكل ذلك خطرا داهما؟
ابو داود: لايمكن اغفال التطورات التي تمر بها المنطقة والعالم، رغم ان ملامحها لم تتبلور بعد بشكل واضح، وبانحياز واضح لهذه الجهة او تلك، ولابد ان نأخذ هذه الظروف بالحسبان.
فاندفاع الادارة الامريكية للتفرد لفرض نهج واستراتيجيات معادية لمصالح الشعوب، هذه الاندفاعة التي جرت في ظل انفراد القطب الواحد، بدأت تفقد زخمها وينعكس ذلك ويترجم على شكل ازمة شاملة، عامة، مالية واقتصادية، على صعيد البلدان الرأسمالية المتقدمة، ويضاف الى ذلك تأثيرات هذه التطورات عل كل دول المنطقة، بضمنها ما ساعدت على توفيره من فضاءات نمو وانتعاش حركات "الربيع العربي" التي هي بالأساس، رد فعل طبيعي على الظلم والاستبداد والدكتاتورية، وليس كما يجهد البعض لتشويهها، رغم ان بعضا من الذين ساهموا فيها يريدون توظيف الحراك الشعبي لمصالحهم الفئوية الضيقة او لاحتوائها.
ان كل هذه التطورات وما تركته على الساحة الاقليمية من نتائج على العلاقات الغربية- الايرانية؛ الموقف من سوريا، ايقاف اندفاعة اسرائيل للقيام بعمل عسكري ضد ايران، يضاف الى ذلك كبح اندفاعة الاتراك للتدخل في الشؤون الاقليمية، توتر العلاقات السعودية/ القطرية، كل ذلك يجب ان يتابع بدقة وان يستثمر بحكمة لمصلحة تهدئة الاوضاع في العراق واعادة ترتيب اوضاع البلد وتحقيق الامن والاستقرار، ومن ثم اعادة الزخم الى المسيرة الديمقراطية.
كل هذه التطورات ينبغي ان تكون ماثلة امامنا، وسيكون علينا كقوى ديمقراطية ان نفعّل نشاطا فكريا مكثفا وسياسيا ضاغطا على كل الاطراف المتنفذة في السلطة لكي تتخلى، تدريجياً، عن عار الارتماء باحضان الدول الاقليمية واجهزتها المخابراتية وتنفيذ مخططاتها التي تتعارض مع استقلال القرار الوطني العراقي، وتحفيز هذه الاطراف على اعتماد الحل الوطني، الداخلي، بدلا من البقاء تحت هيمنة تلك المشاريع والنوايا التي لا تضمر وداً للشعب العراقي.
ولا يمكن ان نغفل تأثير هذه التطورات على الصعد الاقليمية والدولية وانعكاساتها على الاوضاع في بلادنا، وتفرض علينا المسؤولية الوطنية أخذ ذلك في الاعتبار والتعامل معه، بدقة وانتباه وحذر، كي لا تفلت فرصة مفيدة لمشروعنا الوطني الديمقراطي وتذهب سدى.

فرص الحراك الشعبي

هل يعتقد ابو داود ان التطور في الحراك والوعي الشعبي وصل الى المستوى الذي يمكنه من احداث تطور نوعي بامكانه ان يوقف التدهور الحالي، وانقاذ العملية السياسية باصلاحها ودفعها في طريق التطور الديمقراطي؟
ابو داود: ليس بعد. لكن يجب التمييز بين الاتجاهات والمستويات المتعددة لتطور الوعي والحراك الشعبيين.
هناك تذمر شعبي عام ومظاهره واشكال تجليه كثيرة، اذ حتى الذين يؤيدون القوى المتنفذة ويصوتون لها، ينتقدون سلوك وسياسات هذه القوى وفساد العديد من رموزها. اخذ النقد يطاول كل اوجه سياسات القوى المتنفذة؛ الحرمان من ضرورات الحياة الاساسية، الماء النقي، الكهرباء، الصرف الصحي، البطالة، انتهاك حقوق المواطنين في التجمع والتظاهر الخ...
هذا التذمر، لم يتحول بعد، رغم كثرة ملفاته وتنوع مطالبه واشكال التعبير عن هذا التذمر، لم يتحول، بعد الى احتجاج ملموس. اذن، لابد من تطوير هذا التذمر وتحويله الى تحرك من اجل مطالب ملموسة، منظمة، قطاعية وعامة، تتعلق بهذا الميدان او ذاك. وتحقيق هذا التحول في وعي الناس وفي حراكهم، يتطلب وقتا وجهدا من قبل القوى المنظَّمة.
الى جانب هذا الحراك الاولي، هناك حراك ارقى متبلور في تحركات مطلبية، فتحرك يشكو من غياب الخدمات البلدية، وآخر يشكو من تدهور الخدمات الصحية، وذلك عامل او مجموعة من العمال تحتج على الحرمان من الحقوق، وثمة قطاع من الموظفين يشكو الغبن او التمييز في الترفيع على اساس الوساطة الخ..
هناك العشرات من اشكال تجلي الحركات المطلبية تشمل العراق من اقصاه الى اقصاه، هذه روافد يبنى عليها. فبعضها يتمكن من تحقيق مطالبه، وبعض آخر يبقى معلقاً.
هذا مستوى من الحراك يحتاج الى تكثيف وديمومة وتطوير، ويحتاج ايضا الى توثيق الروابط بين الحركات المطلبية المختلفة في تيار واحد، كيما لا يبقى كل تحرك، معزولاً، منفرداً على حدة. ويمكن ملاحظة ان هناك توجهات ومبادرات سليمة تنهض بها بعض المنظمات النقابية، لتحويل هذه الحركات المعزولة، المنفصلة عن بعضها البعض، الى حركات ذات طابع وطني، ارقى.
انا هنا لا اتطرق الى مقولات نظرية، بل الى وقائع ملموسة تعج بها الصحافة العراقية، ومن هو على اطلاع وتتبع لمستويات وتنوّع الحراك الشعبي.
هناك لون آخر ذو طابع وطني تمخضت عنه نشاطات ومظاهرات واعتصامات على امتداد البلاد، في مناسبات مختلفة، يحتج فيها المشاركون على ظاهرة ذات طابع "وطني" بمعنى تتخذ طابعا شاملا وعاما، كالاحتجاج على تفشي الفساد، وذلك في مناسبات متنوعة، المطالبة بالغاء امتيازات الدرجات الخاصة ومن اجل تقاعد عادل، من دون تمييز مفرط وهدر لثروات الشعب، ومن أجل العدالة الاجتماعية. انخرطت في هذه الموجات الاحتجاجية المتتالية مجاميع كبيرة.
ومن المؤسف ان السلطات الحاكمة لم تتعامل مع اشكال التحرك هذه التي كفلها الدستور، من موقع احترام الديمقراطية والقانون، بل بالزجر والحرمان من الاجازة وتسليط قوى القمع التي استخدمت كل وسائل القهر من الضرب والاعتقال والتحقيق التعسفي.
وهي، أي السلطات الحاكمة، حاولت الالتفاف على المطالب واحتواء الشعارات باتباع سياسة الترغيب والترهيب، التضييق والتظاهر بالقبول.
الشيوعيون العراقيون في صراع من اجل ترسيخ مفاهيم الكفاح الجماهيري الاقتصادي والسياسي، والاكثر اهمية، الفكري. التي حرمت الجماهير من ممارستها عقوداً وتحتاج للتعود على ممارستها باعتبارها حقاً مشروعاً كفله الدستور.
باعتقادنا في الحزب، ان تضافر كل هذه الاشكال، يمكن وأؤكد على كلمة يمكن، اذا ما رعيناه، وحسنّا اداءنا الذاتي، ان يضع حدا للمظاهر السلبية في الحياة السياسية، وفي ادارة دفة الحكم، ويفتح كوة، او كوى للاصلاح والتغيير.
نحن في الحزب الشيوعي نعتبر انفسنا جزءاً من هذا الحراك الجماهيري، لا نسعى لان نفرض وصايتنا عليه، ولا لفرض ارادتنا على غيرنا، فما دامت المطالب عامة تشمل الجميع فنحن حريصون على ضمان مساهمة كل المتضررين والانخراط في هذا النشاط.

نحن بحاجة لتطوير تحالفاتنا

اننا، بذلك، نتصدى لمن يريدون اعطاء هذه التحركات سمة "الحزبية الضيقة" وكلنا سمع كيف ان المسؤولين سعوا الى عزل هذا الحراك الشعبي الاحتجاجي المتسع والتضييق عليه، بتصويره وكأنه يجري بتدبير من حزب معين، بل انهم سعوا الى اقامة حواجز كونكريتية لمنع الناس من الالتحام بالاحتجاج المنظم.
نحن بحاجة لتطوير تحالفاتنا، وخصوصاً مع تلك المنظمات والشخصيات والمبادرات الجماهيرية التي تستهدف تطوير الكفاح الجماهيري، وهو بالمناسبة، حق دستوري، وليس منة من أحد، ولا يحق للاجهزة التضييق عليه، وينبغي اللجوء الى الدستور والقوانين التي تكفل الحريات، من اجل وقف تجاوزات وانتهاكات الاجهزة ومنعها من التطاول على الحراك الجماهيري.
فما دمنا نعيش في دولة يحكمها دستور يضمن حق الاحتجاج والتظاهر والاعتصام والضغط من اجل تعديل المسارات والسياسات الخاطئة، فيجب ان لا نتوانى عن ادانة الممارسات القسرية القمعية التي تمارسها السلطات، بأي شكل من الاشكال، سواء اتخذت شكل اجراءات قضائية مبتسرة، غير دقيقة وغير سليمة، او عبر التضييق على اجازة التظاهرات، او عبر الهجمات البوليسية والأمنية على المتظاهرين.
هذا هو الوضع، على صعيد الحراك الشعبي، ونحن جزء من هذا الحراك. نريده ان يتطور ويمتد، لكن لا يمكن ان نتجاهل الاستعداد الفعلي للناس، ذلك ان أي تقدم لا يمكن ان يتم بقوانا وحدها، بدون الناس.
لكن هذا لا يعني اننا لا ينبغي ان نحسن اداءنا، ونسعى الى تطوير امكانياتنا وتوفير متابعة أفضل واقتناص فرص اكثر، وبموازاة ذلك تحفيز الآخرين واحترام ارادتهم بالمساهمة الاكثر فاعلية في الحراك الشعبي.
سيظل الحراك الشعبي احد المنابر الرئيسة لنشاطنا وسنفعل كل ما نستطيع لتطوير هذا الحراك الى مستوى حركة جماهيرية فاعلة.

الحراك الشعبي والانتخابات

هل يعتقد ابو داود ان الحراك الشعبي الجاري يمكن ان ينعكس على نتائج الانتخابات القادمة بما يدفع عملية التغيير والاصلاح؟
ابو داود: الاستقراء المنطقي، العقلي يشير الى ان ما نشهده من تصاعد موجة الاحتجاج سينعكس في وعي الناس وفي موقفهم من اجل اختيار من هو الافضل. لكن لا يفوتني ان اؤكد ان هذه المحصلة ليست ميكانيكية، بل هي في طبيعتها عملية صراع معقد حول كسب الرأي العام حتى ذلك الوقت (الانتخابات).
"المعنيون" الذين يخافون التغيير، ويريدون الحفاظ على ماهو قائم، سيفعلون كل في ما في طاقتهم، وقد بدأوا مبكرا، كي لا تتطور الحركة الاحتجاجية الى النهايات التي نتمناها لها ونعمل من اجل ان تصل اليها، وهي تغيير الوضع الراهن عبر الانتخابات.
وهكذا تنشط محاولات تأجيج المشاعر الطائفية على قدم وساق، ودور هذا العامل على مشاعر الناس خطير، يمكن ان يثمر تزمتاً وتطرفا لدى الناخب لهذه الجهة او تلك، ويمكن ان يسفر عن عزوف العديد من الناس عن المشاركة في الانتخابات بسبب القلق والجزع، مما قد يسفر عنه توتير الاجواء.
يضاف الى ذلك ما نشهده من تأجيج للمشاعر القومية، فمع اقتراب موعد الانتخابات برزت مشاكل العلاقة بين المركز والاقليم مثل النفط والغاز والمناطق المتنازع عليها، وهذه وتلك الخ.. ويمثل امام العيان المشهد البشع، والمرعب لما يجري في طوزخرماتو؛ انفجارات متوالية تكاد تكون يومية، على مناطق بذاتها.
بدلا من ان يجلس المعنيون لمناقشة أي السبل أجدى لحماية أمن المواطنين نراهم قد انهمكوا، وبشكل مخزٍ، في الصراع حول تابعية طوزخرماتو! هل ترتبط ببغداد، أم بصلاح الدين، أو تُضم الى كركوك (مما ينطبق عليه المثل: "عرب – او كرد- وين.. وطنبورة وين؟!).
ان ما يجري في طوزخرماتو وغيرها ليس بعيداً عن السعي لتأجيج المشاعر القومية لاغراض انتخابية.
وتندرج في هذا الاطار قضية الميزانية: كأننا نعيد الكرة كل سنة! حصة اقليم كردستان! النفط وعقوده في كردستان! والبشمركة ورواتبهم. ويتسابق الخطباء هنا وهناك في تأجيج كل ما هو متخلف، حساس ومؤذٍ لخلق خنادق جديدة.
ولا يمكن اغفال ما يجري امام اعيننا، وفي التصريحات والمؤتمرات الصحفية ومن على شاشة التلفاز وعلى صفحات الصحف، من عمليات تسقيط متبادل تستفز الحس السليم ولا تقف عند حد، واشغال الناس في دوامة لا قرار لها، يراد بها ايصال الناس الى الاستنتاج انه "مافيش حد احسن من حد" كما يقال، فالكل غارق في الفساد، ومن العبث تغيير ما هو قائم عملا بالمثل الآخر: "الشين اللي تعرفه الخ..".
محاولات شراء الذمم تنشط بحمية بالغة، وبينما تجري محاولات تشكيل هذا الائتلاف او ذاك، يشتد الرهان على هذا المرشح او ذاك ويرتفع المزاد! للانخراط في هذه الكتلة او ذلك الائتلاف.
وفي هذا السياق تُبذل من دون حساب الوعود والتطمينات وهي لا تختلف، من حيث الجوهر، عن الرشوة المبطنة واعادة ترتيب الاوراق تحسبا لما افرزه القانون الجديد للانتخابات، لكي يبتلعوا اصوات القوى الجديدة التي تظهر بقوة مع هذا التصاعد في الاحتجاج على الساحة السياسية، وعود تحفزها الرغبة القوية في المحافظة على المواقع القديمة.
وليس بمعزل عن كل هذا ما يجري تحت قبة البرلمان، وينعكس في التباطؤ والتجاهل - بل والتقصد- في عدم اقرار قانون الاحزاب وذلك لكي تبقى ايديهم طليقة في توظيف المال السياسي لتخريب الذمم.
استخدام امكانات الدولة، مثال على ذلك عملية توزيع الاراضي التي لم تفلح في حل أزمة السكن بدلا من اعتماد مشروع متكامل يعتمد الامتداد العمودي (العمارات) بدلا من التوزيع الافقي الذي سيبتلع الارض الزراعية ويضيف اعباء جديدة على قطاع الخدمات الذي يعاني في الوضع الراهن من التعثر.
وميزانية الدولة، بما تتضمنه من ارقام فلكية، قادرة على توفير مئات العمارات والشقق بما يكفل من حل او على الاقل التخفيف من أزمة السكن الملحة.
ويمكن اضافة ما لا يحصى من الوسائل للتاثير على رأي الناخب.
نحن نخوض الصراع في ظل هذه الاجواء، في اجواء معركة مفتوحة مع الارهاب، ومع ذلك فاننا متفائلون، فهناك اوساط واسعة انتقلت فعلا من موقع التذمر العفوي الى موقع اختيار الافضل.
بشكل عام لا استطيع القول سوى اننا متفائلون.. وان امرا ما سيحصل في هذه الانتخابات لصالح قوى الديمقراطية والمدنية والاعتدال والرغبة في التغيير والاصلاح.

ما هي الكلمة الأخيرة التي يريد ابو داود توجيهها لرفيقاته ورفاقه وللناس في الذكرى الثمانين لتأسيس الحزب؟
ابو داود: لنعمل! فالسعادة في العمل، بكل معانيه، بتنوعه وبضمنها النضال، لنعمل من اجل سعادة شعبنا!
من أجل انقاذه من المأزق، من المحنة من الأزمة التي نعيشها!

لنضع بلدنا على الطريق القويم، بتجنيبه كل العثرات والمطبات!

من أجل ترسيخ نظام ديمقراطي حقيقي، اتحادي، تعددي وبرلمان مستقل وذي سيادة!

لنسعى مع كل الخيرين لاطلاق عملية البناء الاقتصادي والاعمار والتخلص من الشلل الواضح في عملية التنمية!

لنؤسس مع كل القوى الديمقراطية الوطنية الشريفة، نظاماً متوازناً، متطوراً لتحقيق العدالة الاجتماعية! فمن حق شعبنا، وهو يملك كل ما لديه من ثروات وامكانيات بشرية وتاريخ عريق وكفاءات، من حقه ان يعيش بطمأنينة ودعة اسوة بكل شعوب بلدان العالم!

اجل، هذا هو واجب الشيوعيين، ومغزى نضالهم ومن اجل تحقيق كل هذا، لنقوِّ ونعزز بناء الحزب، دور الحزب، مساهمة الحزب في النضال الجماهيري وفي النضال الوطني: من أجل وطن حر وشعب سعيد!