اعمدة طريق الشعب

الذكر الطيب.. للبطاقة التموينية !/ عبد السادة البصري

في ستينيات القرن الماضي ، كنت أشاهد أبي كل شهر وبعد استلامه الراتب يذهب الى محل بيع المواد الغذائية ــ كان لكل عائلة في ذلك الوقت دكان خاص تتعامل معه، وكان الرجل الذي نتسوق منه ( الراشن) كل شهر هو جاسم محمد جوهر. و(الراشن) هو احتياجات البيت من المواد الغذائية بكل أنواعها.
أذكر انه كان أكثر من مرة يأخذني معه وتحديداً في السبعينات لأساعده في جلب ( الراشن) من دكان (ابن جوهر). لم نشعر وقتها بالحاجة لشيء لأن الحصة التي يشتريها أبي تكون كاملة جداً ، وإذا نقصت مادة ما نذهب لدكان عميلنا ( ابن جوهر) ونشتريها.. بالدين طبعاً ، لأن الحساب يكون بعد استلام الراتب وشراء الحصة .
مرت الستينات والسبعينات على هذا النحو، وجاءت الثمانينات بحربها التي لا معنى لها سوى نزيف الدم والخراب الذي عم مدينتي ومدناً أخرى ونزوحنا القسري بعيداً عن بيتنا الأول.
وجاءت التسعينات بحصارها المفروض تآمراً من قبل النظام الفاشي المقبور ومَن ادعوا حصاره، بل كان حصاراً على الشعب المسكين المأخوذ بالنار والحديد. فجاءت البطاقة التموينية التي أنقذت بعض العوائل من غيلة الجوع والعوز للمادة الغذائية التي رغم شحتها وقلتها آنذاك، سدت بعض النقص الحاصل في احتياجات البيوت. رغم ما لها وما عليها ، كانت العوائل تنتظرها بفارغ الصبر، وكان هناك مَن يبيع حصته من السكر لقاء حليب لأطفاله ، وآخر يبيع الشاي لقاء علاج مرض مزمن وهكذا دواليك!
وحينما سقط النظام الفاشي الى غير رجعة استبشر الناس خيراً ، وانتشرت أخبار حول البطاقة التموينية وما ستحتويه من مواد وصلت الى أكثر من ( 41 مادة غذائية) بضمنها السجائر والمشروبات وغيرها، ما أشاع الفرح والسعادة بين الناس وتنفسوا الصعداء لاعنين أيام الحصار والأمراض التي أكلت الأخضر واليابس وأذبلت وروداً وعصافير .
لكن الفرحة لم تكتمل إذ ظهرت كلها مجرد شائعات ليس إلا، وبدأت مواد الحصة التموينية بالتناقص شيئاً فشيئاً وأخذت العوائل تتذمر مرة أخرى نتيجة هذا النقص !!
في شهر نستلم من الحصة الطحين فقط وفي آخر الرز والزيت وفي ثالث السكر دون بقية المواد إضافة إلى استقطاع مبلغ على كل فرد يستلمه الوكيل ، والأدهى من كل شيء ما نسمعه عن فساد هذا المسؤول وجلبه مواد منتهية الصلاحية ، وسرقة ذاك المسؤول لمبالغ الحصة التموينية بصفقات مشبوهة وهربه خارج البلاد ، ما بدد الفرح وأصاب الناس بالقنوط .
ومازال الوضع لحد هذه اللحظة على حاله ،وكأننا نصبنا مأتماً للبطاقة التموينية ومفرداتها التي انتقلت كأرصدة في بنوك أوربية أو خليجية مرددين ( الذكر الطيب) لها ومتناسين أنها الركن الرابع للمستمسكات الرسمية التي لن تفارقنا كما يبدو حتى آخر العمر!