اعمدة طريق الشعب

"أبو خابصها" / مرتضى عبد الحميد

من الشخصيات الطريفة العالقة في الذاكرة، مذ كنا صغاراً، رجل طيب أسمه «مهدي المخبوص» كان يتدحرج في مشيته، ولا يعرف طوله من عرضه، وعندما يقبل للجلوس في المقهى مع أصدقائه، كانت المداعبات والتعليقات تتطاير من أفواههم (إجه أبو خابصها). وقصته كما توحي بها التسمية، انه يضخم أي عمل يقوم به مهما كان صغيراً أو تافهاً، وينفخ فيه، كما لو أن حياة الآخرين متوقفة عليه، وفي أحيان أخرى كان يخلط الأوراق ولا ينجز عملا حتى لو كان صغيراً لينتقل إلى غيره، وهو مطمئن إلى أنه شاغل الناس، وموضوع أحاديثهم عندما يشح الكلام.
من يرى الخارطة السياسية في عراقنا المنكوب بعين ثاقبة، ويتمعن في مواقف القوى والأحزاب السياسية، خاصة المتنفذة منها، سيجد أن نكبتنا لا تقتصر على اللصوص والنهابين والجهلة، وإنما هناك أيضاً من يسعى إلى إعطاء انطباع لدى عامة الشعب، بأنه يعمل على إصلاح الأوضاع المأساوية في العراق، والعودة بها إلى سكة البشر الأسوياء، دون أن ينسى الصعوبات الجمة والتعقيدات الهائلة، وتآمر الممسكين بلجام السلطة.
لكن الحصيلة العملية لهؤلاء القادة والمسؤولين، تكاد لا تخرج عن الدائرة التي كان يتحرك فيها «أبو خابصها»، فتراهم لا يكملون عملاً بدؤوا به، بل ينتقلون إلى ثانِ وثالث إلى آخر السلسلة، أملاً في جعل الوطن يعيش في دوامة التصريحات والتصريحات المضادة، بحيث لا يستطيع أن يعرف رأسه من رجليه. والسبب على ما يبدو أن ما يتفوهون به، لا يتعدى حدود شفاههم، والقصد « الشريف» من ورائها هو الاستهلاك المحلي، والخداع ليس إلا، فضلاً عن الخلل البنيوي في طريقة تفكيرهم، وافتقارهم إلى القدرة على حسم الأمور التي يتصدون لها، اللهم إلا في ما يخص جيوبهم، وشراء الذمم والمريدين، لإعادة انتخابهم وتأبيد بقائهم في قمة هرم السلطة وامتيازاتها.
لم يتحقق إلا النزر اليسير جداً مما تطالب به الجماهير المليونية في تظاهراتها واعتصاماتها منذ تموز الفائت ولحد ألان، ولم نسمع غير الوعود والجمل الجاهزة والمزوقة، بأن الأيام القريبة القادمة ستشهد انجازات ومكاسب هي والأعجوبة تؤمان، سواء على صعيد الخدمات، أو محاربة الفساد وحيتانه، أو القضاء على الإرهاب و الإرهابيين، وبناء الاقتصاد الوطني العراقي، وتشكيل حكومة كفاءات مستقلة، وتشريع القوانين المعطلة في مجلس النواب...الخ، من القائمة الخيالية المعلنة. لكن النتيجة هي قبض ريح لا أكثر، بل حتى اجتماعات مجلس الوزراء باتت رمزية، ولا تستكمل إلا بأسلوب الوكالة المبتكر!
أما برلماننا الموقر، فانقسم إلى ثلاث مجاميع لا يطيق أحدها النظر في وجه الأخر، وكانت آخر نكتة سمجه أطلقها المجلس هي تمديد الفصل التشريعي. وبعد يومين فقط لا غير، اتخذ قرار مغايرا تماما، يعلن فيه بدء العطلة التشريعية لأعضائه في وقت ينزف أبناء شعبنا وقواتنا الباسلة في الفلوجة، وفي بقية مناطق العراق، دماء غالية وغزيرة، دفاعا عن حياض الوطن ومصالح الشعب.
متى نتخلص من آباء الخبصة هؤلاء وأتباعهم؟ القول الفصل سيكون لجماهير شعبنا المستمرة في حراكها الجماهيري السلمي، المدني، فهي القادرة حقا على الإتيان بمن يقرن الأقوال بالأفعال، لا من يكتفي بترديد الأقوال والوعود المعسولة.