اعمدة طريق الشعب

النقد مهم لحماية الاحتجاج / جاسم الحلفي

أتذكر موقفا مهما لمثقفينا عندما انطلقت تظاهرات 25 شباط عام 2011. فعندما استشعروا خطر استخدام العنف من قبل السلطة والمحتجين عليها، تحملوا المسوؤلية التي ينبغي للمثقف تحملها في اللحظات الاستثنائية، ونجحوا في ذلك ابتداءً من الفكرة حتى ادق تفاصيل تنفيذها. ذلك انهم اتخذوا مكانا لهم بين المتظاهرين والقوات الأمنية، سعيا الى منع احتكاك الطرفين، واتشحوا بقماش ابيض طويل فيه فتحات اخرجوا منها رؤوسهم. وكانوا يريدون بذلك التعبير عن رسالة مهمة، هي الحفاظ على سلمية التظاهرة.
بطبيعة الحال كان المثقفون جزءا من التظاهرة، ولم يكونوا محايدين في موقفهم، بل وقفوا بشجاعة ضد المحاصصة والفساد والإرهاب، هذا الثلاثي الذي أوهن البلد، وما زلنا نعانيه ونتظاهر من اجل الخلاص من تداعياته.
ما زلنا نحتاج الى هذا الموقف، ليس بشكله وانما بخلفيته الفكرية والأخلاقية والقيمية، التي انطلق مثقفو بغداد منها آنذاك. واجزم أننا اليوم احوج إلى هذا الفعل، قولا وممارسة وسلوكا، سيما بعد ان أدارت السلطات ظهرها لمطالب المتظاهرين، المتمثلة في إصلاح النظام السياسي ومحاربة الفساد وتوفير الخدمات، بما يحقق الأمن والسلام والعيش الكريم.
هناك مخاوف من استخدام العنف، وقد استخدم فعلا للأسف الشديد، بل ان المحاولات مستمرة لجر التظاهرات مرة اخرى الى منطقة العنف ومنطقه. ولا يمكن نسيان استخدام الغازات المسيلة للدموع، والقنابل الصوتية، والرصاص الحي، والرصاص المطاطي، وسقوط شهداء وجرحى بسبب ذلك. وبات واضحا ان السلطة بعد ان عجزت عن الاستجابة الى مطالب المتظاهرين، لم يبق لها غير تشويه حركة الاحتجاج واستخدام العنف ضدها.
ومن جانب آخر شهدنا حرف مسار الاحتجاجات عن هدفها الأساسي وهو السلطات المسؤولة، نحو القيام بهجمات غير مبررة وغير مقبولة على مقار أحزاب السلطة من جانب بعض متظاهرين، دفعهم الى ذلك اليأس والإحباط من تجاهل مطالبهم، حتى انهم لم يجدوا في التظاهر السلمي وسيلة كافية لاسماع اصواتهم. وهذا يمكن ان يهدد السلم المجتمعي، ويخلق جوا من الفوضى والانفلات. لذا كان الرفض والإدانة والاستهجان موقف السلميين، الذين يحرصون على سلامة الممتلكات العامة والخاصة وعدم سفك الدم العراقي.
والامر الخطر هو إقامة المؤتمرات العشائرية في أعقاب ذلك، حيث قررت واحدة منها هدر دم المتظاهر الذي يهاجم مقرات الأحزاب، في سابقة خطرة تبعدنا اكثر عن حكم القانون، وتشكل مؤشرا غير سار على انفلات الوضع اكثر واكثر. للأسف لم نسمع صوتا يطلق ادانة لذلك او استهجانا او رفضا.
لذا ومن اجل الحفاظ على وجهة حركة الاحتجاج وسلميتها بات مطلوبا من المثقفين ان يتخذوا الموقف المناسب، انطلاقا من دفاعهم عن تلبية المطالب واهمية تنفيذها، وهي الأساس لاندلاع التظاهرات واستمرارها. كذلك تأمين الحق في التعبير وعدم مصادرته لأي سبب كان، فهو حق دفع الشعب العراقي ثمنا له باهضا.
من السهل جدا ونحن نرى محاولات دفع حركة الاحتجاج نحو استخدام العنف والعنف المقابل، ان نقوم بإصدار بيان نعلن فيه رفضنا لذلك، ثم نجلس في بيوتنا بعيدا عن التفاعلات التي قد تدفع الى العنف المقابل. فيما المسؤولية تقتضي منا تأدية واجبنا بكل ما نملك من قدرة من داخل الحدث، وان نتفاعل معه بنشاط وحيوية، ونتحمل المخاطر، لكي نحافظ على الأسلوب السلمي الذي رسخناه منذ بداية انطلاق التظاهرات، وخضنا حوله ولأجله نقاشا طويلا، وتحملنا بسببه الأذى الكثير.
ان مكان المثقف الصحيح قائم داخل حركة الاحتجاج وفي إطارها، وهدفه تحفيز القوات الأمنية على ممارسة دورها في حماية التظاهرات وتأمين حماية مؤسسات الدولة في نفس الوقت. كما يمارس المثقف دوره في إشاعة ثقافة سلمية التظاهر، وهذا يكمن ليس في الكتابة وحدها، وهي مطلوبة حقا بل وضرورية، أنما كذلك في تواجده بين المتظاهرين، وحثهم على السلمية وتبيان محاسنها، باعتبارها منهجا وحيدا وليست خيارا من خيارات الاحتجاج.
ان حركة الاحتجاج ليست ملك احد، وهي بحاجة إلى الرصد والمتابعة والنقد والتقويم بشكل دائم، ولا يوجد نشاط سياسي او اجتماعي خارج هذا النقد. وعديدون هم المثقفون والمفكرون العراقيون، الذين يقدمون على نقد الحركة باستمرار بهدف تقويمها وتقويتها وادامة نشاطها الصحيح لتحديد وتوضيح مطالبها، ورسم أهدافها، وترصين خطابها، وتحسين أدائها، وهذا كله في غاية الأهمية.
من جهة أخرى يمكن تفهم موقف المثقف الذي يقف بعيدا عن حركة الاحتجاج، ربما بسبب التباسات المواقف وتشابك الأوضاع وتعقدها، او تجنبا لمخاطر غير مستعد لها، او لعدم تحمله ضغوط السلطة والمتنفذين الذين يحاربون الناس في أرزاقهم. كل هذا مفهوم ومقبول، لكن من غير المقبول ممارسة النقد على طريقة البعض - بصيغة التهكم والتخوين وإلصاق التهم بمن رأوا ان واجبهم يفرض عليهم البقاء في ساحات التظاهر، مرددين المطالب العامة مع جموع الفقراء المحتجين على البؤس والظلم والضياع، وجاهدين للحفاظ على سلمية التظاهر، ومعرضين حياتهم للمخاطر وانفسهم للتشويه. لا بل ان هذا موقف اقل ما يقل فيه انه خنوع للفساد واستئساد على المحتجين المتفانين.