اعمدة طريق الشعب

العروض المسائية! / طه رشيد

اعتاد الناس أماكن اللهو والنوادي ودور عرض السينما والمسارح، ليلا. وهذا ما كانت تفعله بغداد في القرن المنصرم. ولكن بعد انهيار دولة البعث وانتشار عصابات الجريمة، التى اطلق سراحها صدام قبل سقوطه، تحولت بغداد إلى كابوس . وكلنا يتذكر كيف بدأت تلك الفئة الضالة بقضم نهار بغداد لتنشر الرعب والخوف، حتى راح الباب الشرقي والسعدون يغلقان أبوابهما بعيد منتصف النهار.
وما ان حوربت تلك العصابات، حتى لاحت بوادر الحرب الطائفية التي قادتها قوى وتيارات جاءت من زوايا مظلمة في اشد مفاصل تأريخنا جهلا وتخلفا، واستطاعت ان تطبق على نهارات بغداد. فانزوى ابو نؤاس مع حدائقه، وانحسرت دجلة، ولم تعد شطآنها ساحة للمحبة، وتحولت المسارح إلى مخازن وأغلقت صالات السينما وانتشرت الرايات والاغتيالات والصبات والسيطرات في كل مفترق!
ولأن المدن لا تموت فإن بغداد حاولت إعادة الدم النقي إلى دورة نهاراتها. فانتشرت الاصبوحات الثقافية والفنية بمختلف الأنشطة، ندوات، معارض تشكيلية، عروض سينمائية ومسرحية، المقاهي، الشوارع الثقافية مثل المتنبي ( الذي ما زال حتى الان لا يستقبل رواده إلا في النهار). لكن طعم الأنشطة في الليالي له مذاق آخر! أذكر في احدى الاصبوحات الفنية في اتحاد الادباء وكانت مكرسة لتكريم الفنان الراحل عبد الجبار الدراجي، طلب منه أن يغني فاعتذر قائلا « آسف جدا.. لا استطيع أن أغني في الساعة العاشرة صباحا!»
ولأن المدن لا تموت فإن بغداد سرعان ما استردت عافيتها، وخاصة في العشرية الثانية من هذا القرن، وراحت رويدا رويدا تزحف نحو الليل لتطيل من عمر النهار. وكان للفنان الواعي والمثقف العضوي دور كبير في هذا المضمار، وانطلق المسرح الوطني يستقبل رواده ليلا لمشاهدة مسرحية او فلم او الاستماع إلى معزوفة موسيقية.. الفرقة السيمفونية العراقية والفرقة الوطنية للتمثيل والمسرح الشعبي ( ما يسمى خطأ بالتجاري) يقدمون نشاطاتهم ليلا. وراحت بقية النوادي الاجتماعية والثقافية تحذو حذو المسرح الوطني حتى استعاد ليل بغداد ألقه.. وها هي بغداد، العصية على الموت، تنتفض مجددا في الشوارع وفي الساحات رافضة كل من يحاول أن ينال من حريتها الشخصية!
إنها بغداد الرشيد وأبو نؤاس والزعيم ومصطفى جواد وهادي العلوي وابراهيم جلال ويوسف العاني وعمو بابا.. بغداد كل الناس الطيبين، بغداد المقامات.. وستبقى قامتها منتصبة وليلها زاهيا بالفن والثقافة والمحبة.