اعمدة طريق الشعب

الشهداء يسكنون القمر..!/ عبد السادة البصري

في منتصف ستينيات القرن الماضي وحينما كان عمري لا يتجاوز أربع سنوات كنت أشاهد أبي في مثل هذه الأيام يجلس وسط ( الحوش) كل ليلة، يرنو للقمر طويلاً ويسرح بعيداً حيث تترقرق الدموع في عينيه ويظل ساهماً فترة ثم يمسحها ويهزّ رأسه مترحماً لا أعرف على مَن ساعتها !!
مرّت سنة وأخرى وهو على هذه الحالة كلما جاء شباط ، وما أن بدأت أعي الأمور جيداً ولأبدد حيرتي واستغرابي ما يفعله، سألت أمي فأجابتني :ــ انه يبكي رجالاً يسكنون القمر !!
اندهشت من جوابها وازدادت حيرتي كثيراً لأعيد سؤالي : ومَن هؤلاء الذين يسكنون القمر؟!
أجابتني بتنهيدة وحسرة: في مثل هذه الأيام سنة 1949 أقدمت السلطة الفاسدة المرتبطة بالأجنبي على إعدام رجال آمنوا بحب الوطن والناس. ومثلها في عام 1963 هجم الأشرار على رجال كانوا يحبون الناس ويسعون لإسعادهم من خلال تفانيهم في خدمة الشعب والوطن بنزاهة وإخلاص وأمانة لا مثيل لها. إذ استطاع الرجل الذي كان يترأسهم وفي مدة قصيرة من حكمه أن يبني المدارس والمصانع والمستشفيات والشوارع والبيوت ويزيد رواتب العمال والموظفين ويلغي الإقطاع. فازدهرت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية وبات الناس فرحين تشّع السعادة من عيونهم وتعلو الابتسامة وجوههم . لكن الأشرار وأصحاب القلوب السوداء لا يتركون الناس بسعادتهم وحريتهم فغدروا بالطيبين وأشاعوا الخراب والرعب وسفك الدماء بانقلابهم الأسود في شباط 1963ليعيثوا فسادا وقتلا في طول البلاد وعرضها ، ويجرجروا الشباب والرجال والنساء إلى المعتقلات والسجون وينفذوا الإعدامات. فخيّمت غيمة سوداء على سماء الوطن ، وصار الناس يترقبون القمر كل عام لظنهم إن الزعيم وكل الشهداء يسكنونه، لأنهم أقمار خير ومحبة وسعادة أشرقت ذات يوم على الوطن ولا بد أن يكون مكانهم القمر !!
ومنذ تلك اللحظة عرفت لغز حيرة أبي وبكائه صمتاً وهو يرنو للقمر في مثل هذه الأيام ، فبقيت أشاركه الحزن والالم كلّ آهةٍ ونأمةٍ تصدر عنه لأحفظها وأنقشها على صفحة ذاكرتي !!
مرت السنون ورحل أبي مع القمر ذات صباح لتلحقه أمي أيضاً ، وبقيت تلك الذكريات تداعب مخيلتي ، فصرت أرنو للقمر وأتخيل وجوهاً باسمةً وعيوناً تشعّ سعادة تنظر لي بين تضاريسه !!
انقشعت الغيمة السوداء قبل أعوام واستبشر الناس خيراً بزوال الطاغية وهلّت الفرحة، لكنّها لم تدم إذ عمَّ الفساد والخراب والمحسوبية والطائفية وسفك الدم، وصرنا في بحرٍ تتلاطم أمواجه لترمي بنا على جزرٍ مليئة بالوحوش والعفاريت. لم ينقطع الدم عن الجريان على إسفلت الشوارع وبين الأزقة والبيوت والأسواق وكأننا قد كُتِبَ علينا أن نظلّ على سفرٍ دائم الى القمر كل يوم !!
وقبل يومين وأثناء مطالبة الناس بحقهم في العيش والحرية وزوال الفساد ومحاسبة الفاسدين واللصوص والقتلة ، وهو حقٌّ كفله الدستور وكل الشرائع السماوية والأرضية تمَّ إطلاق الرصاص عليهم ليسقط عدد من الشهداء أيضاً !!
لهذا نظلّ نرنو للقمر ونناجي الأرواح التي تسكنه قائلين لهم : إن الوطن لم يهدأ منذ تلك الأيام ولحد هذه اللحظة. فمتى سيكفّ الفاسدون الأشرار عن قتلنا وسرقة الوطن يا ترى؟!