اعمدة طريق الشعب

الربيع غريباً في الموصل / قيس قاسم العجرش

لا شيء يضاهي في ذاكرتي عن الموصل ذلك العام التسعيني الذي أمضيت ربيعه فيها. بعد ذلك زرتها مرّات عدّة لكن طعم ذلك الربيع فيها صار مثل مسمار قديم أخذ مكانه على الجدار قرب باب عتيقة، يشرخ يدي كلّما فتحت الباب مستعجلاً.
بعد ذلك زرت الموصل مراراً، الى غاية عام 2006، وهي آخر عهدي بها.
كان ربيع الموصل مترعا بنكهة شفيفة وباردة تنسم الهواء الرطب فينساب الى الرئتين بطراوة غير معهودة. وعلى الطريق باتجاه الغابات، دعاني أحد الأصدقاء أن نمضي النهار عند قريب له هناك. تصوّرت للوهلة الأولى أن قريبه هذا من الأغنياء إذ يحتفظ على شاطئ دجلة بمساحة تخصّه وحده، ولها باب مفرد.
وإذ نزلنا منحدر جرف النهر، كنّا عند بيت صغير وجميل يجلس الى كتف الماء. وهناك حوض نصبت عليه «خنزيرة» ترفع الماء للبستان المجاور، كانت الرائحة التي تصدر عن النباتات لا تقاوم، شيء يشبه مقطوعة موسيقية جميلة.
وهناك اكشفت أيضاً أن قريب صديقي، ليس أكثر من مُجنّد عسكري يخدم خدمته الإلزامية في الموصل، وفرّغه قائد وحدته العسكرية كي يعمل فلاحاً في هذا البيت، بيت الضابط الكبير الذي يتحاشى الموجودون آنذاك ذكر اسمه. رأيت الجندي(الذي كان بارعاً أيضاً كبستاني)، وقد اعتلت إمارات الراحة وجهه، وتمتم أمامي كثيراً بجمل الحمد والثناء لأجل وضعه المستريح. وحين سألته: أين الضابط الكبير الذي حجز هذه الجنّة له؟. قال إنه نادراً ما يأتي الى هنا أكثر من مرّة في الاسبوع، وبالأمس كان موجوداً فنتوقع ألّا يأتي ، ليس أقل من ستة ايام تالية.
ثم دعانا الى المبيت في تلك الحديقة الطروب. كانت تضم مربّعاً من العشب الأخضر المحاط من ثلاث جهات بأوراد الجوري والقرنفل والنرجس الأبيض. ثم ان هذا كله يطل على ساحل دجلة بمنطقة تم فرشها بالحصى. وتحجب أشجار الحور والاسفنديار والكالبتوس كل المكان عن الشارع العام وعن ضفة النهر.
الحصى مازال موجوداً، وكذلك النهر والماء. كل ما تحتاجه الموصل الآن هو كمية من الحب والدفء تكفي لنسيان شتاءات الظلام التي مرّت عليها. هل يمكن بهذه التجربة أن تنجح وتنقذ باقي انحاء العراق من المحاصصة والغطرسة، والفساد؟.
نعم يمكن. لأن الشباب الذين سقطوا من اجل تحريرها لم يضحوا كي يأتي مسؤول ما ويحتل جزءاً من الضفة مخيماً لمتعته.
المفروض الّا يتكرر مشهد التسعينات، او مشهد حزيران 2014. يجب الّا يتكرر.