اعمدة طريق الشعب

ها محِمَدْ.. صاير برجوازي!؟ / بشار قفطان

المرحوم والدي كان يملك ( دكان ) محل صغير لبيع المواد الغذائية و المنزلية كالشاي والسكر والرز والتبغ وغيرها من المستلزمات في سوق مدينة الحي الكبير، وكانت بضاعته رائجة على الفلاحين من مختلف الانتماءات العشائرية.
ولم يكن الحديث عن تلك الانتماءات مؤثرا الى درجة اثارة المشكلات كما نعيشه اليوم، وحتى ان مشاكل الفصل العشائري لم تكن بهذا الحجم من الانتشار والآثار التي تتركها.
علاقات البيع والتعامل مع الفلاحين كانت وقتذاك وخصوصا في العهد الملكي، تكون عبر الشراء بالدّين الى حين جني المنتج الزراعي واستلام الحصص المتعاقد عليها من مالك الارض او (الاقطاعي) فتسديد الديْن من قبل الفلاحين يتم سنويا بعد انتهاء الموسم الزراعي الشتوي او الصيفي. وفي احيان كثيرة كان منتج الحاصل لا يفي بالغرض المطلوب للعيش، بسبب بعض المؤثرات الجوية على المحصول، مثل كثرة هطول الامطار او شدة الرياح وغيرها من المؤثرات التي تتلف المزروعات، فكان يؤجل تسديد الديون إلى الموسم السنوي التالي، واحيانا يجري اتفاق مع الفلاحين بتسديد الدين المذكور بالمقايضة، مقابل النقد المترتب على المدين بالحنطة والشعير وتسمى تلك الحالة بـ (على الاخضر). وبهذه الطريقة اعتاد الفلاحون الحصول على احتياجاتهم من المواد المنزلية والغذائية.
ولا ننكر ان بعض الفلاحين من خلال تواصلهم مع المدينة، تأثروا بالافكار التقدمية، وخصوصا بمبادئ وافكار الحزب الشيوعي العراقي، والبعض منهم انتمى ونشط في صفوف الحزب.
ومن دون مباهاة، كان لشقيقي المرحوم عزيز الذي يتواجد في المحل اثناء غياب الوالد معظم ساعات النهار، دور في التواصل مع الزبائن من الفلاحين وتنشيط وعيهم الوطني والسياسي.
بعد انتصار ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة عام 1958 تغيرت احوال الفلاحين، وذلك لتشريع قانون الاصلاح الزراعي ، وتوزيع الاراضي عليهم وتحريرهم من هيمنة ملاكي الاراضي والاقطاعيين ، وصاروا اصحاب القرار في زراعة اراضيهم. ورغم الحرية التي حصلوا عليها في تأسيس جمعياتهم الفلاحية وادارتها بأنفسهم، بقيت علاقات الشراء والتبضع عندهم كما هي في السابق بسبب قلة السيولة النقدية بعد انتهاء الموسم الزراعي. وكان عندنا زبون اسمه (حشيش) من الفلاحين الجيدين وهو متنور فكريا، وفي احد الايام كانت قائمة تبضعه تحوي مبلغا غير مسبوق، فتردد والدي في تجهيزه وقال له: (انطيني نص ثمنها على الاقل) .. هنا ضحك حشيش ضحكة طويلة، وقال: ها محمد.. مع الاسف عليك صاير برجوازي!؟).
فرد عليه الوالد قائلا: (حتى انت عرفت البرجوازية!).