اعمدة طريق الشعب

اخلاق شيوعي / كامل حلاوي

قيل ان رجلا من الخوارج كان هاربا من بطش بني امية، فضاقت به السبل حتى التجأ في النهاية الى بيت اعرابي. وكان هذا الاعرابي على سفر، فاودع الضيف عند زوجته واوصاها به خيرا. فلما عاد بعد شهر سأل زوجته: كيف كان الضيف؟ فقالت له مجيبة: كان اعمى طول الشهر.
قرأت هذه الحكاية في كتاب فتذكرت شيوعيا فذا من مدينتي الحلة، ومن محلتي الطاق في عكد الحمام المعروف، وقد ترعرع وتربى على المثل العليا والاخلاق الحميدة. وذات يوم ضاقت به السبل ايضا، ولم يجد في الحلة مكانا يخفيه عن اعين مخبري البعث المقبور وازلامه. فشد الرحال مضطرا، وتنفيذا لقرار من الحزب، الى بغداد وبالتحديد الى بيت رفيقه وصديقه الراحل الدكتور حكمت حكيم. وكان الدكتور حكمت من عائلة مسيحية من سهل نينوى، وكانت امه امرأة متزمتة جدا، ودائما ما كانت توصي ابنها بان لا يركن الى مسلم ولا يضعه في جيبه حتى لو كان ليرة ذهب!
هكذا كانت قناعتها وكان ابنها الرفيق حكمت يحترم قناعتها. لذلك قدم الضيف اليها والى عائلته جميعا على انه مسيحي من الموصل اسمه جورج، وانه مطلوب من السلطات. فقبلته الوالدة والكل. وكان جورج من طرفه مثالا للضيف المؤدب الخلوق الامين. فلم يكن "أعمى طول الشهر" فقط مثل صاحبنا الخوارجي، بل وكان اصم وابكم طيلة بقائه متخفيا في بيت رفيقه حكمت حكيم. كان يأكل ويشرب ما يقدم له، ولا يتكلم الا اذا سئل، وكان منكبا على القراءة كما هي عادة الشيوعيون عند الاختفاء او المكوث في السجون .
وحينما انزاحت الغمة، وحانت ساعة الوداع والفراق عن هذه العائلة المسيحية الكريمة، شكرهم على الضيافة، وتأسفوا هم على فراقه، خاصة ام حكمت التي تعلقت بـه باعتباره "جورج" كما اخبرها ابنها، في حين رسخ هو قناعتها بان المسيحي خير من المسلم، وان "عليك الا تضع هذا في جيبك حتى اذا كان ليرة ذهب!".
فلما لاحظ الفقيد حكمت انها تذهب بعيدا في التفاخر بالمسيحي والاستهانة بالمسلم، ضاق ذرعا بها وقال لها بسخريته المعهودة ان جورج ليس جورج ولا حتى مسيحي ، وانه رفيق مسلم وشيعي وسيد ابن رسول الله ومن اهالي الحلة ومن محلة الطاق ..
واسمه فاضل سيد حسن وتوت.