اعمدة طريق الشعب

ثقافة النصب والاحتيال / د. علي إبراهيم

لامني أحد الأصدقاء الأعزاء على تسمية ما هو رديء من الظواهر الاجتماعية بالثقافة، لأنه في ذهنه الثقافة هي كما وردت في القواميس، أو كما يراها أنها مرتبطة ارتباطا جدليا بالأدب والفلسفة وبالعلوم والمعارف الأخرى. لكن الثقافة ترتبط أيضا بالمجتمعات وتقاليدها وعاداتها وطبيعة اعتقاداتها الدينية والمجتمعية، وما تنتجه تلك المجتمعات من ظواهر رديئة أو راقية. وبنظري وليس بعيدا عن المفهوم الفلسفي أن الحالات المتكررة في مجتمعات معينة عندما تكون سائدة ومتسعة في المجتمع، وتمارس يوميا، تصبح ظواهر تدل على ثقافة المجتمع المرتبطة به، لذا يتداول عالميا مصطلح (ثقافة الشعوب) ويقال: (ثقافتنا تختلف عن ثقافتكم) ويقصدون في نمط التفكير والقبول بما يخالف أفكار الآخر في العلاقات الاجتماعية وفي غيرها، أي ان ما نراه سيئا ومنبوذا قد يراه غيرنا هو الحق كله وما عداه فاسدا متخلفا مضحكا... لكنهم يحترمون خيارنا وعلينا أن نحترم خيارهم.
من هذه المقدمة ننطلق لمعالجة ظواهر سادت وتوسعت كثيرا في مجتمعاتنا. آلمني ما سمعت من جارتي، وهي تتحدث عن أربع شجرات اشتريتهن من مشتل قريب منا، صاحبه يعرفني جيدا، وشجعني على شرائهن منه، ان هذه الشجرات ضعيفات ولا تستحق السعر الذي دفعته. كما أن رملهن "مالح" لأنه لم يؤخذ من رمل الشط. قلت اني طلبت من البائع: أريده رملا يخلو من الملح ويصلح للزراعة. قالت لقد نصب البائع عليك، كما نصب حين لم يعطك أشجارا قوية تزرع في المواسم كلها.
لم أستغرب قولها، وقارنت ذلك بما قاله لي صاحب متجر في هولندا يبيع كاميرات وأجهزة كهربائية، ووجدت رفوفا عنده تحمل أنواع الكاميرات، وعندما سألته قال: هذه كلها جيدة. ولكن إذا لم تكن مستعجلا ستصلنا بعد شهر كاميرات جديدة أفضل بكثير منهن جميعا. وانتظرت فعلا وحصلت على أروع كاميرا في وقتها.
ترى لماذا لم يخدعني هذا البائع ويشجعني على شراء واحدة من بضاعته؟ أليست هذه الثقافة جديرة بالاحترام، وهناك حالات وظواهر كثيرة على غرارها؟
لا أقول أن بلدنا متفرد بثقافة النصب والاحتيال، التي تأثيرها بسيط بين عامة الناس ويمكن علاجها بوسائل تربوية واقتصادية إذا ما توفرت المصداقية، والإخلاص للوطن العزيز. ولكن مصيبتنا أنها وصلت إلى أعلى سلطات الدولة التي منذ التغيير عام 2003 ازدادت فيها ظواهر الفساد الإداري والمالي وشملت كل مفاصل الدولة، ابتداء من التعيينات المدفوعة الثمن إلى المقاولات، إلى العبث وسرقة ميزانية الدولة برمتها. وكأن مال الدولة محللة سرقته كما كان يعتقد جهلة القوم. وتجدد هذا الاعتقاد لدى المفسدين المعاصرين. وقد بدأت بذرة الفساد عندهم من النظام السابق، مستغلين الحروب وانشغال رؤوس الدولة بها، وتناموا وكثروا في هذا الزمن الهجين، تؤيدهم عقول وجيوب فرسان الفساد المتنفذة. مما أدخل البلاد في أزمات كبيرة اقتصادية وأخلاقية يندى لها الجبين.
ومع هذا فان للبيت شعباً عظيماً يحميه.